صحيفة المثقف

حارس المعبر

صالح الرزوقبقلم: سارا هيوتلينغ

ترجمة وإعداد : صالح الرزوق

لم أكن في البيت، في بداية هذا الربيع، عندما وقعت حوادث الانتحار. ولم أكن أتابع الأخبار في الصحف المحلية ولم أسمع بتفسير السلطات المحلية المتلاحقة لهذه الأزمة الوجودية في البلدة -  تصويت المجلس لتمويل مراقبة على مدار الساعة يوميا عند مدرج سكة الحديد. والآن فقط، بعد عودتي، بنتيجة المعاناة من  سلسلة مصاعب في الدراسة، شاهدت في موقع حدوث الوفيات لوحة كتب عليها:

“مطلوب للعمل

نحن بحاجة لحراس ليليين للإشراف على معابر مدرجة”.

كانت لدينا أربع تقاطعات معروفة، بيش وماين، ثم ويلو وماين، وهكذا، وكل منها هي على مبعدة شارع أو ما يعادل ذلك من المدرسة، ومزودة بثلاثة معابر للمشاة حيث خط القطار يشترك مع المجال المدني بطريق من ثلاثة أزقة تمتد من الشمال للجنوب مرورا بالعمود الفقري لبلدتنا وتفصل استاد كرة القدم، وما تبقى من الجامعة، عن الأحياء السكنية. مزقت من اللافتة أحد الأرقام المدونة، وعدت للبيت، واتصلت بالهاتف.

ولاحظت من الإعلان أن ساعات العمل تناسبني ومفصلة على مقاسي. فباعتبار أنني لا أستطيع توفير الرعاية لوالدي بعد الآن، سيسمح لي العمل مساء في المعبر بإنفاق وقت النهار معه على أن أكون جاهزة وقريبة في الليل. نعم الأجر زهيد. وكلا، لن ينفعني لمتابعة حياتي، والتي هي مجرد تسكع على بوابة العالم الأكاديمي. ولكن أقنعت نفسي أن العودة للبيت والعمل إجراء مؤقت، استراحة حتى أجد القدرة الذهنية للبحث عن بديل. وطبعا لم أذكر شيئا من ذلك في المقابلة، وخلال بضعة أيام التحقت بالعمل.

مرت عطلة نهاية أسبوع ممطرة، ثم عدت إلى السكة، وحسب التعليمات كانت الغاية “التمرين” في “المكتب”. وتبين أنه كرسيان خفيفان مع شبكة للكؤوس كانت ترتكز على لوح من الإسمنت قرابة معبر القطار. وكانت هناك ذراع ضوئية وامضة، تعلو وتنخفض، وترسل قوسا من الضوء، ومنذ الانتحار، أضافوا بوقا منبها للإنذار بقوة خمسة وتسعين  حتى 115 ديسيبل. ولم يكن واجبي يقتضي إيقاف القطار، كما قال المدير، إبراهيم. ولكن ضمانة عدم زيادة سرعة العربات الخمسة السريعة المتجهة إلى شيكاغو عن 79 ميلا في الساعة وهي تستغرق ربع ميل قبل أن تتوقف تماما. أما العبّارات، التي تتوقف ليلا، فهي بحاجة لميل. وواجبي يتلخص باستدعاء الشرطة في حال وجود مراهقين منفردين يتسترون بظلام الليل. ثم قال:”عملك سهل. لا مهدئات، ولا كحول، ولا هاتف”.

التقط أنفاسه وسأل:”هل ستكونين على ما يرام؟”.

بلعت أنفاسي وقلت:”طبعا”.

“أقصد رغم أنك امرأة وحدها وفي الظلام؟”.

ولم يكن في كلامه شيء مقلق. وقلت:”أنا إنسانة ليلية”. ولمس قلبي باهتمامه - أفترض أنه لمسني لأنني أعتقد بالسر أنه لدي نبع غزير من المقلقات، وعلى ما يبدو أنه باستثناء إبراهيم لا يشعر بي أحد. 

هبت الريح في الغابة، واحتكت الأغصان بسور العاصفة وباللوحة التي تحمل عبارة: المساعدة على بعد مكالمة هاتفية فقط. وكانت تحت صورة يدين متماسكتين. وخلفها شاحنة كسولة وتلفظ الديزل. وقف إبراهيم وفعلت مثله. سألني:” هل تعيشين بعيدا؟. العودة للبيت بالسيارة تكون صعبة أول الأمر”.

وقبل أن أرد، نظرت للأعلى، من فوق كتف إبراهيم الأيمن، ونحو بيتنا، بطلائه المقشور، وسقفه المتوج، ومؤشر الرياح الأخضر، والشرفة التي تحاصره، وكرسيي القصب، حيث آمل أن يجلس والدي بانتظار أوبتي.

ألقيت تحية الوداع على إبراهيم، وعبرت الشارع، وأصبحت في البيت. بعد مطر الأمس، غطت بتلات أزهار الكرز الممشى الحجري، ولاحظت جمالها، وغمرني إحساس جديد بالمسؤولية. كنت مكبلة بعملي الجديد لكني ممتنة له، لأنه سيسمح لي بفرصة الاهتمام بوالدي ليلا بين حين وآخر. ما الغريب أن يحصل شيء لحظة أن أبتعد عن المسار؟. كان الوالد قد اتبع تعليماتي وغط بالنوم بهدوء في الكرسي الهزاز. وكان معه كتاب قديم من صديق ميت عن رودين، وكان مفتوحا على صدره، وكأنه يعانقه بحثا عن الراحة. قبلت جبينه الأصلع فاستيقظ، وابتسمت عيناه، وصنع إشارة راقصة بمعصمه لأن أصابعه كانت مرتبكة، وفهمت أنه يطلب مني أن أنضم له.

نمضي المساء، والدراجات الهوائية تتدحرج وراءنا بموجات يتحكم بها تدفق القطارات والمرور. بدأت ممارسة الرياضة الآن في المدرسة. ومر الأولاد من قربنا بثيابهم الموحدة، التي تلمع بالبرتقالي والأزرق، وخوذاتهم تتدلى من مقابض الدراجات. أنظر للجرح فوق صدغ والدي، لا يزال يشفى من سقطته يوم زيارة مؤسسة رعاية البالغين - آخر قشة. كان يبدو رقيقا. من المؤسف أن تتخيل أن معظم العالم لا يحسب حساب السقوط.

وضع والدي ساقا على ساق تحت معطفه، وبدأ يقول أمام السماء المفتوحة أمامنا، والعصافير تترنح فيها وتعلو: “كيف...”. وانتظرته أن يتابع.

كرر مجددا:”كيف...”. وارتفعت يده ثم سقطت.

حاولت أن لا أقاطعه. واستمعت لأنفاسه الضعيفة لربما وجدت لها معنى، ومنها يمكن أن أدخل لأفكاره وأحملها معي. وحاولت أن أذكّر نفسي أن وجود أحدنا برفقة الآخر أهم من أي كلام يمكن أن نتواصل به. وضعت يدي على يده. كانت باردة ومرتعشة. مر قطار. وهزّ الصوت المزيد من البتلات فسقطت بموجة غزيرة على الممشى.

قال:” أنت -”.

ساعدته بقولي:”كيف هو عملي؟”. وأخبرته أنني سأعمل بالحراسة على خط القطار ليلا، ولكنني

غير متأكدة إن فهم ما أقول. كان وجهه مقنّعا، والإرهاق يظلم عينيه، ويضع فيهما بريقا باردا. أطلق نفسا. “احتقنت الكلمات”. ومنطقيا أن أشعر بالأسف لهذا الاعتراف. لو ضمن لنفسه بضعة كلمات متماسكة يوميا، فقد استعمل أربع كلمات منها الآن. ثم سألته إن هو جائع. أومأ وقبض قصب ذراع الكرسي لينهض. قبل باركنسون كان طوله ستة أقدام، ووزنه يبلغ 220 رطلا. الآن هو يتراجع يوميا، وإذا وقف، كما يفعل حاليا، لا يعلو رأسه فوق رأسي. ترنح، ألقيت وركي بلصق فخذه ومررت ذراعي من تحت إبطيه، وتابعنا طريقنا إلى البيت وكانت أخشاب الشرفة تشخر تحت خطواتنا.

ما أن بلغنا المطبخ، مررت مريولا من فوق رأسه، وناورت به حتى الطاولة، وضبطت الراديو على ما بعد المحطة الوطنية واخترت “أغنيات العصافير في الأراضي الوسطى”، وهي بث مسائي عن عجائب المنطقة. تناولنا بالأمس بقايا أطعمة سابقة، وكانت الوجبة شهية - بوبوباس من نوعين، بالفاصولياء الحمراء، وبلحم العجل المفروم.

2147 HoughtelingSaraوالدي من علمني هذا الطهي، لأنه تعلمه قبلي، حينما كان متطوعا في كتائب حفظ السلام في السلفادور في 68 و69، وأي شيء يذكّره بذلك الوقت يسره. كان سهلا للمضغ وسهلا بالابتلاع. سكبت آخر لقمة في فمه، وجاءت من بين شفتيه المطبقتين همهمة تدل على استحسان المذاق. تبعها همهمة خافتة، وكانت هذه طريقة دماغه بالتعبير عن الرضا. ثم أحضرت طبقا من الآيس كريم بالشوكولا لكل واحد فينا، من مكانه المفضل في المجمع، قرابة متحف الفنون، وكان يعمل هناك في قسم الترميم.

كان متعبا جدا بعد تلقي الجرعة الليلية من الدواء، ومتعبا من الطعام، ومن المشي من الشرفة إلى المطبخ، ثم من المطبخ إلى الحمام، وهذا كل ما بوسعي لأحتفظ بوعيه وأنا أنظف له أسنانه.  لم أكن أستعمل المطهرات، مع أن واحدا من أضراسه يبدو بحالة خطيرة. ألبسته منامته الرقيقة التي أحضرتها أمي في عيد الميلاد السابق، ولنكون كلنا بمنامات متشابهة، وذهبت به إلى سريره، وقيدته على السرير، كي لا يتدحرج أو لا يفكر بالتململ والحركة. 

وضعت الشاشة الصغيرة على طاولته. ويمكنني أن أقول منذ الآن أنها ستستهلك البطارية. ومع ذلك هي أقل تكلفة من بيوت الرعاية أو زيارة الطوارئ. ليس لأن وضعنا المالي الحرج هو السبب الأساسي لتجنبها. والدي هو من دفعني لأقسم أن لا أقترب من كليهما. وهو واضح بإعلان رغبته: أن يموت في البيت. في سريره. دون أنابيب ولا أجهزة مغذية ولا إجراءات فائقة الخصوصية. “ليس مثل أمك المسكينة”. هذه التوجيهات ناقشناها قبل خمس سنوات حينما كانت حالته صعبة. كنا في عيادة طبيب الأعصاب وهو من قال:”لنتكلم عن هذه الأمور ما دام قادرا على ذلك”.

ضغطت على زر الشاشة واشتعل الضوء الأحمر. كان أبي نائما. وهيأت السماعة، وبدأ الجهاز يرن إيذانا بالتسجيل حتى غادرت الغرفة إلى الردهة. وتابعت الهبوط على السلالم، ثم غادرت البيت، واتجهت إلى الخط الحديدي، وكنت حريصة أن لا أضع عيني بعين حارس الليلة، والذي كان يلهو بكلمات متقاطعة، وهو يرتدي القفازات. وضعت السماعة على أذني. حتى بعد التقاطع كان بمقدوري التقاط صوت أنفاس والدي، وسعاله وغرغراته. وكان هناك صوت خشخشة، وأدركت أن الإشارة تتقاطع مع أجهزة أخرى لها نفس الموجة. وسمعت صوت بكاء طفل، ومحطة إذاعة تعزف الموسيقا، ومكالمة هاتفية يتخللها توبيخ “بربارا” بسبب الإنفاق على السمك، والهدايا، والأحذية. ثم صوت والدي مجددا.

عدت أدراجي إلى الشرفة، والكرسي الهزاز، لتفحص الغيوم والخفافيش التي تطارد حشرات بين أسلاك الهاتف. ونعبت بومة من أغصان قيقب قرب الباب. سحبت الوشاح على كتفي، وأعدت التفكير بمشكلة الأمراض - كيف أن الوالد يحتاج لمساعدة موثوقة ودائمة لمتابعة أعماله، والتي هي كل شيء في حياته. وكيف أن ديغاس أصابه العمى، وبيتهوفن الصمم. وشومان: شلل الدين، واضطراب السمع، والجنون. وأمي ذات القامة الفارعة الورم في صدرها. عدت أدراجي للطابق العلوي، ولم أجد وسيلة للنوم. تناولت قرصا منوما، وبعد تسعين دقيقة قرصا مهدئا، وأخيرا سقطت بالنوم، وأنا أسمع موسيقا القطار، وإيقاع صفيره، ولحنا من موجتين، كل منهما يتبعه صمت، ثم نصف لحن عزيف بوق. ورنت الأجراس مع هبوط البوابة عند التقاطع. لو أنني فصلت العجلات الثلاثية التي تقعقع عن الخط الحديدي، فإن سرعة القطار وهو يمر منها سيشبه هدير موج البحر.

و فشل الهاتف في إيقاظي في الساعة الرابعة، وأعتقد أنني كنت أحلم حينما سمعت كلام والدي بالإسبانية التي يتقنها. قال بصوت مرح:

”Buenas noches, Isidro. ¿Cómo está usted?¿Cómo está su papá? ¿Cómo está Don Chepe?”.

“ليلتك سعيدة يا إيزيديرو. كيف حالك؟ ووالدك؟ كيف دون شيبي؟”.

استيقظت، وجلست، وعركت عيني، وبحثت عن الضوء، والاسم يرن. إزيدرو؟ إزيدرو؟. منذ أيام عمل والدي في كتيبة السلام في السلفادور، كان أحد الأبناء السبعة من العائلة التي استضافت الوالد. ابن دون شيبي، رجل الدين الذي احترمه والدي ووصفه في عدة مناسبات بأنه مخلص، ومستقيم، وجاهل، وكريم، وشجاع. دون شيبي الذي أيده والدي ووقف بجانبه حينما ضجر منه المالك بسبب إيوائه لوالدي وبسبب نادي الكتاب الذي أنشأه لشباب البلدة الذكور. والآن أنا أقل تحيرا من نداء إيزيدرو لو قارنت ذلك بكلام والدي بإسبانية سلسة. زحفت من السرير. ورغبت بالاستماع.

بدأ والدي ينوح من خلال الأزيز قائلا:” آه، كلا”.ثم تنهد. وتخيلت دون شيبي ميتا. خطوات والدي تترنح نحو الطاولة. وجرار ينفتح. ويبحث في صينية الأقلام القديمة، وأغطيتها المعدنية ترتطم ببعضها بعضا، ثم بقرقعة رنانة يضرب الهاتف الأرض ويرتجف البيت بينما والدي يسقط. أسرعت على السلالم  نحو الأسفل ومن خلال باب غرفة النوم رأيته على البساط، شكرا لله، كان رأسه بعيدا عدة بوصات فقط عن الطاولة وإطار زجاجها وعلبة الملاقط والشكالات والفرشاة والملفات. ثم ترن السماعة من بعيد.

ومن الأرض يأمرني والدي:”Llama a Isidro. Ahora mismo”. “اتصلي بإيزيديرو حالا”. يبدو أنه شيء مهم. كان وجهه أبيض ناصعا وراء لحيته السوداء الرمادية وكان فمه مفتوحا. تفحصت ساقيه وذراعيه بحثا عن عظام مكسورة. كانت ركبته مثل مخطوطة قديمة، مبقعة بعدة دوائر داكنة. دفع يدي بعيدا وقال:”اتصلي”.

توسلت له قائلة:”كيف؟”.

أشار للورقة القانونية الصفراء التي ضحى بنفسه للحصول عليها. وسجل شيئا عليها بعجالة، ولكن الأرقام كانت تبدو كأنها مكتوبة أثناء زلزال. جربت *69 فرد المقسم. حاولت عشرة أرقام مختلفة، ولكن أيقظت أغرابا لا أعرفهم في أرجاء البلاد. ولم تمتنع يدي عن الرعشة. لم يرد أحد يدعى إزيدرو.

علا صوت تنفس الوالد، وتساءلت هل أصاب ضلعا من أضلاعه، أم أسوأ. كان لا يزال على الأرض، ولم يك لم يكن ممكنا أن أرفعه دون أن يبذل بنفسه جهدا، ولذلك انتظرنا، كلانا مستلقيين هناك، حتى استعاد وعيه. وأخيرا، قبضت على يده، وسحبته للأعلى نحو سريره، وهناك ربت على وجهي وقال بمحبة “فتاة قوية”. وضع خده على الوسادة، وبدأت أنتبه للمشكلة، كان يتألم، وتوقعت أولا أنه محموم - ربما التقط عدوى من مكان ما، ربما بسبب ذلك السن. ولكن في النهاية أوضح لي: أنه علم أن إزيدرو سقط بيد الشرطة عند الحدود. والآن هو في مركز الاحتجاز، وبانتظار الطرد. وأراد من والدي أن يدفع الكفالة - 15000 دولار - نقود تسمح له بإطلاق سراحه ثم مواجهة قضيته من الخارج. ووعد إزيدرو أن يحضر جلسة التحقيق. ووعد والدي بإعادة المبلغ.

كانت لدينا مشكلتان، كبيرة وصغيرة، ويتوقف ذلك على طريقة نظرتك للأمور. لم يتذكر الوالد أو لم يسمع أين هو مركز الاحتجاز أو ما اسمه. ولم يكن بحوزتنا المبلغ المطلوب. وأنا أعلم أن البيت مرهون وأعيد رهنه وكل شهر أدفع لحد الأدنى من المبلغ ببطاقة الإئتمان. وعلى ما أفترض هناك مشكلة ثالثة. كان إزيديرو دائما إما “مضطربا” أو “مصدرا للاضطراب”.  ولم يكن بمقدوري فهم ما يقول الوالد لأنه أغفى بمنتصف الجملة. راقبته لفترة طويلة. النور مشتعل، وبه تفحصت الصور الموجودة على الطاولة، وكان عددها ثلاثا. الأولى والدتي في بدايات زواجها، وهي تسرع وغمامة من الثلج على الزلاجة التي هيأها الوالد من أجلها.  الثانية في بستان. وكنت بعمر أربع أو خمس سنوات بأفرول من الشاموا، وعلى كتفي والدي، وعلى  رأسي تفاحة. والأخيرة في السلفادور. ومن الغريب أنني لم أنتبه لها من قبل، وهي صورة من بين ثلاث فقط في غرفة عمل والدي - ملجأه - صورة من أيامه في الخارج وبجانب صورتي وصورة أمي.

 التقطت الصورة الفوتوغرافية، ونفخت الغبار عن الزجاج، وتأملت المشهد. دون شيبي، وزوجته، وأبناؤه الخمس يقفون أمام باب مائل وباهت. والجميع بثياب بيض، والشعر ناعم ومصفف بأناقة. على ما أعتقد أن إزيدرو هو الطفل في الصورة، وبين ذراعي أمه. ويد دون شيبي المرفوعة تستقر على كتف والدي. وكان والدي الوحيد بقميص غير مكوي ولكنه طويل وأسمر وبشيالات ومع ابتسامة بطريقة مريحة وبسيطة.  ولكن لم أتعرف على تعابيره، حتى قبل الباركنسون. كانت غير واضحة، هذه النسخة السعيدة منه التي لم تشاهدها  عيني، أو التي تنتمي لفترة من الماضي. هذه المشاعر ليست جديدة - وحتى كطفلة أتذكره وهو يعرض الصورة علي ويقول بصوت عاطفي:” فكري كم من الصعب علينا نحن الآباء أن نحتفظ بوجوه وثياب أولادنا نظيفة”.

والآن انظروا لهذا. هؤلاء الأولاد أكثر وسامة منك ومني في أي وقت ما، وها هم يعيشون في بيت بأرض ترابية. لكنه أنظف بيت وقفت عليه بقدمي. وأتذكر تعاستي لأنني فشلت من الحياة بمقاييس أبناء دون شيبي، الذين حدثني والدي عنهم على فترات. كنت شابة ولا يمكنني التساؤل إن كان يبالغ، أو يختصر. ولا أريد أن أعتقد هذا.  

حاولت أن أنظر في وجه إزيدرو الطفولي، ولكن الصورة لم تكشف شيئا أكثر من حزمة من الظل - أنف وجبين وهذه البقع الغامضة أيضا، الأم. لا بد أنها كانت تهدهده وتدلله، وتعتني به، ليكون هادئا في الصورة. وهذا حول أفكاري مجددا لأمي ولحقيقة أن أحدا منا لا يستطيع أن يتذكر أحاسيسه، أن يكون حزمة بين يدي الأم الحاضنة. عدت للسرير ولم أتمكن من النوم. وحينما نمت أخيرا، حلمت أنني كلمتها بالهاتف العمومي. وتبادلنا الكلام حتى نفدت النقود من الحصالة، ولكن عن ماذا تكلمنا، لا يمكنني أن أتذكر.

في الصباح التالي، أيقظتني يد والدي وهي تربت على كتفي وترتعش. وهو ما أرعبني. أولا لأنه صعد على سلالم البيت الضيقة وحيدا، وثانيا لأنني لم أسمع صوت اقترابه. جلست في السرير، والقلب يقرع كالمطرقة. وكان المطر في الخارج يسيل بغزارة.

قال:”لإيزيدرو خال في فلوريدا. دون أرتورو. وهو من أرسل لك الثوب الأصفر”. استغرقت دقيقة، لأعود للخلف ما يزيد على عشرين عاما، وبشيء من المرح الشقي تذكرت الهدية، الثوب، تلك التفصيلة من الحرير والتول التي كانت صغيرة على حجمي لدى وصولها، كانت تشبه بذة كسارة بندق أو زي تعميد، وليس شيئا عمليا، من النوع الاقتصادي الذي تعلقه الوالدة في الخزانة. أين ذهب؟. وتذكرت لماذا أخبرني الوالد بذلك. تذكرت مسألة الكفالة، والولد الضائع. نهضت وأنا منومة،  وبحثت عن حامل ملفات الوالد. بعض البطاقات كانت مطبوعة، دليل آخر على سيرة حياة الوالد وشغفه بأقلام الحبر القديمة. فتشنا في بطاقات قديمة لجامعين من غروس بوينت ومتاحف في هيوستن حتى وصلنا أخيرا إلى أرتورو فلوريس، خال إيزيدرو، شقيق أمه.

أن يكون الوالد قادرا على تذكر كنيته عبارة عن لغز آخر من ألغاز باركنسون. طلبت الرقم، وتكلمت مع زوجته، وهي أعطتنا رقم موقف السيارات الذي يعمل فيه زوجها.

طلبنا الرقم الآخر. بعد رنات كثيرة، رد دون آرتورو، وأصر الوالد أن يكلمه، وبالإسبانية. ومجددا، كان بليغا لحد يثير الإعجاب منذ البداية - وأتذكر الآن، أن طبيب الأعصاب أخبرنا أنه من الأسهل أحيانا على مريض الباركنسون أن يتكلم بلغة أجنبية من الكلام بلغة لسانه الأم. وحينما بدأ الوالد ينفعل، تابعت. إزيدرو لم يكلم دون أرتورو. ويبدو أنه تلقى مخابرة واحدة، وكانت من الوالد. وأبدى الاستعداد لمخابرتنا إن وردته أنباء أخرى.

وقال:” اسمعي يا آنسة”. كنت على وشك أن أغلق الخط. تابع:”سوف يطرد. أنا أعلم أن والدك رجل طيب. ولكنه يهدر أمواله. إن اتصل بي ابن أختي سأقول له: آسف. لا يمكنني مساعدتك. سيكلفني عشرة - أو خمس عشرة - ألف، ومقابل لا شيء”. أصاب الغم كلينا. ويمكن أن أؤكد أن الوالد أصابه الاضطراب لأنه غرق بالنوم لفترة أطول، وعندما استفاق كانت معدته غير مرتاحة وأنفق وقتا طويلا في الحمام. ونظرت من ثقب الباب لأتأكد أنه لم يسقط مغشيا عليه. وطوال اليوم هاتفت مراكز الاحتجاز ومحامي الهجرة وأرقام طوارئ حقوق المهاجرين والشرطة في دوغلاس وناسو ونوغاليس وأريزونا. ثم بدأت بتكساس، وسط تكساس. وبعدها كاليفورنيا. وأخبروني أن هذه المراكز لا تستقبل المكالمات. وعلمت أن الموقوفين يدفعون لقاء مكالماتهم، وأن مكالمة واحدة يمكن أن تكلف أتعاب أسابيع من العمل (فالموقوف يحصل على دولار واحد في اليوم). وعلمت أن هناك لوائح تحدد أماكن الموقوفين. واستعمالها يتوقف على أن تعلم مسبقا تاريخ ولادته بدقة وتعرف اسمه الكامل وبتهجئة صحيحية. وكان لأحد المحامين الذين كلمتهم تكاليف محددة. وأخبرني آخر أن الرقم الذي سجله الوالد قد يكون رقم بطاقة هوية الموقوف إزيدرو. ونصحني ثالث بلوس أنجليس لأن أتعاب المحامي وكفالة الموقوف أقل على وجه العموم. وحسب ما ورد في موقع visahelp.com أن كفالة إيزيدرو البالغة 15000 دولارا يعني أنه مصنف بين الهاربين الخطرين.

و لحق بي التعب والعصبية. وكذلك الوالد.

سألني وهو على كرسيه في الشرفة:”ماذا علينا أن ...؟”. وكرر العبارة مجددا، بدأ وتوقف. ونعبت البومة من شجرة قيقب الجيران.

“علينا أن نتصرف حالا”.

“لا يمكننا”.

تحرك الوالد وأنّ قصب الكرسي. قال:”النقود”. ولكن كنت أفكر كيف وأنا طفلة، في يوم عيد ميلادي، حملنا الساطور الذي اشتراه من السلفادور وقطع به قالب الحلوى. وكيف أن بوط التسلق الذي ارتداه في كتيبة حفظ السلام ترك علامة على الأرض في الردهة، وكيف أن الكتب المصفرة والمجعدة بسبب جماعة القراءة ذات القدر السيء بقيت مكومة على الرف خلف البيانو. مختارات أشعار خوسيه مارتي، وترجمة الغريب، والشيخ والبحر. كان الوالد يوشك على البكاء.

قال:”يا لها من خسارة”.

لم أكن واثقة مما يقول، ولم يكن لدي وقت للسؤال. كان علي أن أساعده بروتين وقت رقاده ثم أذهب لأول ليلة عمل لي. كانت لفمه رائحة كريهة. إما بسبب الضرس أو لجفاف الحلق - أثر جانبي آخر لعلاجه، والذي يبدو تقريبا وأحيانا منذرا بالمخاطر كالداء نفسه.

أخبرته إلى أين سأنصرف. ولا يمكنني أن أعلم ماذا فهم، ولكنه قبض على ذراعي بإحكام ووجد صعوبة بإفلاتي. أعلم أنه داء الباركنسون، ولكنه جعل وداعنا أقوى وأرق. وكنت مضطربة بسبب المغادرة. وبدأت أتعرق. وبذة الليل لم تنفعني - وضعت قبعة من القماش وسروالا مخططا رقيقا وسترة العمل الخضراء، والتي لم تكن تبدو جديدة. وقرقع شيء في جيبها - ووجدت قطعة فارغة من ورق الألومنيوم لحبوب الكافايين، وفي الجيب الآخر عدة قطع من بدائل النيكوتين، ومسبحة، واحتفظت بها دون تشاؤم. وحملت معي السماعة الصغيرة، وتركت النور مشتعلا في الممر، وأغلقت الباب الأمامي، وبغضون خمسة وأربعين ثانية كنت على السكة، قبل نوبتي بخمس دقائق. حصلت على إشارة من كريسينسيو،  وصافح يدي وقدم لي كعكة لا تزال بعلبتها البلاستيكية، وبقايا من وجبته، وكتاب صلوات مهترئ قال إن حارسا آخر قدمه له في أول ليلة عمل.

قال:”مسرور لأنهم وجدوا شخصا أفضل من ريتشي”. ومن الواضح أن ريتشي هرب من نوبته وبعد ثلاثين دقيقة اعتقل بتهمة محاولة السرقة بالإكراه في مخزن كبير في نهاية الشارع. وأضاف:”التمسك بالموظفين مشكلة”.

سألته:” لماذا”.

قال وهو يضع حقيبته على كتفه:” سترين”. ثم انطلق بدراجته وذاب في الليل.

أول شيء رأيته شخص ينزه كلبه، وبيطري متشرد أعرفه من موقف سيارات كروغير، وبعض العدائين وسماعاتهم في آذانهم. ثم المحامي الذي حاول ريتشي سرقته، وكان يتزلج. نقلت نظراتي بينهم، وفحصت كل واحد منهم بنظرة سريعة، ولكنهم كانوا أشخاصا محترمين.

وصاح أحدهم:”شكرا لكونك معنا”. وشاهدت عددا من الجيران، ولم يعرفني أي منهم، إما بسبب السترة أو التقدم بالعمر. وجاء أول قطار يعول. جهزت صفارتي، وحملت جهاز الإرسال بيمناي، ولوحت للسائق بيسراي. وسمح لذراعه أن تتدلى من العربة وأشار لي “بتلويحة” هاواي. وشعرت بومضة من الحب لهذا الرجل. ومر قطار آخر، ولوحت مجددا. وربما لم يشاهدني السائق. أو لعله غير معتاد على التلويحات. وفي الحادية عشرة، بلغ البرد أوجه ورغبت أن لا أخرج يدي من جيبي ما لم أضطر. وخبا شكل آخر منزهي الكلاب في الشارع المنحني والمغطى بالأوراق. ووجدت نفسي وحيدة. ومعي إيقاع القطارات الراعد وصوت وشيش الشاشة الصغيرة.

حل منتصف الليل. مرت عشر قطارات. وتقدم كلب شارد على السكة. حاولت أن أخدعه ليبتعد مستعملا قطعة كعك محلاة. قاطع شخير الوالد بالسماعة أصوات القطار. كانوا يسمون أنفسهم “صانعو الفقاعات”. في القطار تتجمع الفقاعات في فمك. وتوقعت عدم وجود عبارة تستحق المشاهدة في هذه الساعة. ولكنهم استمروا بالكلام فيما بينهم. وفكرت بإيزيدرو، ذلك الصبي الباهت في الصورة، وكيف كان عبوره من الحدود، والآن الساعات التي يمضيها في الزنزانة أو مركز الحجز المزدحم متساءلة كيف سيتصرف والدي.

الساعة الواحدة صباحا. الساقان خدرتان. خمس قطارات إضافية. في الساعة الثانية، كنت أترنح، لاعنة نوم ليلة أمس غير المتواصلة. مرت قطار شحن عملاق يقرقع مع غمامة من بخار الديزل العاصف. كان المنبه يشبه صوت بوق الجاز وهو يعزف واه - واه - لكن انفجار وزعيق صوته كان موسيقيا، نوع من الصوت الذي يجلب الصمم والذي لا يمكنني تفسيره. ثم عادت أفكاري مجددا إلى إيزيدرو والقليل المخجل الذي أعرفه عن السلفادور. كنت أتابع روميرو مع الوالد وهو يبكي. الهزات الأرضية. العوائل الأربعة عشرة. رافق دون شيبي الوالد إلى أكاجوتلا، وأخبرني الوالد بعداء الهنود للإسبانيين هناك. ولكن لم أتمكن من مشاهدة أو سماع الأخبار بعد عودتي من المدرسة إلى البيت ولم يكن بمقدوري تسمية رئيس السلفادور لو حاولت. هذا سيخجل الوالد. يا له من خراب.

في الثالثة، بدأ الليل ينبض بسترات وراء محيط بصري. وفي الرابعة، اقترب مراهق يرتدي سترة رسمية بلون برتقالي وأزرق مثل بذة المدرسة. وكانت موسيقاه عالية ويمكنني سماعها وهي تنفجر بإيقاعات طبول وغيتارات داخل سماعاته. أخرج سيجارة من علبة، وقدم لي واحدة.

رفضتها، وبعد لحظة، بحثت في جيبي عن بديل النيكوتين وقدمتها بالمقابل. ضحك، بصوت مرتفع، وربما بسبب الموسيقا. وصاح يقول:”شيء جيد. يجب تجريبها”.

وبدأ قوس الضوء يلمع، واندفعت نحونا 4:44. منحني الصبي نظرة جانبية وارتكز على أطراف أصابعه. وبخطوة واحدة، أصبحت بجانبه، ويدي ممدودة بزاوية منخفضة، كما اعتادت الوالدة أن تفعل في السيارة لو كنت أجلس بالمقدمة وعليها أن تقف. قلت له:”ابتعد عن البوابة”. ولكنه لمس الحاجز الحديدي، من الإبهام حتى البنصر، كما لو أنك تحاول أن تلعب لعبة غوينيا.

قال:”لا أسمعك”. وتخلص من السماعة الضخمة الموصولة بأذنه ثم أعادها وقال:”عليك أن تبرد”.

ما أن مر القطار، أخذت نفسا بطيئا هادئا. ورغبت أن أسأل إن كان أبواه يعرفان أين هو وماذا يفعل في الرابعة صباحا. وأردت أن أسأله ماذا يستمع. أردت أن أسأله عن أي شيء، لا على التحديد. هذا ليس لأن وجوده يسبب لي القلق ولكن بسبب غرابة وشذوذ الموقف. تنشأ علاقة عجيبة من التقارب بين غريبين يقفان متقاربين على الرصيف. لهوت بالمسبحة، وتراجعت على كعبي قدمي، ونظرت لأعلى كأنني أتأمل السماء، وكانت تضيء بنور رمادي فوق أسلاك الهاتف. وقفت البومة على أحد الأعمدة وانتصبت أذناها. كنا على الأعشاب. ضغط الصبي على زر المتابعة، وانتظر الإشارة، ولكن لم نشاهد أي مركبة في مجال الرؤية. قال من فوق كتفه “الأمان أولا”. ثم عبر بخطوات غير منتظمة وطويلة. في الخامسة، على بعد ساعة من نهاية النوبة، بدأ ضوء الشاشة يومض. وارتفعت الخشخشة، ثم رنت السماعة وبعد ذلك سقطت بالصمت والعتمة. واندلعت موجة من الأدرنالين في ذراعي حتى الرسغين. من بطني حتى الركبتين. وأمكنني تخيل الجرار، على يمين المغسلة، ثلاثي - مثل المجال الذي يكون فوق الشوكة. لو مر أحد الجيران، يمكنني أن أخبرهم أين البطاريات. أي منهم، حتى الفوضوي ابن المدرسة الثانوية. سأمرر لهم مفاتيحي. الآن الساعة 5 صباحا.   وهو توقيت سيء - الوالد ينام نوما خفيفا في الصباح، ويستيقظ باكرا. وهو الآن جائع، وبحاجة لدوائه، فضغط دمه منخفض. وكسر كوعه في العام الماضي وهو يبحث عن طريقه إلى المطبخ لتناول الإفطار. انتظرت موعد مرور القطار التالي ولكن لم أشاهد أحدا في مجال البصر. فحصت السكة، والمدرج، والشجيرات البارزة من خلف أسلاك سور بيت الدجاج. وفي ضوء مصباحي، بعيدا، اعتقدت أنني أشاهد لونا برتقاليا، ولكن في النظرة التالية، كانت فقط الومضة التي مرت في بصري وتشبه ما أراه مع مرور القطارات بأضوائها الساطعة والتي تسبب الغشيان للشبكية.

 تأملت السكة مجددا، مرة، اثنتان، ثلاث، لا أحد هناك. وليس من المفترض أن يأتي القطار التالي قبل سبع عشرة دقيقة. وهكذا فارقت مكاني.

في البيت، كان الوالد بالكاد قد تحرك. وكانت تجهيزاتي الطبية موضبة، أسرعت للمطبخ ومن خلف البيت إلى موضعي مع عبوة بطاريات جديدة. والسترتان تهتزان بصوت حفيف حول أذني، وكنت أتعرق كالمجنونة، وراحتاي الرطبتان والمرتعشتان جعلتا مهمة إخراج البطاريات، من العلبة البلاستيكية الصلبة، صعبة. ثم تدبرت أمري. وأودعت الخرطوشتين في التجويف. واشتعل الضوء الأحمر. وسمعت الأزيز، وصوت غيتار، ورضيعا يعول. ووجهت الهوائي الغليظ باتجاه نافذة الوالد وسمعت أنفاسه.

وصل إبراهيم في السادسة مع مبرد أحمر وكأسين من الفلين يعلوهما بخار القهوة. أخذت أحدهما وجرعت منه ولم يكن حارا جدا وكان حلو المذاق. وحينما عرضت أن أدفع بدا عليه الشعور بالإهانة.

سألني:”كيف مرت ليلتك؟”.

قلت:”هادئة”. وقدمت له التقرير اليومي. وترقرقت القهوة في معدتي. ولم يتوقف جفناي عن الحركة. وتخيلت البيت، وغرفتين وأمكنني الإحساس بنسيج الغطاء الأخضر على أصابعي وأنا أجرها إلى الخلف لأغطي نفسي. ولكن لسبب ما أضفت:”فقط مراهق في الرابعة بسترة  من نوع غريزلي”.

“هل لفت انتباهك؟”.

“كلا. فقط - اهتمام. ولد، وحده”.

ضغط إبراهيم فمه. وقال:”هذا ليس ضد القانون. أنت تعرفين ما يجب أن تقلقي بشأنه”.

لا زلت أفكر بهذه الكلمة، القيمة، وأنا أعود إلى البيت، وأمر فوق بتلات الكرز والتي تبدل لونها بالنور. وفي المطبخ، جهزت وجبة شوفان وملأت علبة أقراص والدي واستمعنا لعزف الأمس من نداء الطيور من محطة الميد ويست “المنطقة الوسطى”.

وذكر مضيف البرنامج بصوت لطيف جدا وبطيء:” برنامج اليوم سيقدم آكل الزواحف وكسار الجوز والبقويقة والقرقف”. وكأنه يتوقع وجود طير مجاور. وتابع:”هل تعرفون أن صديقنا القرقف يضيف نغمة دي حينما يكون خائفا ومتنبها؟”.

في التاسعة اتصلت بعيادة كلية الحقوق في الجامعة. ولم يقبلوا الحالة، وركزوا على ملجأ النساء والأطفال. ولكن طالب الحقوق أخبرني أن أزيدرو ربما أرسل إلى لشمال مثل كولورادو أو الغرب مثل أوكلاهوما، وهكذا بدأت أفتش في الخريطة والإنترنت آملة أن أجد أحدا يتكلم معي. جربت قنصلية السلفادور. كانت تبدو حالة إيزيدرو يائسة ولكنها  بشكل ما أسهل من أي شيء آخر ويمكن حلها. وسقطت بالنوم متأهبة. 

عندما استيقظت، استمعنا إلى إسطوانة أوبرا ترنادوت التي تعشقها الوالدة. ولمس والدي يدي حينما وصلنا إلى نيسون دورما. ثم بدأ المغني السويدي بنبرته العالية المشهورة قرابة النهاية. كان يغفو ويستيقظ وأنا أقرأ بصوت مرتفع من مجلة طلاب كليته.

حان وقت العمل، ويمكن القول إنك بحاجة لقلب مجرم لتتكون متيقظا. عدت إلى السكة، وذرعت المكان بخطواتي حتى اختفى آخر شخص مع كلبه. حاولت مضغ بديل النيكوتين، ووجدت أن طعمه مثل القرفة ولكنه أحرق خدي من الداخل وجعلني أصاب بالدوار. ولأربعين ثانية كنت متنبها لدرجة رغبت أن أغادر بها جلدي زحفا، وشعرت بالراحة بعد توقف الطنين. وبعد ذلك لم أستيقظ إلا على صوت القطار. حملت السماعة ووضعتها في ياقة السترة لأسمع صوت تقلب والدي. وتابعت المشي. ثم تبولت. وأخبرت نفسي إن الطقس بارد ولا يمكن لأحد ارتكاب جريمة انتحار، ولكنها حماقة برأيي. وقرصت معصمي، وعضضت شفتي، وصفعت وجهي، وقفت، مشيت، جلست، ثم غفوت. في الرابعة سمعت موسيقا قبل أن أرى الولد بسترة السكة. اقترب، والسيجارة تبرز من بين شفتيه. سألني:”أين كنت أمس؟”. وتخلص من سماعته وحرر كتلة من المعدن الميت وأضاف:” عدت ولم تكوني هنا؟”.

تأتأت بالإجابة قائلة: “في استراحة دورة المياه”. حرك أصبعه وقال:”لا تكذبي”. كان أظفره مثلي مقروضا حتى اللحم. وكان خداه موشومين برشة من النمش، وكذلك خداي. ضغط على زر المتابعة، وانتظر الإشارة،ثم وعبر الطريق المهجور.

كانت الليلة التالية أسهل. لم يظهر الولد. وكفتني البطاريات لثماني ساعات. ولكن زرت الوالد في كل حال بعد 4:44 ومرور العبارة. وتأقلمت مع حياة بديل النيكوتين، ولروتين نوم والدي. ومر أسبوع، ثم اثنان. وحققت خلالهما تطورا محدودا بالبحث عن مكان إيزيدرو. وتعرفت آنذاك على ثماني شخصيات باسم إيزيدرو بيريز في مراكز الحجز المنتشرة على الحدود الجنوبية، ومع ذلك لم نعرف إن كان إيزيدرو قد اعترف باسمه الثاني الحقيقي. وجاء عامل طوارئ من الرعاية الطبية لفحص البيت، وراقبته يتسلق السلالم التي تفضي بنا للدوش الوحيد وحوض الاستحمام في الطابق الثاني لمعاينتها. ثم تنحى بي جانبا وقال “هذا فخ للموت”. وعندما غادر قلت للوالد:”كرامتنا محفوظة، ولكن السرية مشكوك بها”. فقبض على يدي بقوة.

كانت ليلة أربعاء. وبعدها سأغادر لستين ساعة. قلت وأنا أقبل صدغه الخشن والندبة الملتئمة:”شكرا لله إنه الأربعاء”. وانزلقت بسترتي الثقيلة وغادرت إلى العمل. كان أسبوعا طيبا. لا سقطات، والنقود في جيبي، وعدت للمدرج حينما مر قطار شيكاغو السريع. وتحدثت مع أحد منزهي الكلاب الاعتياديين، وهي محللة نفسية تعمل في المنطقة ومتطوعة للعمل في المتحف الفني وأرادت أن تقابل الوالد. ولديها مأوى مع مدبرة منزل تدعى آبي.

وأخبرتها أنني مشغولة بشيء أكاديمي وثلاث علب من البحوث عن كاميل كلوديل، وهي مكومة في المرآب مع رفش الثلج، وسيارة شيفروليت تحتاج لمعايرة، وحينها جاء من الشاشة الصغيرة فحيح مرعب وهمهمة غريبة تعني أن الوالد ينهض من سريره. ولخمس ثوان لم أتصرف. ثم من بين أغصان السنديان الأبيض لاحظت ضوء الحمام يشتعل. وكان هناك صوت دحرجة سابيربان في نهاية الشارع. وكان أربعة أشخاص بجانبي على مدرج القطار. فأسرعت بقفزة واحدة.

صعدت على سلالم الشرفة، وناديت اسمه. لابد أنه مغشي عليه في الحمام - من المشاهد علمت أنه لم يصل لدورة المياه، الوالد المسكين. كان المكان مضطربا، وهو مثله. وضعت منشفة على الأرض، وعلى المنشفة كرسي هواء طلق بلاستيكي، ومسحت دموعي. كان الوالد يعاني ولكنه ليس متضررا على ما يبدو، أو على ما آمل. صامت ويعاني من الدوار قليلا. وسرني أنه من النافذة، وفوق حبل الستارة، يمكنني رؤية السكة. وكان الصبي ذو السترة البرتقالية يتجه غربا، ويداه الشاحباتان تضربان الهواء. والمحامي على الزلاجة. والمحللة، كما هو واضح، بانتظاري. وبصمت وثقت بها وبآبي. فهما ستحرسان السكة. من فضلكما. قلت لنفسي.

نشفت الوالد، واستبدلت له المنامة، وسكبت لكل منا طبقا من اللبن. وفي طبقه أضفت القليل من مسحوق أقراص المهدئات النفسية لأنه ينكمش من أشياء لا أعرفها ويتكلم عن راهبات قتلن في سانتياغو نونوالكو. وكنت أحاول أن أساعده ولكن لا يمكن أن تضمن تماسك أي شخص يتوهم أشياء فظيعة ويمر بسن الكهولة قبل الأوان.

قلت: لا يمكنهم إلحاق الضرر بك. أنت آمنة معي”. ولكن كيف يتكلم عن إيزيدرو والزنزانة متخيلا وجوده فيها، وعبوره الصحراء. قال:” لا يمكننا مساعدته يا ميغ”. وقلت بدوري:”أعلم”. قدمت له الماء مع شلمونة، وملاءة نظيفة، ثم عريت السرير، وأحضرت والدي إلى هناك، ومددته عليه بقوة فبدأ يئن. تركت يدي على جبينه البارد حتى فتح فمه وعلمت أنه غرق بالنوم. استبدلت بطاريات الشاشة وضغطت الزر. وحملت طرفا من الهاتف وقلت: نعم، نعم- أوه، هوه، نعم. ثم ابتعدت خطوات قليلة، كان هناك إعلان عن قروض يومية باللغة الإسبانية. وطفل يبكي، ويحاول أن يجلس. ثم خشخشة. ثم تنفس هادئ.

عدت إلى السكة، وفكرت بوجه الوالد النائم، كيف يبدو مثل قناع ميت، والمقالة التي بدأت بها عن أقنعة الموت وفشلت في استكمالها - مارات كرومويل، وامرأة السين المجهولة L’Inconnue de la Seine. وفكرت كيف أن إحدى جرائم الباركنسون هو تصلب العضلات. وغالبا ما يكون أحد تعابير وجه والدي الغضب. وأتذكر أنه أخبرني منذ سنوات قائلا:”توجد ثلاثة وأربعون عضلة مشابهة، ورودين يعرفها كلها”. كنا في الأستوديو، وحاليا تحول لغرفة نوم، وكان يحزم حقيبة صلبة أودع فيها أدوات عمله، استعدادا للسفر برحلة إلى نيويورك، إلى فريش كيلز لاندفيل في جزيرة ستاتين، حيث تخزن أكوام فظيعة من نفايات مركز التجارة العالمي. وبينها، وهي سبب رحلته، نسخة من جين د ير  Jean d’Aire،   أحد تماثيل  مواطني كالي بنحت رودين.  وكان محفوظا في مكاتب كانتور فيتزجرالد في الطابق المائة وخمسة من البرج الشمالي - “متحف في السماء”. وتم العثور عليه على بعد ربع ميل، مخدوشا لكن سليما.

بدأ النور بالوميض عند المدرج ففركت راحتي بوجنتي. ومرت قاطرة، وكانت نوافذها مغلفة بلون أزرق، كما لو أن كل القطار مليء بالماء وخيال المائة راكب كلهم مخلوقات مائية. وتلاها، قاطرة شحن تتدحرج، وهي بطول ميل من العربات القافزة. وحاولت أن أعدها ووصلت لرقم ثلاثة وتسعين، وذلك حينما لفت انتباهي شيء أو شخص ما. وكان يتحرك بين عنب الثعلب في أعلى الطريق.

تأملت الأرض الطويلة على امتداد السكة  والحصى الثقيل. وهناك بعد كتلة أعشاب، لمع شيء بلون فضي. وكان يبدو مثل شعار عاكس للضوء على حذاء خفيف صبياني. وأمكنني رؤية أضواء القطار البعيدة، وزوج من العيون في الأسفل، أغلقت زر الشاشة وناديت الشرطة بالجهاز قائلة “نشاط - مشبوه” ولكن بعد ذلك لم أعد أذكر ما هو الروتين أو الرمز المناسب، لذلك صحت “يوجد شخص على السكة” مع أنني كنت أعلم أنه لا يمكنك إيقاف القطار متى أردت.

كان يسرع بطريقه، وكنا على مبعدة أقل من ربع ميل. ولم أتمكن من رؤية ذلك الشخص بعد ذلك، لكن كنت أعدو باتجاهه غريزيا. نحو الشيء غير الواضح الذي ضاع في النور الساطع المقترب. وكنت أصيح هيي، أنت هيي، توقف - وكنت  لا أعني “قف” ولكن : تبخر، أسرع كالبرق، افرد جناحيك، اذهب لأي مكان عدا هذا. وبدأت أغرد بصفارتي الصغيرة، وكانت عديمة الجدوى فقذفتها من فمي.

سمعت صوت حفيف سترة، وخبطات قدم على أطراف الحصى، وكانت أنفاسي تصفر وتندلع، وعلى مسافة تقترب بالتدريج، سمعت زعيق 115 ديسيبل. ثم فقدت معالم الشيء الذي كنت أطارده. تخليت عن جهازي وأنا أقفز، وكذلك شاشة المراقبة الصغيرة. وكنت بين المحطات. كان عنب الثعلب كثيفا وبأشواك. ولا توجد طريقة لأشرح ما رأيت، باختصار هو إنذار كاذب، ولا يوجد أحد أقول له ذلك. وتوسلت بصمت: رجاء لا تطردوني من عملي. ثم وقفت وظهري بعكس حاجز الرياح، وأذناي مسدودتان أمام زعيق مرعب يأتي من قطار شحن طويل يحاول أن يقف ويجمد رغم سرعته الهائلة.

وعندما عدت أدراجي إلى البيت، كان الوالد في غرفة المعيشة، يجلس على وسادة مسند القدمين، والتي انزلق عنها. وكان الهاتف بعيدا عن مكانه وبجانبه، وكتاب رودين مفتوح، وعلى غلافه الداخلي وصفحة العنوان  ثلاثة أرقام مكتوبة بخط مرتعش وكبير. قال “اتصل إزيدرو” وطلب كوب ماء. عدلت وضع الوالد، وأتيت له بالماء، ونظرت لغلاف كتاب رودين.

في الخارج طرق المطر الخفيف النوافذ. وشاهدت طائر قيقف برأس أسود يحط على صحن طعام الطيور الفارغ لدينا ويؤرجحه. وكان يغني سويتي، سويتي، سويتي. رغبت أن أخبر الوالد عما جرى اليوم، ولكن لم أكن متأكدة أنه سيتفهم وربما سأرعبه فقط. وكنت مسرورة لعدم اضطراري إبلاغه كيف أن ابنته أخفقت مجددا - التحذير الرسمي والخطأ في العمل، وعقوبة ضياع الجهاز، وعبوس إبراهيم وسؤاله اللطيف:”هل أنت متأكدة أنك جاهزة لهذا العمل يا ميج؟”.

حصلت على حمام سريع، وحاولت أن أتناول الطعام، واستلقيت، ولكن يداي كانتا ترتعشان، ونبضي يدق بم - بم. وفي التاسعة غادرت السرير أخيرا. وفي الظهيرة خابرت محامي الهجرة في لوس أنجليس. رد الخط: اضغط على رقم 1 للغة الإنكليزية، para español, oprima numero dos.

بحثت عن دفتر ملاحظات الوالد في جارور الأقلام غير العميق. وفتحته وتذكرت كل المرات التي كنت أطالبه فيها بالنقود. كانت الشيكات مبعثرة بين بقايا أوراق مالية تخص والدتي - دفعات التأمين، رحلات إلى عيادات مايو، مؤسسة الرعاية الخاصة. بعد وفاتها بدأ دفع التبرعات كل سنتين إلى أميغوس دي لاس أميريكاس، عدة مئات من الدولارات كل مرة، وهذا ما صعب علينا توفيره لاحقا. ولكنه ملأ بيتنا بكريفون لا ينقطع. ودائما يصل بشكل طبقات على فراش من القش، في علب خشب رقيقة.

كنت أستعد. واعتقد الوالد أنني أتكلم مع السلفادور.

قال مضطربا وهو يذكر اسم والد إزيدرو: ”هل تكلمين دون شيبي. أخبري دون شيبي أنه ليس بوسعنا أن نفعلها؟”. بعد قليل من التفكير، قررت ربما  قصد الوالد كلامه ولم يخلط بالأسماء. وربما هذا ما أراد أن يقوله.

قلت برقة:”لا تقلق يا والدي”. ضحك ضحكة خشنة واحدة ردا على كلامي. شيء عبثي أن لا تقلق. وشعرت بالفخر على نحو غريب. وأصبحت خفيفة. وضحك والدي بحضوري. خطوت وأنا أتابع نابض حبل الهاتف الحلزوني الممدود ورائي على عرض السجادة.

وأخيرا حينما وصلت للشخص الصحيح، استغرقت فترة أطول مما يحتاج إقناع شخص بالمشكلة. وكنت مشوشة بسبب الضجة التي حولي، الأغنية وقرقعة دستة من الألسن، وضربات مفاتيح الكومبيوتر. لذلك ترنحت  نحو الخلف نحو استوديو الوالد القديم وأغلقت الباب وبدأت بشرح حكايتنا.

تناولت الكتاب الذي سجل عليه من الداخل رقم بطاقة اعتقال إيزيدرو. قرأته لعاملة المقسم مرتين. وأدركت أن أي شيك سوف أكتبه سيؤثر، ولذلك بحثت عن أحدث بطاقة ائتمان. في الخارج، مر قطار، وآخر. وقفت قرب النافذة، بانتظار الـ 12:19 وعيناي على السكة، لربما إبراهيم باستراحة. أو أنه ينظر للجهة المقابلة. أو لعله سقط بالنوم رغم أنفه. ومررت أصابعي على أدوات الوالد، كما لو أنني أختار منها، أو كأنني أرتب خطة له ليكرر رحلته إلى فريش كيلز بغرض استعادة نموذج مواطني كالي لرودان. كما لو أن مساعدة إزيدرو مسألة تشبه انتقاء مشبك، ملقط، فرشاة، ملف، شيء يمكن أن تحمله باليد وتستأنف العمل.

  ***

 

...................

سارة هيوتنغ  Sara Houghteling: روائية أمريكية. أول رواياتها هي “صور المعرض”. تعمل بتدريس القصة والرواية في برنامج ستانفورد للكتابة الإبداعية.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم