صحيفة المثقف

الأنابيب الزهرية

صالح الرزوقفلاديمير سوروكين

ترجمة: صالح الرزوق

 وجدت آنا، في يوم الخميس، أنها حامل. ولدى العودة إلى البيت من العمل، لم تجهز الغداء، وإنما جلست وراء طاولة المطبخ القزمة، ووضعت يديها المنهكتين على غطاء الطاولة الجديد، ونظرت إليهما بعناد.

وجاء نيقولاي إلى البيت كالعادة في التاسعة ليلا.

سمعته آنا وهو يتخلى عن معطفه في الردهة الضيقة والمزدحمة بالأثاث. ثم اقتربت منه، وطوقت عنقه بذراعيها، اللزجتين بوقود التدفئة، وأحكمت العناق. وقالت:” لا يمكنني يا كوليا الاستمرار. يجب أن نفعلها”.

تنهد نيقولاي وحرك شفتيه بنعومة على شعرها الأشقر والرقيق. وقال: “كل شيء سيكون على ما يرام. لا تخشي شيئا”.

زحف ذراعاها الرفيعان كحيتين، وأحاطتا بكتفي زوجها الهزيلين. وقالت: “لماذا تحاول تهدئتي؟ هل قرأت أمس صحيفة الحقيقة؟.

“طبعا فعلت”.

“وماذا تنتظر؟ أن يأتونا؟ أم ليعلنوا “أننا رذاذ ضد التيار”؟”.

“طبعا لا. أنا أفكر فقط”.

ابتعدت آنا عنه. وقالت: “أنت تفكر.. بينما “هو” لا يزال عند عتبة النافذة. وكلنا نراه”.

“لا تقلقي. سنفعلها اليوم. بالتأكيد”.

خيم الظلام على المدينة وحولها إلى مستطيل من النيران الملونة غير المتساوية على امتداد شريط من السماء المسائية. وسرعان ما أظلمت السماء المضغوطة بين المدينة وإطار النافذة الرقيق المطلي، وامتلأت بضباب كثيف. وكلما زاد الظلام، كلما زاد وضوح وكثافة مظهره الذي انتصب أمام السهول الغامضة للمدينة. ولاحظ نيقولاي سابقا أن جسد “هو” الشاحب والمزهر يبدو مضيئا أمام العتمات المتزايدة.

***

2159 vladimir sorokin قبيل اثني عشر عاما شق أنبوب زهري اللون وناعم طريقه من تحت الأرض الداكنة وانتهى بزهرة فضية، وحوله كومة تراب تماثل زجاجة نبيذ عملاقة، وأدهش نيقولاي كيف أشرقت الزهرة بسرعة بعد سقوط الظلام.

في تلك الأمسية كانت العائلة تحتفل بيوم الزهرة الأول. وتوجب عليهم نقل خزانة بجوارير ليجلس الجميع حول الطاولة. وتذكر نيقولاي كيف أطفأ الأنوار، وأصغى للنشيد الوطني ووالده الذي وافاه الأجل يشرب نخب ما يحصل. وتذكر كيف شربوا النبيذ وتبادلوا الأدوار في سقاية الأرض الخصبة الداكنة اللزجة بقطرات من النبيذ.

ولما حان دور الوالد بعد اثنين بدينين قبله هما من م ب إ (مديرية البروباغاندا الانتقائية) قال:”اكبر من أجل سعادتنا على مر القرون!. اكبر من أجل موت كل الأعداء!”. ثم انحنى وطبع قبلة سريعة على الأنبوب.

في غضون ثلاث سنوات كبر الأنبوب 13 سنتمترا، وأمكن نيقولاي أن يلاحظ الخطوط العريضة لأول خطاف خرج من جسمه، وكان مثل ثمرة بطاطا مستطيلة. وأخبر في أحد الأيام أمه. فضحكت وجرته نحو السرير. وقالت:”يا لك من ولد بليد!. هل تعتقد أننا لم نلاحظ؟”.

ثم أضافت بصوت غامض:”قريبا لن تصدق ما تراه عيناك!”.

وفعليا، لم تمر السنة إلا والقمة النامية، التي كانت تبدو من أول نظرة أنبوبة بلا شكل محدد، قد أصبحت مستديرة، وبقاعدة أعرض، ولها برعمان يتجهان نحو الأسفل. ثم جمع الأب الضيوف معا مجددا، وجرح يده اليمنى، وأضاف لقمة الأنبوب نقطة أو نقطتين، وأعلن أن هذا اليوم هو يوم التكوين.

وعلى مدى السنتين القادمتين تطورت الأنبوبة 10 سنتمترات إضافية، وأصبح الرأس الزهري مستديرا، وتشكل عنق قوي، وكتفان عريضان كمناكب وبرزت لها بطن فوق خصر مستدق.

قال والده بتعجب:”هذه معجزة الانتخاب يا بني!”. وعبث بلحيته الرمادية التي لحق بها المشيب قبل الأوان. وأضاف:”فقط شعبنا الذي يصنع المعجزات يمكنه التوصل لهذا الاختراع!. ولك أن تتخيل - أب لا يموت يقود هذا البلد العظيم!. وهو على عتبة كل نافذة ومع كل عائلة، وفي كل بيت، وفي كل زاوية من وطننا الحر!”.

وبعد قليل شق الطريق أنف لحمي خرج من الرأس المستدير، تبعه انتفاخان بشكل حاجبين، ثم تشكلت ذقن، وبرزت أذنان. أما جسمه، الذي كان في كومة من التراب حتى وسط خصره، فقد تمدد وشد من عزمه. وغابت بعض الوحمات والثنيات تدريجيا، وضعف التدرن.

وبعد سنة إضافية، ظهرت شفتان على الوجه الوردي، وتعمقت غضون الجبهة وأصبح جسر الأنف منظورا، وتحول جبينه لما يشبه القبة. وغطت خصلة من الشعر القصير أعلى الجبهة. وانضغطت الرقبة وملأت قبة القميص الطبيعي، وتكورت بطنه الصلبة التي التحمت بالأرض.

كان نيقولاي قد تخرج من الجامعة حينما ظهرت غمازتان على وجنتي الرأس، وتطور صيوانا الأذنين وتزايدت الغضون في السترة الضيقة.

وبعد سنتين توفي والد نيقولاي.

وفي السنة التالية احتفلوا بيوم التنوير - بزغت حبتان ناعمتان عند الجفنين المنتفخين. وتوجب على نيقولاي أن يقود الحفل. أضاف لوجهه المساحيق وأنشد النشيد الوطني أمام الضيوف الحاضرين. وسكبت أمه في تراب الرأس كأسا من بصاق العائلة الذي وفروه لهذه المناسبة. ومنذ ذلك اليوم لم يطعموه غير البصاق. وكل إثني عشر يوما كان نيقولاي يقدم له جرعة من منيه (نطافه).

ويوم ظهرت أشرطة عسكرية صغيرة على سترته، وبرزت نهاية قلم من جيبه، تم تتويجه بسام يوم اكتمال النمو. لكن احتفلوا دون أم نيقولاي المتوفاة.

ثم سريعا ما تزوج نيقولاي من آنا وذهبا للعمل في المصنع.

ومنذ اليوم الأول لهما في بيت واحد، اعتنت آنا بـ “هو” باهتمام. كانت تمسح كل صباح الغبار، عنه، وتسقي النموات بالبصاق، وتنشط التراب الأسود وتلمع الزهرة الفضية.

واستمرت الأحوال هكذا لمدة عامين.

ولكن في صبيحة الثاني عشر من حزيران انتشرت أخبار مزعجة في البلاد مفادها أن: الزعيم العظيم مات.

وتوقف الجميع عن العمل لأسبوعين - انتظر الجميع في البيوت بحالة صدمة. وفي نهاية الأسبوعين، وبعد دفن المرحوم، قبل الزعيم الجديد المسؤولية باحتفال كبير. وبعكس سابقه، كان الجديد طويلا ونحيلا. ويلقي الخطابات ويكتب الرسائل ويتبادل الكلام مع الشعب. غير أن خطاباته لم تمر على ذكر سابقه الذي استمر في المسؤولية لـ 47 عاما. وشعر الناس بالخوف من ذلك. بعضهم فقد رشده، وآخرون قفزوا من النوافذ متمسكين بتراب أنبوباتهم.

وبعد شهر، ألقى الزعيم الجديد كلمة للأمة وقال فيها إن “السابق الذي كان في المسؤولية، كان يعالج الأزمات الضرورية التي وراءها أسباب”.

ومهما أجهد نيقولاي وآنا نفسيهما للوصول إلى المعنى المخفي لتلك الكلمات، كان المعنى المقصود يهرب منهما. أما البقية.. الآخرون فقد توزعوا على فئتين. فئة تخلت عن الأنابيب وأبعدتها عن النوافذ و تعرض أفرادها للاعتقال. وفئة تركت الأنابيب على عتبات النوافذ واستلم أفرادها تنبيها شديد اللهجة. ولكن لسبب ما لم يضايق أحد نيقولاي وآنا - لم يتلقيا البطاقة البريدية الحمراء مع التحذير وصورة شخص يبصق بعكس هبوب الريح. ولكن هذا لم يسعد الزوجين. إنما عكر مزاجهما.

مر شهر ونصف الشهر وهما في هذا الحال من التوتر والترقب. بينما تواصل اعتقال الجيران أو استلام التنبيهات. وعاجلا صدرت توجيهات تمنع الانتحار. وهكذا توقفت عمليات الانتحار..

**

لم يلاحظ نيقولاي أن آنا تتبعه. ولكن لمست يداها منكبيه. وقالت:”هل أنت خائف يا كوليا؟”.

استدار نيقولاي وقال:”ومم نخاف؟. الحق معنا. ونحن اثنان طيبان”.

“نعم نحن طيبان يا كوليا. فهل يتوجب علينا أن نبدأ؟”.

أومأ نيقولاي. فأطفأت آنا النور.حمل نيقولاي مدية وقربها من الأنبوب بحثا عن الخصر، ثم بعد أن ثبت ارتعاشات يديه، صنع شقا على طول الخصر.

وتبين له أن الملمس أقسى من البطاطا. وتصدع الأنبوب بهدوء تحت المدية. وبعد أن قطع نيقولاي الـ “هو”، قبضت آنا عليه وحملته بحذر في الظلام، إلى الطاولة.

 وأخرجت آنا إناء زجاجيا بسعة ثماني لترات وبفتحة واسعة. وأوقدت آنا الموقد، وملأت دلوا بالماء، ووضعته على النار ليسخن. وجلسا في الظلام، ولم يكن يضيء لهما المكان غير شعلة الموقد الضعيفة، وتأملا “هو” مستسلما هناك. واعتقد كل من نيقولاي وآنا أن “هو” تحرك.

وعندما وصل الماء إلى الغليان، وضعته آنا على الشرفة ليبرد، وسكبتاه في الإناء، وأضافا الملح والخل وورق الغار والبرسيم. ثم بعناية أودعاه في الإناء. وحينما سقط في الماء الساخن انتفخ كأنه يريد أن يهرب من الإناء. ولكن ضغط نيقولاي على رأسه للأسفل بغطاء معدني، وقبض على الغطاء وشرع بإغلاقه بإحكام وسرعة.

وبعد نهاية كل شيء، حمل الزوجان الإناء، ورفعاه بحذر نحو عتبة النافذة وأصبح بمكانه المعتاد. ومسحت آنا بعناية الإناء الحار بمنشفة. وبعد دقيقة من التردد، أضاء نيقولاي النور. كان الإناء بمكانه على طرف النافذة، وجوانبه الزجاجية تلمع. وسبح “هو” في الماء، محاطا بعدد من الأوراق الصغيرة، وهكذا لم تعد رؤيته سهلة.

قالت آنا بعد تفكير طويل:”شيء جميل”.

تنهد نيقولاي وقال:”نعم”.

عانق زوجته ووضع يده برشاقة على بطنها. فابتسمت آنا وغطت يده بيديها الدافئتين.

في الصباح التالي استيقظت آنا بموعدها العادي، قبل زوجها بنصف ساعة، وذهبت إلى المطبخ، وأوقدت الموقد ووضعت الإبريق عليه. وبعد ذلك توجب عليها سقاية “هو” بالبصاق الذي وفراه على طول يوم كامل. دغدغت نفسها بلا وعي، ومدت يدها آليا نحو كوب البصاق المودع على الرف ولكنها تجمدت: كان الكوب فارغا. نظرت آنا إلى طرف النافذة ولاحظت الإناء بالأنبوبة. تنفست براحة عميقة وهي تتذكر العملية التي قاما بها أمس ليلا. اقتربت منه ووضعت يدها على الإناء. ونظرت من النافذة. كانت المدينة تستيقظ والأنوار تشتعل في النوافذ. ولكن شيئا ما طرأ على المدينة. لقد تبدلت على نحو ملحوظ. فركت آنا عينيها وهي تتابع النظر: على عتبات النوافذ كانت أصص الزهور الفضية والذهبية التي اعتادت أن تراها منذ نعومة أظفارها قد اختفت وحلت بمحلها علب زجاجية تحمل الأنابيب المزهرة.

1979

***

 

.....................

* الترجمة من الروسية: مايكل أ. بيردي Michele A. Berdy

 فلاديمير سوروكين Vladimir Sorokin  روائي روسي معاصر. من أهم أعماله: يوم في حياة موظف مخابرات (رشحت للمان بوكر الدولية في لندن)، العاصفة الثلجية، الجليد وسواها....

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم