صحيفة المثقف

العاطفة والوعي العقلاني

علي المرهجلا يُمكن لأحد نكران تأثير العاطفة والوجدان في البشرية، ولكن قد يكون حضور هذين العاملين أحد أسباب ضعف تأثير العقل وحضوره، فكلما غلبت العاطفة فلّ تأثير العقل، وصار الإنسان تابعاً لأهوائه وعواطفه.

هناك من يجد في المشاعر والوجدان والعاطفة سبيلاً لخلاص الإنسانية من كراهيتها وحقدها وصراعها وتنافسها غير البريء، وهي دعوة محمودة في حال مقبوليتها العامة أو (الحس الجمعي) ولكنها تبقى دعوة حالم يأمل بإصلاح الكون لوحده، ولا لوم عليه ولا تثريب، ولكنها تبقى على مستوى الحُلم، وأتفق معه في (أن المثال هو المُتمنى) كما يقول أستاذنا (مدني صالح) ولا انتقد نزوع الآخرين لنشر المحبة، ولكن أية محبة، فهناك عندنا أشكال للمحبة، ومنها المحبة التي هي بمثابة (عشق) للمحبوب الإنسان أو للمحبوب (الله)، وأن تُحب فرداً بعينه، ومشغول أنت (فردياً) بمحبته، فذلك حق ليس بمستطاع أحد الاعتراض عليك، ولكن قد تكون في المحبة لفرد بعينه تعتقد أنه مخلص للجماعة والمجتمع، وليس من حق أحد المساس به، لأنه عندك وفي معتقدك مُقدس، وعندك الاستعداد للتضحية بنفسك وقتل الآخرين المخالفين لك في معتقدك، أو في كرههم لمن تُحب، ولا يجدون ما تجد فيه أنت من قدرة وكفاءة، فهنا يكون مشكل الدعوة للمحبة، لأن هكذا دعوة تحمل في (المسكوت عنه) نزعة اقصائية للآخر (المختلف).

نحتاج أن نصف المحبة التي ندعو لها، فأن تُحب آخرين من جنسك أو من قوميتك أو أثنيتك أو عقيدتك، فهذه ليست المحبة التي يدعو لها فلاسفة الحب وكبار الصوفية، أصحاب فكرة الحب الإلهي.

إذا كان أصل الدعوة للمحبة هي أن تُحب لأخيك ما تُحب لنفسك، ونفسر معنى الأخ هنا على أنه كما قال الإمام علي (ع): الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نضير لك في الخلق"، سنحتاج في هذه الحال لمجتمع فيه من الرخاء المادي والاقتصادي والمساواة الاقتصادية والتقدم الحضاري ما يجعل النفوس الإنسانية أكثر استقراراً وقبولاً للآخر المُختلف، والدليل على هذا أن الإمام علي (ع) لم يفلح بدعوته هذه، وبقي المجتمع أشد صراعاً واحتداماً في زمنه.

ليس المهم أن تدعو الناس للمحبة فذلك أمر يسير، ولكن كيف لك أن تجد أو تكشف السبل الواقعية لتحقيقها في مجتمع مثل مجتمعنا، يعيش أغلب ساسته وقادته على قاعدة (فرّق، تسد)، وهم يعتاشون على تخريب النفوس والعمران.

أعتقد نحن بحاجة اليوم لوعي عقلاني، أكثر من حاجتنا للعاطفة واالمحبة، وهنا أمايز بين الإثنين وأفضل أحدها على الآخر، ولا أنفي تأثير العاطفة والمحبة في بناء حياة سليمة، ولكن المجتمع العقلاني اليوم هو المجتمع الذي يعرف فيه الإنسان أو الفرد ما له وما عليه من حقوق وواجبات، ولا يتفضل فرد فيه على آخر، ولا قومية على أخرى، ولا دين على آخر، لأن أساس المواطنة فيه بما يقتضيه الوعي القلاني هو مقدار ما يستجيب له الفرد لتنفيذ ما عليه كمواطن، وفقاً لمتطلبات القانون التي يتساوى أمامه الجميع.

لا يعنيني أن تُحبني أو تكرهني، على الرغم من أنني أتمنى أن تُحبني وأحبك، ولكن الذي يعنيك ويعنيني هو أننا متساوون في الحقوق والواجبات، ولو استكملت هذه بالمحبة، فخير على خير، ولكن الأصل لييس تبادل العوطف أو المشاعر، فقد تخذلنا في وسط طرق التحدي التي نسير بها معاً، ولكن وجود دولة تُنفذ القانون وتحترم حقوق المواطنة، سيدفع جميع الأفراد إلى الامتثال لها، ومن ثم بعد تعلم طاعة القانون، سيضعف الصراع (الشرّاني) عند أبناء المجتمع، لأن كل منهم يحصل على حقه ويعمل بما يجب عليه أن يعمل به.

إذن الدعوة للمحبة هي دعوة لاحقة، توجد في المجتمعات المستقرةـ أو أن تكون دعوة متزامنة مع ممارسات حقيقية لفض النزاعات في المجتمع المتصارع أثنياً.

هل نسكت ولا ندعو للمحبة؟ الجواب، كلا، ولكنها تبقى مجرد دعوة شبيهة بحلم الفلاسفة بخلق أو ايجاد (مدينة فاضلة) أو (جمهورية مُثلى)، دعى لها (الفلاسفة المثاليون) واليوتوبيون، وهي من قبيل وجود الأمل أفضل من عدمه.

ما يُميز الوعي العقلاني، أنه دعوة ممكنة التحقق في الدولة بمجرد تطبيقها لقواعد احترام القانون، وهي تتوافر كلما تمكنت الدولة من بناء أجهزتها الإدارية والأمنية، وهذه ليست من المستحيلات، ولكن الدعوة للمحبة تبقى دعوة فردية كقصيدة شاعر أو صوفي يجد في الوجد والوجدان خلاصاً ذاتياً له، وهو أمر ممكن التحقق عند الفرد كما يقول أصحاب التجارب الدينية والصوفية، ولكن لا قدرة لتحقيقه اجتماعياً.

قد نُحقق هذاالحُلم في المحبة على مستوى علاقة الفرد بمحبوبه، أو على مستوى الأسرة الواحدة، وإن يكن من الأمور الصعبة التحقق ولكنه ليس مستحيلاً، ولا يتحق هذا الأمر في المجتمعات "القرابية" إلا على مستوى ما أسماه ابن (خلدون) "العصبية" والعصبية هذه ليست محبة، بل هي إنحياز على قاعدة (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب).

هل يقتضي الوعي العقلاني تغييب المحبة؟ الجواب كلا، لأن الفارق في الترجيح، فالوعي العقلاني يُرجح اللجوء للقواعد والقوانين التي تحمي حقوق الجميع، لكن في المحبة قد يفنى المحبوب بمحبوبه، فتغيب الأنا في (الآخر)، وقد يفني المُحب المجتمع كله من أجل محبوبه، فهو متطرف في المحبة، ولا أجمل من التطرف في المحبة والشوق والتوق عنده، على قاعدة (ومن الحب ما قتل)، ولا أتحدث لكم عن قصص الحُب العذري أو قصص الصوفية في (الحُب الإلهي) و(الفناء) و(الحلول). او ققص الذين فجروا أنفسهم ليكونا في الجنة!!.

العاطفة والمحبة والوجدان هي لغة الشعراء والعرفاء، وهي ليست لغة فلاسفة العلم ولا لغة العلماء الفلاسفة، ولا لغة السياسيين الفلاسفة ولا لغة فلاسفة السياسة، ولا لغة القانونيين ولا فلاسفة القانون، ولا الاقتصاديين الفلاسفة ولا فلاسفة الاقتصاد، ومن يُحرك المجتمع ويبني كل حركة التاريخ الحي اليوم هم هؤلاء، ولك أن تنظر لكل منظومات الاقتصاد العولمي، والثورة المعلوماتية، وحركة التنوير الأوربي من قبل.

 

ا. د. علي المرهج – أستاذ فلسفة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم