صحيفة المثقف

كيف نجدد خطابنا المجتمعي في ظل مستجدات الواقع؟

محمود محمد عليفي ظل هذه الحقبة التي تعيشها أمتنا العربية ، يجب أن نحسم أمرنا ونتجه نحو تجديد الخطاب المجتمعي للوصول إلى حالة من النضج المعتمد على المعرفة الواعية والمدركة للمخاطر، حتى نستطيع تحصين المجتمع من الآفات التي تعرضه للخطر أو التمزق وتجريف الهوية، وذلك من خلال آليات جديدة تركز على ثوابت راسخة وقواعد متينة تراعى المستجدات وتواجه الأزمات بعد أن تسربت إلى مجتمعنا نتيجة مؤثرات خارجية وتنظيمات منحرفة جعلت العنف والخصام وشهوة الانتقام عناوين بارزة له؛ خاصة بعد أن أثر الانفتاح التكنولوجي سلبياً على الضوابط والسلوكيات القويمة وتشعب الرؤى وتشتتها بعيداً عن جادة المنهج الوطنى فى سابقة خطيرة أبرزت فينا حالة من التأزم الداخلى نتجت عنها انسدادات اجتماعية وغابت على آثرها صفة المجتمع التراحمى التعاطفى، فأصبحنا أشحة على الوفاق والوئام ، يسلق بعضنا بألسنة حداد .

وليس أمامنا سوى عمل مراصد اجتماعية تكشف ما ألم بنا وصفاً وتشخيصاً وأسلوباً للعلاج ويقوم بها مصلحون عمادهم الإخلاص وسلامة المقاصد وصدق النيات وتربطهم المصلحة العامة بروح الفريق الواحد من خلال خريطة وطنية سعياً لإيجاد الحلول وإخراجنا من المآزق بغية ترميم الشخصية المصرية وإنقاذها من الهشاشة والسطحية التى طالتها .

ومن ثم قطع الطريق على كل من يريد الإجهاز عليها وتبدأ من رفع درجة الوعى لدى الأجيال الناشئة وصولا إلى مرحلة منحها الفرصة لتعيد تقييم نفسها، ويساعدها فى ذلك كل ما من شأنه محاربة الفقر والبطالة باعتبارهما العقبة الكؤود أمام أى خطوات إصلاحية مما يدفع المجتمع إلى استثمار موارده البشرية بشكل سليم يعود على الجميع بالنفع والخير ويزرع فيه الثقة بالنفس بما يمتلك من قدرات ويعمل على تطويرها، للدفع بها نحو مجتمع ينمى نفسه بنفسه فتقل أمراضه وتزداد فيه عناصر وعوامل النمو والتطور والإنتاجية والإيجابية .

وتجديد الخطاب المجتمعي لا يتأتى بمعزل عن مسلَّمات كثيرة من أهمها: تجديد الخطاب الديني، وتجديد الخطاب الإعلامي.

ا-  تجديد الخطاب الديني:

إننا في حاجة في تلك المرحلة التي نعيشها إلي خطاب ديني بعيد عن التشدد والتعصب والقصور في معالجة قضية الوحـدة الوطنيـة ، ولا يـدعو للكراهية ولا التعصب ضد اتباع أي عقيدة أخـرى، ولا يؤدي للفتنة الطائفية بين المـسلمين والأقبـاط، لأنه يعتمد على القرآن والسنة، وما تـضمناه مـن هدايات وأوامر، تدعو إلى السماحة، والعدل، وحـسن المعاملة لأهـل الكتـاب .

وتجديد الخطاب الـديني لـيس المقـصود بـه المـساس بالثوابت الشرعية، بل ينسحب فقط على المتغيرات التي تتجدد بصفة مـستمرة وتحتـاج إلـى رؤى جديدة، في ظل الظروف المعاصرة التي نمر بها، خاصة وأنـه لا بد للداعية أن يتواصل مع مستجدات كل عـصر ويشارك المواطنين همومهم ومشاكلهم، وأن السمو إلى مستوى عقول المواطنين بالبعد عن القصص الخرافية التي تحـذر النـاس وتشل طاقاتهم وتحول بينهم وبين العمـل الجـاد المنتج الذي تحتاجه البلاد فـي مرحلـة التنميـة الشاملة .

كما أن بحث تجديد الخطاب الديني لم يـأت وفقاً لتعليمات، أو توجيهات، أو ضغوط خارجية، بل إن الإسلام حث علي تجديـد الخطـاب وفـق متغيرات الزمن في إطار الحفاظ علـي الثوابـت ، وأن تجديد الخطاب الديني يعـد "ضرورة عصرية لبيان تعاليم الإسلام في ضـوء الواقع، مشيرا إلى أن المؤتمر يرمي إلى التأكيـد على أصالة الثقافة العربيـة والإسـلامية وإبـراز قدرتها على إستيعاب التجديد" .

إن الدعوة لتجديد الخطـاب الـديني أمـر ضروري لتلبية متطلبات المرحلة الصعبة التي تعيشها الأمة العربية، حيث ينبغي أن نجدد خطابنا الديني بما يتفق مع صحيح الدين والبعد عن التيارات المتشددة والمتطرفة"؛ وتطوير الخطاب الديني يشمل العناية بقضايا جديدة لم تكن محل عناية، في مقدمتها "علاقة المـسلمين بالآخر، وإعطاء قيمة كبيرة للحرية والعلـم، لأن هناك تصوراً عشوائياً للتاريخ من جانب البعض" .

وندعو إلى تجديـد الخطاب الديني الإسلامي وإعادة النظر في كثيـر من قضاياه الفكرية والممارسات السلوكية المرتبطة به، من خلال منهاج يتعامل مع الواقع في ضـوء المعطيات الجديدة والانفتاح العالمي، ويتم تدريسه بشكل وسطي معتدل بعيدًا عن التشدد، لأن "الإسلام دين الاعتدال، مشيراً إلـى أن الكثيـر يعتقـد أن مناهجنا مصدرها عقائد متشددة، وبالتالي فإن مـا يدرسه الطالب في الكتب المقررة يجب أن يكـون مسايراً للواقع من دون المساس بالثوابت الدينية" .

إن واقعنا العربـي يتطلـب تغيير المناهج باعتبارها الوسيلة الأكثر فاعلية في تشكيل فكر وسلوك جيل كامل على أن يتم تعـديل أساليب التدريس التي تعتمد على حشو «الأدمغة» والتلقين التي تخرج أجيـالا غيـر قـادرة علـى التحاور بـالمنطق والعقلانيـة واسـتخدام العلـم والأساليب المنهجية.

وتجديد الخطاب الديني لا يكون بدون إصلاح سياسي شامل، وأن تجديد الخطـاب الإسلامي ضرورة عربية ـ إسلامية لا صلة لهـا بالضغوط الأجنبية بل كان مـسعى أساسـيًا فـي مسيرة الثقافة العربية الإسلامية منذ فجر الإسلام ، وأن هذا التجديد ضرورة ملحة باعتبارها مفـصلاً جوهرياً في عبور الفجوة الواسطة بيننـا والعـالم المتقدم، وأنه لا بد من التمييز بين الإسـلام كـدين وتاريخ المـسلمين الحافـل بمـا يوجـب النقـد والتمحيص، وهذه نقطة مهمة في مواجهة النظـرة التقديسية للتاريخ الإسلامي .

إن «التجديد ليس مهمة رجال الدين المستنيرين وحدهم، بل هـي كـذلك مـن مهـام المفكرين والمثقفـين» انطلاقـًا مـن أن تجديـد الخطاب الديني لن يؤتى ثماره بدون إصلاح ثقافي مجتمعي ينطلق من الإيمـان بنـسبية المعـارف وبحقوق البشر في الحوار والمساءلة .

وأحي الدور الذي تقوم به وزارة الأوقاف المصرية من الدعوة إلي توعية الإمام والداعية بأهمية تجديد الخطاب الديني والفكر وأثره على تنشيط الدعوة، وتوضيح منهج الإسلام القائم على الوسطية، والاعتدال، والسماحة، والرحمة، ونبذ العنف، والتطرف الفكري، وذلك من خلال الأدلة بالقرآن والسنة والآثار الصحيحة، مشيراً إلي كيفية توافق الداعية مع العصر الحديث، وخاصة عصر الحداثة والتطور العلمي، وأن يكون الداعية قدوة للنشء وعنوانا لسماحة الدين، ونموذجا للوسطية والاعتدال.

ولكي تقف الدولة علي طريق النهضة والتقدم لا بد أن يركز خطاب التجديد الديني علي عدة قضايا أساسية ومهمة يمكن إجمالها في الآتي :

1- رفض الوصاية علي العقل تحت أي مسمي وبأي شكل كان.

2- نبذ التشدد بكافة أشكاله، ورفض التعصب، فالحقيقة المطلقة لا يملكها أحد بعد الرسول صلوات الله عليه وانقطاع الوحي.

3- تحرير المرأة فهي نصف المجتمع بنفسها ، وكل المجتمع بغيرها، واستبعاد النظرة التحقيرية والاقصائية لها.

4- محاربة الخرافة والدجل والشعوذة ، ونفي ارتباط مثل هذه الاتجاهات بالدين والتراث الديني.

5- التخلي عن تقديس السبق فيما يتعلق باجتهادات السلف فهم رجال ونحن رجال ولهم عصرهم وتحدياتهم، ولنا عصرنا وتحدياتنا.

6- رفض ونبذ (عوضاً عن تقديس) العنف الأعمي أياً كانت دوافعه ، وتحت أي ادعاء كان. فالإسلام دين الرحمة حتي في القتل المأمور به شرعاً للحيوان الأعجم، فضلا عن الإنسان المكرم.

ب- تجديد الخطاب الإعلامي:

لا شك في أن حروب الجيل الرابع والخامس تتطلب من إعلامنا أن يواجهها بطريقة علمية، ومهارية، ومهنية، وابتكارية بشكل احترافي نظراً لأن مثل هذه الحروب تشنها أجهزة معلوماتية من الدرجة الأولي، وتستهدف بالمقام الأول والأخير بث سموم الشائعات لإشاعة جو من اليأس والاحباط والتفريق بين مواطني الدول التي تستهدفهم بحيث تمزقهم وتدفعهم للانتحار في نهاية المطاف ، خاصة في مسألة إشعال فتنة النزاع الطائفي والقبلي .

ومع تتابع الأحداث التي تحيط بنا وتهز مجتمعنا، يمكن القول بأننا بحاجة ملحة إلى تجديد الخطاب الإعلامي، الذي يقوم بدور مهم ومؤثر في توجهات الرأي العام، واتجاهاته، وصياغة مواقفه، وسلوكياته من خلال الأخبار والمعلومات التي تزوده بها وسائل الإعلام المختلفة، إذ لا يستطيع شخص تكوين موقف معين أو تبني فكرة معينة إلا من خلال المعلومات والبيانات التي يتم توفيرها له، مما يؤكد قدرة الإعلام بكافة صوره وأشكاله على إحداث تغييرات في المفاهيم والممارسات الفردية والمجتمعية، عن طريق تعميم المعرفة والتوعية والتنوير، وتكوين الرأي ونشر المعلومات والقضايا المختلفة.

والناظر إلى واقع إعلامنا العربي في هذه الآونة ليدرك بصورة واضحة مدى تفشى الأمراض التي اجتاحت الكثير من وسائل الإعلام، كالخلايا السرطانية، والتي تكاثرت وتفشت وانتشرت كالسوس ينخر العظم ووصل حتى الجذور، ولا يعرف كيف يمكن مقاومته، فقد برزت خطابات التحريض والكراهية بشكل واضح  في مشهد الخطاب الإعلامي العربي، حتى تعددت أوجهه وأدواته وغاياته وأهدافه، وحتى أضحى اليوم ما يسمى بصناعة الكراهية، وهي صناعة تتدخل فيها الحرب القولية والافتراء على التراث والعلم والتاريخ، بل وتزييفه بين الجماعات المختلفة، وما أن تدخل الكراهية في مجتمع حتى تمزقه إرباً إلى جماعات وشيع منافرة ومتضادة، مما يؤكد أننا في حاجة شديدة إلى تجديد الخطاب الإعلامي ليكون وسيلة أساسية لتجديد الخطاب الديني، مما يستدعي المراجعة والتقييم وبلورة الوسائل الجديدة لهذه المرحلة، التي باتت من الخطورة ما يحتم أن تكون لها معطيات ومنطلقات تخدم هذه المرحلة بكل تحدياتها الراهنة والمستقبلة، في ظل الضغوط الخارجية والتحديات المقبلة التي أصبحت تفرض قسراً وليس اختياراً ذاتياً؛ خصوصاً أنَّ عالمنا العربي محط الأنظار والأطماع والتوجسات والاستهداف أيضا من الآخر، فلا يكفي في هذه المسألة التحذير والتخويف والتنظير الكلامي غير الواقعي، لمواجهة مشاكلنا، وإنما يجب أن تتم المواجهة برسم الخطط، وإيجاد الوسائل الحديثة، وإعداد البرامج الأكثر تشويقًا، وجاذبية لخدمة قضايا المجتمع بصفة عامة، ومواجهة ما يحيق بنا من أخطار بصفة خاصة بصراحة وحرية بعيداً عن المبالغة والتهوين أو البتر والتحويل، لأن هذه المرحلة وما يجتاحها من مخاطر ثقافية وفكرية واجتماعية تستدعي إعطاء روح جديدة للوسائل الإعلامية العربية استهدافاً لتنمية الفكر البشري لتطوير المجتمع وإكسابه الخبرات العلمية والعملية ومهارات التفكير العلمي الناقد، وأهمية مقومات القدرة على تسخير المعرفة واستغلال إمكانات التداخل والترابط المعرفي في محاولة التعامل مع المشكلات المعقدة .

ومن هنا كان لا بد من إعادة النظر في الخطاب الإعلامي العربي بصفة عامة والمصري ، بصفة خاصة مما يؤكد على حتمية تجديده، مما يوجب وضع صيغ جديدة لأخلاقيات البث والنشر الإعلامي تواكب روح العصر ومعطياته؛ خاصة في مجال المستحدثات والمتغيرات الجديدة الإعلامية والمعلوماتية والتكنولوجية، وأن يراعى في هذه الصيغ وجود نصوص واضحة تؤكد عنصر الالتزام بالأخلاقيات المهنية ومبادئها الأساسية واحترام إنسانية الإنسان ومشاعره ومعتقداته .

ونحن اليوم نشدد على أهمية الإعلام وأهمية تجديد القائمين عليه سواء معدين أو مقدمي برامج أو مخرجين ومهندسي الصوت والاضاءة والجرافيك والسوشيال ميديا ، والصحافة الورقية والالكترونية وصحافة الفيديو وكل ما يستجد من تكنولوجيا في المعدات  تفيد في إعلام المجتمع بما يجري حوله من احداث وفق ميثاق الشرف الإعلامي بكل صدق وامانة وحيادية .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم