صحيفة المثقف

وللمطبعة أسرار!

يسري عبد الغنيلا تزال نشأة أول مطبعة تاريخية في مصر تحفها العديد من الأسرار، خاصة أن بصماتها حاضرة في مختلف مجالات المعرفة، على الرغم من مرور أكثر من قرنين على تأسيسها كأول مطبعة رسمية حكومية في مصر، كانت حافزاً لنشأة المطابع في الدول العربية بعد ذلك . المطبعة تعرف باسم بولاق أو المطبعة الأميرية، أنشأها محمد علي في العام 1820 م كما هو ثابت باللوحة التذكارية، وهي عبارة عن قطعة من الرخام طولها 110 سنتيمترات وعرضها 55 سنتيمتراً، ونقشت عليها أبيات شعرية باللغة التركية.

وأتذكر هنا قيام مكتبة الإسكندرية بالاحتفاء بالمطبعة من خلال معرض لها، وإصدار "مطبوع" عنها وكتاب يؤصل لتاريخها، وهو الكتاب الذي حصد جائزة الدولة التشجيعية في مصر، قبل عدة أعوام . وكان من أبرز مكونات المعرض اللوحة التذكارية التي تعتبر المرجع الوحيد لتاريخ إنشاء المطبعة، وصندوق الحروف العربية ومعظم الأدوات المستعملة فيها، والتي بقيت على شكلها منذ تأسيسها بجانب الخزانة الحديدية في عهد محمد علي باشا، إذ تذكر اللوحة أن هذه الخزانة صناعة إنجليزية، كانت تستخدم في حفظ أختام الأسرة المالكة الخاصة بالمطبعة .

وأذكر تقديم المعرض لنماذج للأقلام والمتاريس الخاصة بماكينات المسبك، والطابع التذكاري الذي أصدرته الهيئة القومية للبريد بمناسبة مرور 175 عاما على إنشاء المطبعة، وضم العدد الأول من جريدة "الوقائع" المصرية وهي أول صحيفة مصرية، إضافة إلى استعراض دفتر الرواتب والأجور، والتي يرجع تاريخها إلى عام 1887 م، وبيان تطور الإيرادات والاستثمارات للهيئة عن فترة الثمانينات، ونماذج من التقاويم الميلادية وهي مجموعة نادرة من نتائج الحائط يرجع تاريخها إلى عام 1892 م، وعلى الرغم من أن الماكينات كانت متواضعة ولم تكن بالكفاءة الحالية فإن ألوانها مازالت جيدة لم تتأثر وقد مر عليها أكثر من 100 عام  .

إضافة إلى ذلك احتوى المعرض على الماكينات التي كانت مستخدمة في المطبعة، وظلت تعمل حتى وقت قريب منها ماكينة طباعة الظروف بأنواعها، ومكبساً للتجليد، وآخر للتذهيب، وماكينة طبع البروفات، وماكينة سبك الحروف         .

وأظهر المعرض أن المطبعة لعبت في أول الأمر دوراً لخدمة المشروع الحربي لمحمد علي، حتى تطور دورها، إلى أن نشأت إلى جوارها العديد من المطابع الخاصة، ومعها ظهرت الصحافة كأداة إعلامية، وكان هذا هو أول وأهم دور قامت به المطبعة حيث عملت على إلغاء الاحتكار الفكري، فصار الأدب والعلم والمعرفة والثقافة مشاعاً، وأصبحت من المنافع العامة، فأشرقت بذلك شمس لم يألفها العامة، إلى أن تطورت في عصور أخرى لاحقة .

ولم تنشأ المطبعة بمفردها مستقلة عن بقية مشروعات محمد علي، بل كانت جزءاً من مشروع تنموي كبير له، وكانت كأي مؤسسة أخرى من مؤسساته يرجى منها أن تساهم بإنجاح جانب من ذلك المشروع التنموي، ولذلك كان إنشاء محمد علي للمطبعة بعد إجلاء الحملة الفرنسية عن مصر في سنة 1801م، حين عمت الفوضى البلاد، إلى أن استطاع محمد علي أن يصعد إلى سدة الحكم، وبدأ يفكر في بناء دولة قوية من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية، فبدأ بإنشاء المؤسسات على النمط الأوروبي الحديث، ومن بين المشروعات التي احتاج إليها في مسيرته التنموية المطبعة، التي أطلق عليها عدة أسماء، منها "دار الطباعة"، و"مطبعة صاحب السعادة"، و"المطبعة الأميرية"، إلا أن اسمها الرسمي التاريخي الذي عرفت به هو "مطبعة بولاق".

ويعتبر النص التذكاري لإنشاء المطبعة، والمطبوع باللغة التركية هو الوثيقة الوحيدة التي تدل على تاريخ إنشائها، والذي وثقته أنه العام 1235 هجرية 1820م . ومن بين ما كانت تضمه الخزانة الحديدية التي تعود إلى عهد محمد علي الكبير، وكان يستخدمها في حفظ أختام الأسرة الحاكمة، وكذلك الأقلام والمتاريس الخاصة بماكينات السبك، فضلاً عن المفتاح الخاص بها وعليها حرف(م)، الذي يرمز إلى محمد علي.

كان أول مطبوعاتها، هو القاموس العربي الإيطالي، والذي كتب في أسفل أولى صفحاته من الكتابة العربية: "تم الطبع في بولاق بمطبعة صاحب السعادة"، واسمها في الجزء الإيطالي هو المطبعة الأميرية.

وفي هذا السياق، يبدو من التوقيع أن كلمة بولاق وردت قبل اسم المطبعة، وفي الجزء الإيطالي وردت باسم "بولوقو" بالخط الكبير في سطر مستقل فكان اسم "بولاق" مرتبطا بالمطبعة من أول الأمر.

ونلفت النظر هنا إلى ما قامت المطبعة بطباعته من كتب مثل "المثل السائر" لأبي الفتح الموصلي، و"الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، و"تاريخ ابن خلدون ومقدمته"، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه، و"فقه اللغة" للثعالبي، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان، و"فوات الوفيات"، و"إحياء العلوم" للغزالي، إلى غيرها من أمهات الكتب التي لا تزال تحظى بإقبال هائل .

وشهدت الفترة من سنة 1881 إلى 1896 فترة ركود بمطبعة بولاق، فمع قيامها بكل ما احتاجت إليه الحكومة من أعمال الطباعة فإنها لم تتقدم في أي ناحية من النواحي التقنية والاقتصادية بل وتدهورت تماماً . كما عانت من انشغال الحكومة بالثورة العرابية، حيث توقفت عن العمل بعض الوقت خلال الثورة، وخاصة بعد تعزيز تواجد الإنجليز في مصر، حيث نزح عدد كبير من الأجانب عن مصر، ومن بينهم بعض عمال المطبعة من الفنيين، واستمر ذلك إلى قيام ثورة،1952 فكانت قفزة جديدة لها مع إنشاء وزارة الصناعة عام،1956 إلى أن تقلص دورها وأصبحت في ذاكرة التاريخ .

ونحب أن نعود هنا ونؤكد على أن ظهور الطباعة وانتشارها كان له أكبر الأثر في النهضة الأدبية، وفي تطور لغتنا العربية، حيث أحيت التراث العظيم من المخطوطات الأدبية، وساعدت على نشره، كما يسرت للناس تبادل الآراء والأفكار، وحفزت العلماء والأدباء إلى إظهار مؤلفاتنا وآثارهم الأدبية ونشرت الصحف بين ملايين القراء .

وكما أوضحنا فإن المطابع العربية دخلت مع نابليون، ثم أسس محمد علي المطبعة التي عرفت بمطبعة بولاق وتولى إدارتها أحد السوريين، وعاونه في عمليات التصحيح عدد من شباب الأزهر، وكانت تتوالى طبع المنشورات والأوامر، ثم طبعت صحيفة الوقائع المصرية، ثم الكتب التي ترجمت في الطب والرياضة .

وبعد حين أُنشئ فيها قسم أدبي تولى طبع العلوم والفنون، ثم ضم هذا القسم إلى دار الكتب، ثم أنشئت بعد ذلك المطبعة القبطية المصرية، وأقبل الأهالي على شراء المطابع التي انتشرت في أنحاء البلاد، ولكن الحق يقال أن المطابع بدأت في أداء رسالتها العلمية منذ عهد محمد علي حين بدأت تطبع ما ترجم، إلا أن الرسالة الأدبية الحقيقية لهذه المطابع بدأت في عهد إسماعيل حين هاجر إلى مصر الكثير من أدباء الشام، وأنشأوا الصحف والمجلات، وحين جاء جمال الدين الأفغاني فأيقظ الأدب في الخطابة والكتابة، ونتذكر أيضًا جمعية إحياء الكتب القديمة ودورها في نشر العديد من كتب التراث .

هذا، وقد أخذت المطابع تتنافس في بعث الكنوز القديمة من تراثنا الأدبي من كتب اللغة ودواوين الشعر، وكان في مقدمة ما طبع مقدمة ابن خلدون، ووفيات الأعيان لابن خلكان، وخزانة الأدب للبغدادي، وزاد نشاط طبع الكتب الأدبية حين نقل بعض الكتب بالتصوير الشمسي من مكتبات أوربا،

 

وتطبع الآن الألوف من الكتب الأدبية والعلمية والثقافية بوجه عام كل عام، وبذلك تؤدي رسالتها وتحمل أعظم عبء في بناء نهضتنا الأدبية وبحق إن التطور التكنولوجي الرهيب الذي لحق بالطباعة، جعلها الدعامة الأولى في بناء الثقافة.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم