صحيفة المثقف

أجمل الفصول

جواد عبد الكاظم محسنالخريف هو أجمل الفصول عند الكثيرين، يحبوه وينتظرون قدومه، وينشطون خلاله، ويشعرون بالراحة فيه، ويتمنون دوام أيامه، ولهم عتب على من يظلمه ولا يجد فيه سوى الكآبة واللون الأصفر وسقوط أوراق الأشجار، ويتناسى الجمال الذي ترتديه الطبيعة عند مجيئه، ويقولون عنه هو (سيد الفصول، فيه بعضٌ من صحو الربيع، وبعضٌ من حرّ الصيف، وبعضٌ من برد الشتاء الدافئ، وكذلك هو الوحيد القادر على شحن الذات والروح بشتى أنواع المشاعر والأحاسيس في آن معاً)، وهو أيضاً (فصل زاهر بالألوان الجميلة).

وينقسم الأدب بشأنه، فمنهم من يستعيره بحزن للحديث عن نهاية العمر، ومنهم من يضفي عليه سحراً خاصاً ويستمتع بحلوله، إذ ليس هناك ما هو أجمل من الجلوس قرب النافذة مع كوبٍ من قدح ساخن من الشاي أو القهوة ومراقبة تساقط الأوراق، والتأمل بجمال الكون، والتسبيح لخالقه، فيما تُشعَل النار ليلاً في مواقد السهر مع الأهل والأحبة طلباً للدف، ووصفته كاتبة عربية فقالت إن له (روعة لا تضاهى، فنسمات هوائه عليلة تنعش النفس وتطيب الوجدان)، ونقلت كتب التراث قول العرب قديماً عنه (الخريف ربيع النفس كما أن فصل الربيع ربيع العين، وإنه أصح فصول السنة زماناً، وأسهلها أوانا).

وقد طلب بعض محبي هذا الفصل (النظر إلى الوجه المشرق للخريف فهو يأتي لكي يكون سبباً في تجدد الأشجار في الربيع)، وقد قال أحدهم (كلما رأيت الخريف شاهدت عظمة الخالق في تجديد الروح والحياة)، وذكَّر آخر بصفاته الحسنة فقال إنه (يجمع كل فصول العام فيه، ففيه يتساوى الليل مع النهار، ويتصالح المطر مع أشعة الشمس فيأتيان سوياً، وفيه تجتمع برودة الشتاء دونما قسوة، ودفء الصيف دونما جفاف، وفصل الخريف يأتي بعد الصيف جالباً للخير؛ ففيه أول المطر والنماء، وكأنه نهاية جمال وبداية جمال آخر).

وللشاعر أدونيس رأي يختلف فيه عن أغلب الشعراء، إذ يرى للخريف وجهاً آخر، وهو عنده الفصل الذي يعلمنا أسرار الحياة بينما تمر الفصول الأخرى من دون أن تعرف أحزاننا وهواجسنا، فيقول:

الشّتاءُ يُودّع أشجارَهُ دونَ أن يتذكّر أنّا وضعنا عنده نارنا،

وامتزجْنا بأمطارِهِ

الصّيفُ يَجهل أحزانَنا

والرّبيع أسيرٌ لأزهارِهِ ولأقلامها ...

كَتبت أمسِ مرثيّة

رَدّدتها رياح الخريفِ

الخريفُ يعلّمنا كيف نَحيا

وتغنى به الشاعر البادي الأصفهاني في قصيدة، ومنها:

ولا زلتَ في عيشةٍ كالخريفِ      فإن الخريفَ جميعاً سَحَرْ

صفا الماءُ فيه وطابَ الهوى       يحيلهما نسيمُ ريحٍ عَطِرْ

ومن قصيدة للشاعر العباسي جحظة البرمكي قوله:

ما بالُ أيلولَ يدعوني وأتبعه      إلى الصَّبوح كأني عبدُ أيلولِ

ما ذاك إلاّ لأنّ العيشَ مقتبل      والليلُ ملتحفٌ بالبرد والطولِ

وقد بَدَتْ طَلَّةٌ شجواً تخبّرنا      عن الخريف بقصْفٍ غير مملولِ

ولاح وجهُ سهيلٍ فهو جوهرة    حمراء قد ركبتْ في وسط إكليلِ

وقال الشريف الطوسي:

حلَّ الخريفُ على الأَغصانِ وانتثرت    أوراقُهُ غيرَ ما يبقى على الحِقَبِ

كانتْ غلائلها خُضْراً وقد صُبِغَتْ       بصفرةٍ مثل لونِ الورس والذهبِ

واستطردَ القيظُ إذ ولّت عساكره         واستبردَ الظلُّ فاقدحْ جمرةَ العنبِ

واغنمْ بها العيشَ في تشرينَ منتهزاً      فالقيظُ في رحلةٍ والقرّ في الطلبِ

ومن جميل ما قيل في الخريف قصيدة للشاعر عبدان بن عبد الله الأصفهاني في وصفه وتفضيله على الربيع، ومنها:

راب الربيعُ عيونَ قومٍ أغفلوا     طيبَ الخريفِ وسجسجَ الأَشجارِ

وخلا الربيعُ من النعيم فما لنا     فيه سوى الأرواحِ والأمطارِ

فاسعدْ بتشرينين وانعمْ فيهما         متعوذاً بالله من آذارِ

واشرب على ورديهما مشمولةً     من زعفران طالعٍ وبهارِ

يغنيك عن وردِ الربيع، وعرفُهُ     عن شمِّ عَرْفِ لطيمةِ العطَّارِ

أقول إن لكل فصل جماله، وللخريف جمال كثير، ومن مظاهر جماله عندنا زهرة الداودي بأنواعها المختلفة وألوانها المتعددة التي كانت حدائقنا تزخر وتزهو بها، وكانت تقام لها معرض سنوية خاصة في متنزه الزوراء ببغداد في ثمانينيات القرن الماضي.

 

جواد عبد الكاظم محسن

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم