صحيفة المثقف

المناعة الثقافية وتحصين النظام السياسي الامثل (3)

ميثم الجنابيالعقلانية واللاعقلانية في الفكر العربي الحديث (9)

لقد كان المسار الفكري لتيار التحصين الثقافي يهدف إلى بناء سلسلة المبادئ الكبرى في نظام سياسي امثل جامع للدين والدنيا، والعدل والقانون. غير أن مثاليته لم تحلّق في سماء التصورات المجردة، بل تعايشت مع الرؤية العقلانية والواقعية للتراث الإسلامي وإمكانية تجسيده في ظل التمثل النقدي لإنجازات المدنية الأوربية. لهذا اعتبر الطهطاوي نظام العمران الأمثل هو نظام العدل والقانون، الذي يستلزم بدوره وجود "قوة حاكمة جالبة للمصالح العامة" و"قوة محكومة آهلة له". وأعتبر القوة الحاكمة (السلطة) مصدر وجود "قوة تقنين القوانين" (السلطة التشريعية) قوة القضاء وفصل الحكم (السلطة القضائية)، وقوة "تنفيذ الأحكام (السلطة التنفيذية). واعتبر هذه السلطة وسيلة بناء المجتمع والدولة على أسس سليمة. في حين اعتبر التونسي نظام الشورى الديمقراطي) المقيد بالعدل والمساواة النظام الأمثل، وذلك بفعل تقيد السلطة فيه بالقانون (الشرعي والوضعي) ومشاركة أهل العقد والحل للسلطة (الملك) في "كليات السياسة" (إستراتيجية الدولة). أما المسئولية المباشرة فيه فتقع على الوزراء (النظام الوزاري) المقيدين بقوانين المصلحة العامة. ويستلزم هذا النظام (الأمثل) تقييده بقانون ثابت (دستور) يحدد صلاحيات السلطات فيه، باعتباره ضمانة الاستقرار والتقدم. ذلك يعني أن النظام الأمثل هو النظام الملكي الدستوري الوزاري، الذي سبق وأن أبدعت الثقافية الإسلامية السياسية نموذجه في نظام الإمام ووزارة التفويض وأهل الحل والعقد. ولم يجد في هذا النوع أمرا يتنافى مع وحدة السلطة. على العكس! لقد وجد فيه تقوية للإمامة (السلطة) عبر إشراك الجميع في إدارة شئون الدولة. لهذا اعتبر الاستبداد في السياسة والرأي الواحد رذيلة بغض النظر عن حامله وفاعله حتى لو كان أنبل الناس وأفضلهم وأكثرهم كمالا. لأن الأولوية في الدولة، حسب نظر التونسي، هي في التمسك بشريعة ملزمة للجميع مبنية على أساس احترام أصول العدل.

ترتب على هذه الرؤية السياسية للنظام الأمثل تصورات وأحكام اجتماعية وأدبية جديدة. إذ نعثر للمرة الأولى في تيار تحصين الأركان على اهتمامات جديدة تجاه حوافزها الكامنة في إدراك ضرورة الإصلاح والتمدن الجديدين. فعندما تناول الطهطاوي، على سبيل المثال، مبادئ الحرية والمساواة، فإننا نراه يربط حقوق الدول المتمدنة بالحرية، مؤكدا في نفس الوقت على أن الهيئة الاجتماعية للأمم مفصلة على قدر الحرية. مما دعاه إلى مطالبة تحديد سلوك المرء بالقانون والشرع. وجعل من هذه الآراء مقدمة للمطالبة بضمان حقوق المرء في الوجود (العيش) وداخل الوطن (الحرية السياسة ومعارضة الهجرة السياسية والنفي). وحصر هذه الحقوق فيما اسماه بالحقوق الطبيعية (كالأكل والشرب) والسلوكية (حسن السلوك ومكارم الأخلاق) والدينية (حرية العقيدة والرأي والمذهب) والمدنية (الحياة العادية) والسياسية (تأمين الدولة لمواطنيها جميعا أملاكهم الشرعية المرعية). واستنتج من هذه الآراء فكرته عن أن الحرية هي "الوسيلة العظمى لسعادة الناس في الدولة"، ومصدر الفعل الاجتماعي المبدع، لان الإنسان الحر يشعر بمسئوليته تجاه الكيان الجامع للحقوق والواجبات. ومن ثم فأنها ذات صلة بكل نواحي الحياة الاجتماعية والسياسة والاقتصادية والحقوقية والأخلاقية. ذلك يعني أن المبادئ الكبرى لم تعد شعارات مجردة، بل جزءا من رؤية مضمونية تخدم مهمة تمدين المجتمع والدولة. وكتب الطهطاوي بهذا الصدد قائلا، بأن الفضائل هي ليست عدما للرذيلة، بل "أفعالا وأعمالا تظهر عند مشاركة الناس ومساكنتهم في المعاملات". بل نراه ينظر إلى المروءة نظرته إلى مقولة اقتصادية، انطلاقا من أن الفضائل الأخلاقية تصب جميعا في النشاط الاجتماعي العملي للإنسان بما يخدم حرية وقوة بلده. من هنا تفسيره لكلمة الخير في القرآن باعتبارها مالا، استنادا إلى تفسير مجاهد. إذ بالمال يصان الدين والعرض، كما يقول الطهطاوي.

كانت هذه الأفكار والأحكام والتأويلات نتاجا للهواجس العميقة في تيار التحصين الثقافي عن قيمة وأثر "المنفعة العامة" بالنسبة للإصلاح والتمدن. لذا نرى الطهطاوي يركز في اغلب كتاباته الكبرى مثل (مناهج الألباب) و(تلخيص الإبريز) و(المرشد الأمين) على ما اسماه بالنظر إلى الأمور "بعين الجمعية" و"المنافع العمومية". وجعل منها وسيلة "زيادة الثروة والغنى". لقد ربط فكرة المنفعة العمومية بالتمدن والعمران. وأكد على انه لا تعارض بين المنفعة والسياسة الشرعية، لان حقيقة السياسة الشرعية هو "كسب الثروة بلا تعسف ولا مهانة"، انطلاقا من أن مبنى المنفعة هو "صرف الهمة إلى إزالة المكروه عن الناس". وأعطى للمنافع العمومية دورها الاجتماعي والسياسي الهائل بالنسبة لتقدم الدولة والمجتمع وتحررهما. واستند بذلك إلى ملاحظته الواقعية عن انه كلما "تقدمت براعة المنافع العمومية تقدمت الجمعية"، أي كلما ازدادت مرافق الحياة الاجتماعية وتخصصاتها في العمل كما ونوعا، كلما أدى ذلك إلى تطور المجتمع وتقدمه. لهذا نراه يدافع عن مرافق الترفيه والتزين والتجميل وما شابه ذلك، باعتبارها مرافقا "لتوسيع الأشغال". بحيث جعله ذلك يجد فيها "كمالا للحرية". لأن توسع الأعمال وتنوعها وتعددها وتخصصها يعكس مستوى تطور أخلاق الناس.

لم تكن هذه الأفكار معزولة عن المبدأ الجوهري، الذي بلورته الثقافة الإسلامية نفسها عن وحدة العلم والعمل، الذي أعطى له الطهطاوي أبعادا اجتماعية وسياسية ودولتية معاصرة. فهو ينطلق من أن العمل منتج الثروة. وطالب بإسعاد العمال والفلاحين، باعتبارها غاية العدل. فعندما يقسم الأعمال إلى منتجة وغير منتجة، فانه يركز على أهمية العمل المنتج، رغم اهتمامه بالنوع الثاني وضرورته للإنتاج نفسه (مثل عمل الإدارة والجيش وما شابه ذلك). وعارض لهذا السبب ما اسماه "بالتصوف الكسول" والكسل الاجتماعي بشكل عام، كما دعا للعمل المنتج الدائم المزّيد للثروة والغنى، واعتبره فرضا دينيا شخصيا ووطنيا. وليس مصادفة أن يجعل الطهطاوي حب الوطن من الإيمان، وأن يضع حب الوطن في أساس النهضة والتمدن. وجعل من حب مصر "فريضة" لها تاريخا العريق ومآثرها الكبرى. وجعل كذلك من الاعتزاز والمحبة لنهضة ممصر الجديدة أساسا لتقدمها. وبنى ضرورة هذا الشعور على أساس "تعزيز الوطن بالعلوم والمعارف واللطائف جملة وتفصيلا وتأسيسا وتأصيلا". لاسيما وأن مصر هي بلد العلوم والمدنية. إذ يكشف تراثها عن علوم هائلة أثرت في تاريخ الإنسانية (الإلوهية والعلوم الطبيعية والأخلاق). بل نراه يؤول كلمة مصر إلى مصير، لأن الناس يصيرون إليها. فمصر هي الوطن الشريف وكل ما فيها جميل، ماؤها وهواءها وترابها وأكلها، وفيها جميع محاسن الدنيا موصوفة بالشجاعة والحماسة والكياسة، وعلّمت الأمم جميعا، هي معدن العلوم والمعارف والفضيلة. بحيث جعله ذلك يعتبر الوطني الحقيقي من يخلص في حبه للوطن ويبذل جهوده من اجله والفداء له بكل عزيز ويسعى لخدمته من خلال الإرتقاء في العوم الفضائل. فالتعلق بالوطن وخدمته دليل على حرية المرء وكرم غريزته، كما يقول الطهطاوي.

لم تكن فروض المحبة للوطن والتعلق به والإخلاص له أحكاما مجردة أو أخلاق تأملية مشابهة لتجريدات الحكم والأمثال والآداب، بقدر ما كانت أسلوبا لتربية الروح الاجتماعي الفعال عند الأفراد والجماعات، الصغار والكبار والنساء والرجال. وليس مصادفة أن تحتل التربية موقعا رئيسيا في آرائه ومواقفه وتوجهاته النظرية والعملية، وأن يخصص لها أحد أهم أعماله الفكرية (المرشد الأمين للبنات والبنين). فالتربية بالنسبة له هي "فن تنمية الأعضاء الحسية والعقلية، وطريقة تهذيب النوع البشري ذكرا كان أو أنثى"، أي أن مهمتها تقوم في صنع تكامل الفرد والجماعة والأمة جسديا وروحيا. وعليها يتوقف مستوى تطور الأفراد والأمم. فهي ليست فقط أداة صنع الناس المتكاملين جسدا وعقلا، بل و"أساس الانتفاع بأبناء الوطن"، لأن "الأمة التي تتقدم فيها التربية بحسب مقتضيات أحوالها يتقدم فيها التمدن على وجه تكون به أهلا للحصول على حريتها". ذلك يعني انه ربط التمدن والحرية بالتربية والتعليم، باعتبارهما أساس التقدم الحقيقي، وجعل من الحرية غاية التربية والتعليم والتمدن. وهي فكرة استمدها مما يمكن دعوته بالتهذيب النقدي للذات الثقافية. من هنا آراؤه عن ضرورة إرساء أسس القيود الذاتية الأخلاقية في تربية من اسماهم "بأبناء الأكابر" وإزالة "حب النفس" الضيقة ونفيها بالروح الاجتماعي حسب نموذج "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وتطوير حب النفس الجالب للمنفعة العامة والإحسان والخير والعدل. وأخيرا رفع هذه المحبة إلى مستوى حب الوطن، باعتباره جزءا أساسيا من الإيمان. وتوصل في مجرى تعميمه للتجارب التربوية إلى ثلاثة استنتاجات كبرى، الأول هو أن التربية من أوجب الواجبات، وثانيا أنها عامة للجميع، وأخيرا ضرورة تربية العمل والجهاد. ووضع هذه الاستنتاجات الثلاثة في موقفه مما اسماه بتربية النوع البشري وتربية الفرد والتربية العمومية. وكان يقصد بذلك تربية الإنسان كإنسان ثم تربية الجماعات والأمم، وأخيرا التربية الفردية للإنسان حسب مواصفاته ومؤهلاته واستعداده الفطري. وأعطى لتربية البنات والنساء حيزا مهما وكبيرا بالنسبة لبعث الروح الاجتماعي للأمة وتحررها الذاتي. إذ توصل في مجرى استخلاصه لتجارب الأمم الأوربية إلى أن قوتها المعاصرة وثيقة الارتباط بتربية بناتهم مثلما يربون رجالهم. كما أن تجارب القدماء كاليونانيين والعرب دليلا على ذلك. فقد كانت تجارب اليونان في تربية النساء مفخرة للبشرية، كما أن تجارب العرب في صدر الإسلام هي "أقوى وأكثر مفخرة في دور النساء بالنسبة للرجال".

من هذه المقدمة العامة طالب بمساواة المرأة بالرجل، وجعل منها شرطا لتقدم المجتمع، لما في تربية المرأة من أثر في قوتها واحترامها بالنسبة لصنع الرجال أنفسهم. إذ لا فرق بين الرجال والنساء إلا في الذكورة والأنوثة، وإلا فأنهما يشتركان بالمظهر والحواس الظاهرة والباطنة والعقل والفضائل. وتتميز المرأة مع ذلك بخصال ذاتية مثل جمالها وأنوثتها وتنزهها عن الأخلاق الغليظة والصفات المذمومة بسبب ركيزة الشفقة والرحمة والحنان والرفق واللين فيها. وتتميز أيضا بقوة الصفات العقلية وحدّة الإحساس والإدراك. فهي تفهم بأدنى إشارة وأقصر عبارة ما لا يكاد يدركه الرجال إلا بصريح العبارة. وهو سبب يفسر ظهور العظام والمفكرين بين أحضانهن وورائهن. ذلك يعني أن المرأة بطبيعتها قادرة على اجتراح أعظم المآثر، وأن ذكاؤها ليس مقصورا على المحبة والوداد، بل وقادر على الوصول إلى أقصى مراده، إضافة إلى ما لها من سلطان على القلوب بسمائها وآدابها. ومن ثم فأن استعبادها هو استعباد للرجل والمجتمع. أما تربيتها وتحريرها فهو ضمانة تمدن المجتمع وتحرره. من هنا دعوته إلى المدارس المختلطة والى مشاركة النساء الفعالة في البناء باعتبارها أيضا ضمانة صيانتها من الرذيلة، لأن البطالة في حق النساء مذلة عظيمة، كما يقول الطهطاوي.

إن نزول" رجال "تحصين الأركان" في تأملاتهم وتصوراتهم وأحكامهم ومشاريعهم النظرية والعملية الكبرى إلى "حضيض النسوان" يعكس مسار الإدراك المتعمق والمتسامي في نفس الوقت عن ضرورة تأسيس المناعة الثقافية لوعي الذات العربي. فقد كان النظام السياسي والحالة الاجتماعية للمرأة حينذاك التجسيد الصارخ للاستبداد المادي والمعنوي الجاثم على روح الكيان العربي وجسده. فكما أن الهرم السياسي هو "الظل الإلهي" في الأرض، فإن النساء هن "قوارير" الوجود الحي، الذي يعكس هشاشته أمام الحركة المفاجئة. وهي صفة رمزية نعثر فيها على إدراك خاص لهدوء ورزانة الانفعال العميق لرجال تحصين الأركان من مهمة بناء أسس الأركان الثقافية لوعي الذات العربي. إذ ليس التحصين الثقافي الظاهري سوى الضمير الحقيقي للباطن. وشأن كل عمران حقيقي يفترض بناءه على أعمدة العقل والقوة والجمال، باعتباره الثالوث الضروري لانعتاق الوجدان واستثارة طاقاته المبدعة في تناول الهموم الكبرى والصغرى للوجود.

أدى تعمق وعي الذات العربي الذي جرى بأثر توازى المسار الذي قطعه كل من تيار "طلاقة اللسان" وتيار "تحصين الأركان" إلى تفعيل هواجس الضمير الملتهب وإدراك قيمة الهموم الكبرى والصغرى بالنسبة للتعامل مع كل ما له علاقة بالحاضر والمستقبل. فقد شارك كلاهما بالغوص في بحار اللغة والتاريخ، بمعنى ولعمهما بقضايا المجرد والملموس في التاريخ القومي والثقافي. وإذا كان لهذا الاختلاف فضيلة نظرية كبرى ورذيلة عملية بمستواها في حالة عدم تداخلهما في تأمل الحاضر واستشراف المستقبل، فأنه شأن كل تواز في الحياة لابد له من أن يتقاطع في محطات العبور أو الوصول. مما يولد بالضرورة شرارة الهياج العارم حينا، وطغيان الفرح والابتهاج حينا آخر. وليس مصادفة أن يتسلل هذا التقاطع بأشكال ومستويات مختلفة ومتباينة إلى أذهان وأعيان النخبة الفكرية الجديدة الناشئة آنذاك. إذ يمكننا العثور على صدى هذه الحالة في إبداع مختلف شخصيات المرحلة، لكن ذروتها الأولية تجسدت لاحقا في شخصية وإبداع جرجي زيدان (1861-1914).

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم