صحيفة المثقف

هرطقات علمية

صالح الرزوقإلى الصديق قصي الشيخ عسكر

 كان لدي موعد مع الدكتور قصي، وهو شاب أربعيني من البصرة، ولا أعرف لماذا يحمل لقب دكتور. حسب علمي هو لم يحصل البكالوريا. لكن نحن لدينا ولع غريب بالألقاب. منذ أيام حلب أتذكر الدكتور بشير. وهو بقال حاليا، وكان يعمل في السابق بالجزارة، لكن جاره دكتور عيون. ويبدو أن الشهادات عندنا مثل الأمراض المعدية. وباء. جائحة. إن كان جارك طبيبا يجب أن تشاركه بلقبه. أليست هذه نكتة؟؟!!.

عموما اتفقت مع قصي أن نلتقي في ساحة بار الحملات الصليبية. وهو آخر أثر تبقى من تلك الصفحة السوداء من تاريخ القرون الوسطى. لم يعد في نوتنغهام ما يذكر بماضيها. وهي تبدو الآن أشبه بامرأة على شاطئ البحر. حقا لا يوجد هنا شواطئ. وأقرب بحر يبعد عنا بحوالي مائتي كيلو متر. لكنها بحالة استجمام، وبالأخص في الصيف. فأنت تشاهد على ضفاف نهر ترينت مظلات الشواطئ وكراسي حمامات الشمس كأنك في البحر تماما.

وقل نفس الشيء عن القلعة. إذا اشرقت الشمس تصبح أشبه بالشاطئ الأزرق في سوريا. لا ترى أحدا إلا بالمايوه..

بالمناسبة. في القلعة منظار فلكي. وكنت أحب أن أراقب به السماء. وكنت أراها منبسطة مثل المروج. لكن بدل أن تغطيها الأعشاب كانت مفروشة بالسحب. ولم أشاهد دليلا واحدا على أن السماء قبة كروية، أو أنها مزروعة بالكواكب. ونحن في مجرة تدور حول الشمس.

ربما كانت مسألة الدوران هذه خرافة. ألم ينتقد لاكان أستاذه فرويد ويرفضه. لماذا لا يظهر في المستقبل إنسان يفند كل حيل وألغاز أرخميدس وغاليلو وماجيلان؟؟.

كان أمامي مهلة طويلة قبل موعد اللقاء. وهكذا اخترت أن أتسكع في الشوارع. وعندما وصلت إلى مكتبة “بوز أند بوز” وقفت للاطلاع على آخر الإصدارات. ولفت انتباهي رواية “الغريب الصغير” لسارة ووترز، وبجانبها نوفيلا جديدة لماك إيوان بعنوان “على شاطئ شيسلي”. وبعد ذلك طبعة جديدة من “الباب المفتوح” لألان سيليتو. تأملت غلاف هذه الرواية. كانت صورة الغلاف بعكس العنوان. فهي لوحة لباب مصفح ومغلق. أصلا حياة سيليتو محكومة بالتناقضات، فهو من مواليد نوتنغهام.، ولكن عاش فيها أقصر فترة من حياته. وفي البداية عمل في مصنع للدراجات الهوائية، ثم تطوع بالجيش، وسافر إلى المالايو، وهناك أصابته ملاريا إستوائية، واضطر للعودة إلى لندن، وفيها بدأ مشواره مع الكتابة.

دائما أرى في هذه التفاصيل أصداء كثيرة تذكرني بنفسي وبقصي. أنا أيضا أكتب إنما لنفسي. وحتى هذه الساعة لم أنجح بنشر ولو صفحة واحدة. وأوراق قلبي متراكمة في أدراج طاولة البيت. لكن لقصي روايات منشورة، بعضها بأسلوب الخيال العلمي، وبعضها شهادات أوعن سيرة بعض الأصدقاء. وأغلب الظن إنه يروي فيها خفايا حياته لأنه لا يمكن أن تمنع حياة أي كاتب من أن تعيش أو تنتعش ضمن حياة غيره.

تعرفت على قصي لأول مرة في حرب بيروت، حينما كنت أخدم مع قوات الردع، فقد كان هو متطوعا في صفوف الفصائل مع الفلسطينيين. وأعلم أنه شارك بحرب عاليه، وكسب منها الوسام المشؤوم الذي يحمله بالرغم عنه. أقصد مرض الربو. فالمرتفعات في لبنان ثلاجة بقوة الطبيعة. يمكن أن تقول هي براد. هناك لا تجد أي فرق يذكر بين الحجارة والجليد. واضطر بسبب الظروف لنهب الشهداء. وأحيانا لحرق ثيابهم من أجل الاتقاء من البرد. اليوم لا تجالس قصي ساعة إلا ويبلع أمامك ثلاثة أنواع من الحبوب على الأقل. ودائما بينها حبة مغلفة بلونين.. أصفر وأحمر، وتسبب له النعاس، ولذلك هو ممنوع من قيادة السيارة. وليعزي نفسه يقول وهو يضحك: وما الفائدة من السيارة ما دامت الأرض تدور.

شيء عجيب فعلا. دائما أشرد في هذه الحقيقة. ماذا لو ثبت أن الأرض لا تتحرك، وأنها صخرة معلقة في الحفرة الكونية. لا توجد ثوابت مع العلم. العقل يتطور باستمرار. ألم يتبين أن الذرات ليست أصغر جزء من المادة، وأن الإنسان الجليدي غير موجود، وما شاهدناه في الحفريات هو من أثر تحول الغازات.

اقتنيت نسخة من رواية سيليتو، وهي من سلسلة بنغوين. بحجم سلسة “كتابي” المصرية لحلمي مراد والتي تعرفنا من خلالها على ألبرتو مورافيا. بالمناسبة هو برأيي أقرب كاتب لسيليتو. كلاهما مع تعرية الإنسان حتى درجة النميمة والفضائح. لا يستهين أحد بخصوصيات الإنسان مثلهما.

وضعت الرواية في جيب المعطف. لم يكن الجو باردا، إنما أنا لست من النوع المغامر، وليس لي طاقة بالمجازفة. أنت لا تضمن الطقس في هذه البلاد.

فهو مثل مزاج أي حسناء. ساعة معك. وساعات بوجه مقطب الملامح مثل صورة هذا الغلاف.

أخذت نظرة من الساعة. بقي على الموعد خمس دقائق. فأوسعت خطواتي. عموما كان البار ضمن مجال بصري. وها أنا أراه يلوح أمامي بشكله القروسطي الكئيب وببوابته المحفورة بسفوح قلعة نوتنغهام...

 

صالح الرزوق

تشرين الثاني 2020

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم