صحيفة المثقف

صداقة

صالح البياتيكنّا نلتقي يومياً، في الحي الذي نسكن، نتبادل تحية الصباح، وإبداء الإنطباع عن الطقس، فإذا كان جيدا؛ يبادر أحدنا قائلا "يوم جميل مشمس أو  رائع "، فيقول الآخر هو كذلك، ويتمنى له يوما لطيفا.

 هذه الكلمات القليلة، هي كل ما كان يدور بيننا من كلام، وقد عرفت من لكنته انه مغترب مثلي، لكن لا أعرف من أي بلد، علما بإنه يتكلم الإنجليزية بطلاقة، اغبطه عليها، فالعادة في بداية التعارف ألا تسأل عن أشياء شخصية، إحتراماً للخصوصية المتبعة في هذه البلاد.

 انتقلت للعيش في هذا الحي منذ ثمان سنوات، ومعظم سكنته من أبناء المهاجرين، ورغم طول المدة، إلا انني لم  أكون علاقات مع الجيران، استطيع ان اصفها بانها ترقى الى مستوى الصداقة، حتى ان جاريَّ الجنب، اقتصرت علاقتي بهما على التحية فقط، هذا اذا اتفق ان اراهم  صدفة، عند الدخول للمنزل او حين مغادرته، وبعد سنتين عرفت اسم احدهما، اما الجار الآخر فلا زلت اجهل أسمه، لأنني نادرا ما كنت أراه.

 لكن الأمر بدا مختافاً نوعاً ما، مع صديق التمشي الصباحي، لا ادري لماذا يطيب لي عندما التقيه، ان ارفع معه التكلف قليلا، فإنتهزت الفرصة مرة عندما تصافحنا وتبادلنا التحية، والإعجاب بطقس ذاك اليوم الصباحي الرائع، وزدت على ما تقدم انني سألته عن صحته، فرد شاكرا؛ انا بخير، وسألني وأنت.. فقلت شكراً لك.. جيد.

كان السؤال عن الصحة خطوة صغيرة الى الأمام، او طرق خافت على باب الخصوصية الموارب . 

 مضت أيام وتوقفنا ثانية، أعدنا نفس العبارات التقليدية، لكنني هذه المرة كنت  احب التبسط  معه بالحديث، كمقدمة لتجاوز الرسميات، أحببت ان أساله من أي بلد جاء، الى هذه البلاد التي في اسفل العالم، لكنني صغت سؤالي بطريقة غير دقيقة، فهم منها انني أسأل متى انتقل لهذا الحي، فكان جوابه مصحوباً بإبتسامة لطيفة.

 " انتقلت الى هنا منذ حوالى السنة تقريباً "٠

 الحقيقة ان كلمة "هنا " التي احتواها السؤال، قد تعني المكان او البلد  في آن، فحصل سوء فهم، وخجلت ان اعيد عليه السؤال بصيغة أوضح.

 قلت في نفسي لا داعي لذلك، لندع معرفة وطنه الأم تأتي بشكل عفوي، أثناء الحديث في مناسبات أخرى.

 نحن في التمشي نتعاكس في الإتجاه، ولكن نلتقي في مكان معين، وبنفس الوقت تقريباً، إفترض انه شرق أوسطي، وأستبعد ان يكون أوربيا، إيطاليا مثلا او يونانيا، ولكن أحتمل ان يكون مالطياً، أي عموما من شعوب حوض البحر المتوسط، هذا الإفتراض بنيته على سحنته.

 اما كيف استدللت على انه وصل لهذه البلاد صبيا يافعا، مع عائلته المهاجرة طبعاً (الآن في أواسط العقد السادس)، فقد بنيت ذلك الإستدلال على طلاقته في التحدث بالإنجليزية.

 افترض ايضا أنه كان موظفا غير عادي، تقاعد قريبا، ويتقاضى راتبا تقاعدياً جيدا، يتيح له الإستمتاع بالحياة، لا يحتاج هذا الإفتراض الى ذكاء، شيء واضح، فمظهره ومستواه المعيشي الممتاز يدلان على ذلك، فهو يمتلك بيت جميل بطابقين، وأمامه تقف سيارة فاخرة.

 مرت السنة الأولى، ولا تزال علا قتنا رسمية، كما كانت اول مرة تعارفنا فيها على بعض، وفجأة اختفى صديقي، عن المشهد الذي أعتدت عليه يوميا، فقصدت بيته، وجدت السيارة مركونة في مكانها، ضغطت زر الجرس، لم اتلق استجابة من خلال الجهاز المركب عند الباب، صمت مطبق يلف المكان، فكرت أنه ربما سافر لقضاء عطلة رأس السنة في بلد آخر قريب.

اُعلِنَ أثناء غيابه ، عن الوباء لأول مرة ، ولكن لم  تتخذ الحكومات بعد إجراءات  جدية، كانت مفاجأة غريبة، استوعبها الناس ببطء، في البدء كان رد الفعل عبارة عن  تساؤل: متى وكيف، ثم بعد مرور وقت قصير؛ تحول التساؤل الى إتهام متبادل، مَنْ ولماذا!

 ثم بدأت الدول تأخذ الموضوع بجدية أكثر، فوضعت إجراءات صارمة على السفر، وألزمت العائدين من الخارج بالحجر الصحي في فنادق لمدة أسبوعين، وأوصت السلطات الصحية بالتباعد الجسدي بين الناس؛ لمسافة متر ونصف.

عاد صديقي  قبل إغلاق الحدود، يتنزه مع كلب من نوع جيرمان شيبرد، اخافني عندما إقترب مني، جمدت في مكاني حين إحتك بي، وراح  يلحس ساقي  المكشوفة، كنت أرتدي بنطالا قصيراً، وتي شيرت صيفي، فكرهت ان يترك لعابه عليها، زجره فتراجع وعاد  لمكانه، شكرته، ضحك وطمأنني انه لا يؤذي، رغم هيئته المرعبة، في تلك اللحظة السريعة والحرجة، فكرت بنظرتنا للكلب، وشعورنا بالإشمئزاز والتنجس منه، لكن ظهور صديقي المفاجئ جعلني أغض النظر، أتحايد مع مشاعري، عندما وجدت نفسي امام  صديقي الذي إفتقدته، ولكن الشئ المختلف على ما إعتدت عليه سابقا، هو وجود كلب معه، سألت هل كنت مسافرا خارج البلاد.. نعم زرت مسقط رأسي .. وإحتفلت مع أقاربي بعيد الميلاد المجيد ورأس السنة الجديدة.. ولشدة دهشتي انه زار موطني الذي جئت منه.. إقتسمنا صمتاً مترقبا.. سألني حين رأى ابتسامة دهشة تلوح على شفتي، تشي بتساؤل صامت، فقال هل انت من ...! نعم يا صديقي انا من..

 ترك مقود كلبه حرا، وأحتضنني ضاربا عرض الحائط ، بالحذر من الفايروس القاتل.

في طريق عودتي للبيت لم أفكر كثيرا بأصل صديقي، بقدر ما فكرت بالكلب، وبشعور الإشمئزاز الغريب الذي انتابني، عندما مس لسانه ساقي المكشوفة، هل كان ذاك إحساس بالنجاسة منه ام شيء آخر، كنت أجهل الأساس الذي استند عليه، اهو ديني، ام عرف إجتماعي، فتذكرت كلب الفتية الذين التجأوا للكهف مع كلبهم، الذي كان اثناء رقدتهم الطويلة؛ باسطا ذراعيه في الوصيط ، كان يُعـَدُ معهم عندما يتطرق السؤال الى عددهم، فعلى أي أساس يا ترى ارتكزت هذه النظرة الدونية لهذا الحيوان الأليف، الصديق الوفي للإنسان منذ القدم، واليوم  كسر هذه القاعدة احد  أبناء موطني الأصلي، ولاشك ان هناك أفراد آخرين غيره، يعيشون هنا وهناك، في بلدان مهجرية آخرى،  تصرفوا مثله، فسألت نفسي لماذا لا أقتني كلبا يؤنس وحدتي، واتنزه معه في جولتي الصباحية.

 

صالح البياتي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم