صحيفة المثقف

النقائض وعجائب العميد!!!

يسري عبد الغنيمن عجائب عميد الأدب العربي، أنه كان يكتب ويحاضر عن فن النقائض الشعرية الأموية بين الفرزدق وجرير، وغيرهما من فحول شعراء العصر الأموي .

وأذكرك بالنقائض، وأقول لك: هي عبارة عن قصائد شعرية تهاجا بها مجموعة من شعراء بني أمية، مثل الفرزدق، وجرير، والأخطل، والراعي النميري، والبعيث .. وغيرهم ..

والنقائض فيها فخر وهجاء يتناولان كل ما يتصل بالشاعر، وقبيلته في الماضي والحاضر، والشيء الغريب حقًا أن كل الكتب التي كتبت عن النقائض الأموية قالوا: إن النقائض هي مجموعة القصائد التي تهاجى بها كل من الفرزدق وحرير والأخطل، وقد سميت كذلك لأن أحدهم كان يقول القصيدة فيرد عليه خصمه بقصيدة أخرى من نفس وزنها الشعري، ونفس قافيتها، وهو الحرف الأخير في أبياتها، ويأتي الشاعر إلى الأفكار، والمعاني، التي قالها الشاعر الأول فينقضها، ويردها عليه، ويحيلها إلى هجاء، وذم له .

كنت اعتقدت ان تلك هى النقائض، كما قرأت ودرست، بل وكما كنت أدرس لطلابي في المرحلة الثانوية وفى المعاهد العليا، لأن هذا الكلام كان مكتوبًا ومازال مكتوبًا في كتب وزارة التربية والتعليم المقرر على أولادنا وفي العديد من كتب تاريخ الأدب الجامعية التي تعد بمثابة مراجع ومصادر نطلب من أولادنا أن يعودوا إليها.

ولكن طه حسين هذا العبقري المتفرد ألقى محاضراته القيمة على طلاب كلية الآداب بالجامعة المصرية، وهو جالس على مقعد مصنوع من الخيرزان الرخيص، وأمامه منضدة متواضعة من الخشب، وكان يفرك كفيه، والبسمة الودود لا تفارق شفتيه، وهو في زيه الأنيق الجميل، الذي يرسم لك صورة فنان مبدع بحق، ويجعلك تحب الأدب والعلم والفكر بل تعشقهم عشقًا لا حدود له، بل وتحب الحياة كلها، ومحال أن تلعنها، مهما كان الواقع مريرًا .

الآن وبحمد الله تعالى لدينا مدرجات فاخرة مكيفة الهواء، ومقاعد ومناضد جميلة، وميكروفونات حساسة حديثة، وفي نفس الوقت لدينا أساتذة يدخلون الحرم الجامعي ويحاضرون بالجينس والتيشرت، ويقرءون من كتبهم المنقولة من على الإنترنت، ويقرءون حتى الأخطاء المطبعية والإملائية والأسلوبية والعلمية، دون أن يعرفوا الصحيح ...

آه، رحم الله الزمن الجميل، وكفانا شرور الزمن الردئ الذي نحياه، أقول لك: لقد تكلم طه حسين وقال: إن جريرًا يقول بيتًا شعريًا واحدًا، ثم يرد عليه الفرزدق ببيت واحد، وطلب طه حسين من القراء أن يحصوا عدد الأبيات في كل نقيضة من النقائض، وكان العدد مساويًا بالفعل .

وعليه: انقلب ميزان النقد الأدبي، وتاريخ الأدب العربي، وأضحينا ننظر إلى نقائض جرير الذي يغرف من البحر، والفرزدق الذي ينحت من الصخر، نظرة أخرى، نظرة جديدة، نحلل من خلالها النقيضة الشعرية، بيتًا من الشعر لبيت مقابل له .

ولكن للأسف الشديد جدًا، فقد ضاعت من أيدينا أثمن درر طه حسين، وهي محاضراته القيمة التي ألقاها في كلية الآداب بجامعة القاهرة، فهذه المحاضرات لم تسجل، ولم تكتب، ولم تطبع، فطه حسين لم يكن كل همه أو همه الأكبر أن يبيع كتبه للطلاب، كما أن أجهزة التسجيل لم تكن قد اخترعت على أيامه، ولو كان ذلك موجودًا أيام العميد لوصلنا إلى الكثير مما يزيد علمنا، ويعرفنا الكثير الذي كان سوف يفيدنا في مجال درس الأدب والنقد .

كان طه حسين يتكلم، ويشرح، ويوضح، ولكن طلابه كانوا يسمعون فقط ويفهمون، ولم يكن طلابه يكتبون ما يقوله في كشاكيلهم، وكيف كان في استطاعتهم أن يلاحقوه، وهو مثل النهر المتدفق الذي يجتاز كل الصخور، وكل الشلالات والموانع .. !!

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم