صحيفة المثقف

في معنى التفرغ العلمي.. العالم هو الذي حفزني

قاسم المحبشيكثيرون من اصدقائي سألوني ماذا تفعل في القاهرة؟ أقول لهم أنا في إجازة تفرغ علمي. بعضهم يكتفي بهذا الرد لاسيما إذا كان أكاديميًا وبعضهم، يسأل ؛ما هو التفرغ العلمي؟ هذا السؤال الذي طالما وقد تكرر كثيرا عليّ أعادني إلى اللحظة السقراطية إذ سألت نفسي -وأنا الذي كنت أجيب بثقة لا تخلو من التبجح أحيانا- ماهو التفرغ العلمي؟ أعدت إلى ذاكرتي ومخزونها المعرفي لعلني أجد ما يشبع المعنى ويروي الدلالة فاحسست بالحاجة الملحة لإعادة التفكير والبحث في سؤال التفرغ العلمي ودلالته المتعددة. ولا أخفيكم بأنني عرفت لأول مرة مصطلح التفرغ العلمي وأنا في سنة رابعة بكالوريوس عام ١٩٨٧م حينما زارنا في قسمنا: قسم الفلسفة والاجتماع بكلية التربية العليا جامعة عدن الأستاذ الدكتور محمود أمين العالم أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة رحمة الله عليه. ومازالت اتذكر ذاك اليوم الذي دخل فيه قاعة المحاضرات برفقة رئيس قسمنا الأستاذ الدكتور نمير العاني الذي قدم لنا الأستاذ محمود العالم بكلمة ترحيبة ضافيه ذكر فيها إنه شرفنا من جامعة القاهرة لقضاء إجازة تفرغه العلمي في جامعتنا لمدة سنة أكاديمية يمكنه خلالها ممارسة البحث والتدريس والإشراف والاشتراك بفعاليات القسم بوصفه عضوا تدريسيا كامل الأهلية الأكاديمية. كانت تلك هي المرة الأولى الذي أسمع فيها مصطلح التفرغ العلمي ولم اعيره أهمية حينها وفي برنامج الماجستير عرفت مصطلح أكاديمي أخر أسمه الأستاذ الزائر إذ كنا الدفعة الأولى ببرنامج الماجستير في قسم الفلسفة بجامعتنا. أفتتح البرنامح في عام ١٩٩٢ بنخبة متميزة من الأساتذة العرب ومنهم؛ الأستاذ الدكتور أحمد نسيم برقاوي والأستاذ الدكتور طيب تيزيني والأستاذ الدكتور حامد خليل من جامعة دمشق والأستاذ الدكتور عبدالسلام نور الدين من السودان الشقيق. والأستاذ الدكتور نمير العاني رئيس قسم الفلسفة في جامعة عدن. واسماء أخرى لم تسعفني الذاكرة بها. معظمهم قدموا في مهمة استاذ زائر بغرض التدريس الأكاديمي والإشراف العلمي لمدة أربعة سنوات كما هو معمول به في مختلف الجامعات بالعالم. بعد حصولي على درجة الاستاذ المساعد والاستاذ المشارك فكرت بإجازة التفرغ العلمي فرسالة جامعة سيدي محمد عبدالله - ظهر المهراز فاس بالمغرب بالتعاون مع صديقي أنيس ثابت الردفاني. ذهبت المغرب في ١٩ سبتمبر ٢٠١٣ على نفقتي الخاصة. وصلت مطار كازبلانكا في الساعة التاسعة ليلا وتحركت مباشرة الى فاس بالقطار، وفِي اليوم التالي اصطحبني الدكتور أنيس الى الجامعة والكلية وقابلت السيد عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز الأستاذ الدكتور عبد الاله بلمليح الذي استقبلني بحفاوة طيبة. وقد حرصت أن اهدي له شعار جامعة عدن الذي اشتريته من ادارة جامعتنا خصيصا لهذا الغرض، بوصفه مدخلا للتعريف بالمؤسسة الأكاديمية التي قدمت منها، بحضور الأستاذ الدكتور مفضل الكنوني استاذ الأدب والنقد الأدبي ورئيس نقابة المعلمين في الكلية والدكتور أنيس عثمان. خلال مدة تفرغ في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بفاس اطلعت على تجربة المؤسسة الأكاديمية المغربية، إذ توجد في المملكة المغربية ١٤ جامعة حكومية وعدد من الجامعات والتكوينات الخاصة وتعد جامعة سيدي محمد عبدالله فاس من أهمها تأسست في ١٧ أكتوبر ١٩٧٥م في مدينة فاس، تحتوي على عشر كليات تخصصية وعدد من الكليات المتعددة التخصصات. نظام التعليم فيها هو تعليم جامعي عمومي. عدد طلابها ٧٤٠٤٢ يتخرج منها سنويا ٣٤٢٥، تظم ١.١٢ استاذا. وتتميز الجامعات المغربية بنظامها الأكاديمي والاداري المستقل نبسيا، إذ يخضع نظام اختيار روؤساء الجامعة وعمداء الكليات لعملية مفاضل أكاديمية صارمة، فيما يسمى بنظام المشاريع الممكنة التنفيذ كل أربع سنوات حيث يتقدم كبار الاستاذة الراغبين في منصب رئيس الجامعة أو عميد الكلية لتقديم مشاريعهم المكتوبة الى هيئة مستقلة من الخبراء الأكاديميين المتخصصين لفحصها وتقييمها واختيار أفضل ثلاثة مشاريع بوصفها أجودها تتم عملية القرعة بينها ومن يفوز بنظام القرعة

عليه الشروع بتنفيذ مشروعه الهادف الى تطوير المؤسسة المعنية وإداراتها وتنميتها وتفعيلها اداريا وفنيا وأكاديميا ويتحمل المسؤولية الكاملة عن أي اختلالات أو تقصير يحصل. وقد علمت من السيد عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس الأستاذ عبدالاله بمليح أن هذا النظام يسري على أختيار روؤساء  الأقسام العلمية في كل كلية من كليات جامعة سيدي محمد عبدالله. ومن مؤشرات النجاح في ادارة الأقسام العلمية والكليات والجامعة يعد الإنتاج الفكري العلمي الأكاديمي السنوي لاعضاء الهيئة التدريسية هو أهمها واحد معاييرها فضلا عن الشفافية المالية والإدارية في صرف الميزانية المخصصة للمشروع. واثناء تفرغي في جامعة فاس اشتركت في المؤتمر الدولي (الهوية والدين والمجتمع المدني في جامعة تبسة الجزائرية) ومن المغرب العربي الكبير والشمال الأفريقي عدت إلى أم الدنيا وتلك كانت المرة الأولى التي سنحت لي بزيارة مصر. مكثت عشرة أيام وزرت مكتبة الاسكندرية ثم ركبت إلى عدن. وبعد أربعة سنوات في العمل والتدريس بالجامعة حصلت على درجة الاستاذية وتحملت مسؤولية النيابة الأكاديمية بكلية الآداب في ظروف بالغة القساوة والاضطراب وفكرة بالتفرغ العلمي للمرة الثانية. استشرت أستاذي الدكتور أحمد نسيم برقاوي ونصحني بجامعة القاهرة بوصفها أفضل مؤسسة أكاديمية عربية، إذ سبق له أن تفرغ فيها قبل سنوات وإنجز كتابه المهم العرب وعودة الفلسفة. كما تذكرت الأستاذ الدكتور محمود أمين العالم الذي جاء إلى جامعتنا جامعة عدن لقضاء إجازة التفرغ العلمي وهو في الخامسة والخمسين من عمره التي بلغتها الآن. رسالت قسم الفلسفة بكلية آداب القاهرة وحصلت على الموافقة الأولية وفي ٣١سبتمبر ركبت من مسقط إلى مطار برج العرب بالاسكندرية ومن الاسكندرية إلى القاهرة. كانت سعادتي لا توصف وأنا أدلف بوابة جامعة القاهرة التي طالما وقد حلمت بزيارتها منذ زمن طويل. استكملت بعض الاجراءات المتصلة بالتفرغ العلمي واثناء ذلك اشتركت في عدد من الفعاليات الفكرية وسنحت لي الفرصة للكتابة والبحث وطبعة ونشر عدد من الدراسات والإبحاث والمقالات الصحفية وبعض الدواوين الشعرية.

فما هو التفرغ العلمي

هو بالمختصر المفيد إجازة بحثية تمنح للأستاذ أو الأستاذ المشارك في جامعته لمدة عام يقضيها في جامعة خارج بلده بغرض البحث العلمي في مشروع بحثي محدد. ويعد برنامج التفرغ العلمي أحد مستلزمات المؤسسات الأكاديمية وهو نظام راسخ في تاريخ المؤسسة الأكاديمية إذ تمنح الجامعات كل عضو من اعضاء الهيئة التدريسية فرصة إجازة التفرغ العلمي لمدة عام واحد فقط في أحد الجامعات المرموقة في دولة أجنبية . وذلك بعد استيفاءهم شروط إجازة التفرغ العلمي المحددة في قانون الجامعة المعنية. من حق عضو هيئة التدريس في الجامعة الحصول على إجازة تفرغ لمدة عام كل أربع سنوات قضاها في الخدمة الأكاديمية والتدريس بالجامعة وفقاً لقانون الجامعات. وهو نظام معمول به في مختلف جامعات العالم. وهدف التفرغ العلمي هو منح عضو الهيئة التدريس بعد حصوله على اللقب الأكاديمي أستاذا مشاركا أو أستاذا وهي فرصة لمواصلة إبحاثه العلمية بعيدا عن أعبأ الوظيفة التدريسية والروتيني الإداري وذلك لما يزيد من رصيده الأكاديمي ويفيد المجتمع والجامعة والمعرفة الإنسانية بما سوف ينجزه من أبحاث ودراسات في تخصصه العلمي وما يتاخمه من تخصصات.

وللتفرغ العلمي الأكاديمي فوائد أخرى منها:

- التعرف والأحتكاك بأواسط أكاديمية أخرى.

- الإطلاع على التجارب والخبرات الأكاديمية في المؤسسات لأكثر جودة وعراقة أكاديمية.

- تكوين صداقات وعلاقات مع المشتغلين في مجالات الأكاديمية والبحثية المشابهة.

- المشاركة في الفعاليات الثقافية والفكرية المتصلة باهتمام الباحث وزيارة المكتبات.

- تعزيز العلاقات الأكاديمية التبادلية بين الجامعات وغيرها. 

أستدراك ؛ تكاليف التفرغي العلمي على حسابي الشخصي وليس على حساب جامعتي ولا الجامعة المستضيفة.

وبسبب حظي المتنيل تزامن تفرغي العلمي مع أزمة فيروس كورونا كوفيد-١٩ ولكن القاهرة رحيبة وفيها بدائل وخيارات عديدة والصبر مفتاح الفرج!

 

ا. د. قاسم المحبشي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم