صحيفة المثقف

أدب الرحلة عند محمد شمسي

سهام جباركتابه (أرض ساخنة) أنموذجاً

من النادر العثور على كتابات من نوع أدب الرحلة في الأدب العراقي المعاصر كالتي كتبها الأديب العراقي الراحل محمد شمسي. ولعلها مزيّة خاصة بالكاتب أن يكتب في أكثر من نوع أدبي كالقصيدة والقصة والرواية وأدب الرحلة وأدب المغامرات للفتيان. واللافت في ذلك كله أننا نلمسُ لا جمعاً بين الواقع والمتخيّل فحسب في معظم كتابات شمسي بل التداخل النوعي الذي يجريه الكاتب بسلاسةٍ ويُسر بين أكثر من نوعٍ أدبي في أعماله عامةً.

ولعل اهتمامي بكتابه (أرض ساخنة) الصادر عن منشورات آمال الزهاوي 1978، نابعٌ من كونه نصّاً كلياً بمعنى أنه نصّ متنوع الخطابات ومتعددّها كما يفرضُ ذلك عليه نوع أدب الرحلة فهو مرتبط بالواقع تسجيلاً له وتوثيقاً تاريخياً وجغرافياً وسيرياً وتذكّراً واقتباساً من جهة، وهو من جهةٍ أخرى يقدّمُ تمثّلاً شعرياً للواقع، تمثّلاً لحلم ورغبة وأسطرة من دون خسران عنصر الصدق الفني في الكتابة، فهو ليس تمثّلاً كاذباً أو مفتعلاً ولاسيما إن أثرَ التجربة الشعوري يظلُّ ممتداً على مدى الكتاب كلّه بما يسمُه بالابتكار والأصالة.

وكأن هاجس الكاتب في الرحلة كان أن يندفع شعورياً مع خصوصية المكان (أفريقيا) بوصفها أرضاً لبدائية الأحلام وحرارة الرغبات وأفق الطبيعةِ الممتدّ، كما يراها، إذ يفترشُ رمزيةً لائقة بالمكان، رمزية تجعل الاندفاع على أوَجه لمصادر الحلم واشباع الرغبات. وفي هذا تمتدّ المهيمنة الموضوعية التي تتركّز في الهدف الحسّي المتجسّد بأشكال عدّة بدءاً من العنوان الذي يزدوج فيه القصد الى المكان أفريقيا والى المرأة على نحو مجازي..

ويتأكد هذا المزج الدلالي فيما يقوله في متن الكتاب (وبعد سنين لا تعدّ، كثيرة بعدد طيور السماء وسمك البحار وذرات الرمل ظلت الحياة في أفريقيا كما كانت قبل ملايين السنين حارة، طائشة، متدفقة، مليئة، وظلت الصيغ الإنسانية الأولى تطفح على الأرض رامية حذرها القديم كلما وجدت قشرة لينة، رقيقة)(الرحلة ص13). وهناك توظيفات نصّية واستثمارات أخرى مجازية وصريحة تعزّز هذا الهدف في سياق الرحلة الكلي.

على وفق خصوصية أدب الرحلة فإن مسعى شمسي في كتابه يبقى أدبياً خالصاً لايخرج الى أهدافٍ ومساعٍ أخرى، إذ لم يسخّر الكاتب رحلته لأهداف سياقية خارجية.

وفي الحقيقة إن رحلة (أرض ساخنة) هي جزءٌ متمّم لرحلة الكاتب في كتابه (ألف ميل بين الغابات) الصادرة في طبعتين عامي 1973 و1976. وتمثّل (ألف ميل بين الغابات) بداية الرحلة وانفتاحها على البيئة الجديدة في أفريقيا، فيما تُعنى (أرض ساخنة) بنهاية الرحلة والعودة الى الديار بعد اكتمال دورتي الاقبال والادبار الى المكان بسحره وغرابته واختلافه ثم التملّص عنه بما غنمه الكاتب من (تدوين) يُلخّص الحياة المعاشة بكل العمق الممكن والمختلف.

هذا الاقبال والادبار يمثلان ايقاع الحياة الولادة والموت، البدء والختام، الذات والموضوع، التكثيف الشعري والتفصيل السردي الموازي.

وهكذا الشعر والنثر يعمّقان بنيةَ الرحلة ودلالتها، بدايتها وانتهاءها في الكتابين.

لقد تجسّدت الخصوصية الشعرية في إعطاء المكان صورة ذاتية تخدم نوع أدب الرحلة وتغذّيه فالكاتب بذلك يدوِّنُ تأريخه الشخصي أو التأريخ الشعوري الذي ينبغي أن يُدوّن على وفق أولويات الكاتب. 

أما التفصيل السردي فهو ما تجسّده كل أنماط النثر الموجودة في أدب الرحلة كالتقرير والاستطلاع والمراسلة الصحفية والقصص واليوميات والتاريخ والجغرافية والمغامرات.

ويتقدم هذا رصد ثنائية السارد (الرحّالة) فهو بطل من جهة قيامهِ بالفعل في المساحات المستكشفة، وهو راوٍ سارد للأحداث، غير محايد بالضرورة، إذ يخطط للمغامرة من جهة الفعل بالرصد والاكتشاف والتخطيط والسعي، وفي الوقت نفسه يصف ويسرد وينتقي ما يريده محفزاً المتلقي للتوقع والانتظار. تجتمع إذن خاصيتا العرض المتضمن المراقبة، والموقف الشخصي المتبنّى تجاه المحكي، مع الوظائف الثانوية المنبثقة من هاتين الوظيفتين الرئيستين، في شخص محمد شمسي المؤلف (الكاتب) والسارد، لقد تحقّق حضورٌ لشخصيتين هنا قد اجتمعا في متن (أرض ساخنة) حيث الوظيفة مزدوجة في الواقع وفي صياغته. وإلى جانب ضمير المتكلم الذي يصدر به السارد سرده يتردد اسمه كذلك (محمد) خلال نص الرحلة، ليعمّق هذا الحضور للكاتب السارد.

وتتخلل نصّ السارد نصوصٌ قليلة لشخصيات في الرحلة تصاغ بطريقته نفسها، إلى جانب التضمينات التي لوّنتْ سياق الأحداث لدعم الموضوعات الأساسية والثانوية ومن ذلك يطالعنا تلخيص للحكايات، واستذكار ومونولوج داخلي، وأسطرة للمكان وللشخصية، وسرود وتضمينات أخرى أقل استعمالاً.. وكل هذه الاستعمالات محسوبة للسارد، حتى الحوار يقع ضمن إدارته، وفي هذا ما يرسم صورة الرحالة كليّة في الرحلة، حتى تكاد تحتويها.

يوجّه محمد شمسي الحكايات التي يورد تلخيصاً لها لصالح هدفه الحسّي فنجده يسرد حكاية الخلق الأول حيث يخفي الإنسان الأول ممارسته عن خالقه كي لا يحاسبه، ويروي حكاية الرجل المتوحّش الذي يشعر برائحة المرأة، وحكاية الأمير الذي يطارد غزالاً لوحده فيجوع ويعطش ويجد عجوزاً تطعمه وتسقيه ثم يعود إلى مملكته فلا يجد ألذ من طعام تلك العجوز وشرابها، وحكاية ماجلان الذي يصل إلى جزيرة نائية فيها تذكير بالرجل العملاق الذي مرّتْ عليه آلاف السنين حتى أصبح أليفاً مدجنّاً، وحكاية صديق البطل التي تبدي تهويلاً في محاولة قبيلة أفريقية إغواء سائحتين امريكيتين، وحكاية الحارس إدريس عن الشيخ محروس المتضمنة إثارةً للرعب وحاجة إلى الاحتماء، وحكاية يختلقها البطل أمام السواح الأجانب عن رحلة صيد في الصحراء العربية، وغيرها.

للحكايات الملخّصة دلالة عامة وكليّة تتمثّل بتكريس نموذج البطل البدائي المتوحش برغباته وجوعه المبهم غير المتمدن، ويحقّقُ البطلُ_ السارد لنفسه الهدفَ الحسيّ الذي ينطلقُ منه منذ بدء رحلته. كذلك تعملُ الحكايات على إغناء الرحلة بمضامين حيّة متنوعة تبثّ أجواء شعورية مشوّقة وجاذبة للقراء فضلاً عن الشخوص المتلقيّة في الرحلة نفسها.

وفي ذلك يتجلى تعميقٌ للنصوص ولتلقيها فضلاً عن تحلية للأجواء بتواصل ممتد على أكثر من طبقة من مرسل ومرسل اليه متعدّدين على أنحاء متنوعة وعلى طول الخطابات المتضمَّنة في متن الرحلة.

بنائياً كانت الحكايات عاملَ ربطٍ مفصلي بين فقرات نص الرحلة أو أنها أحياناً مثّلتْ وقفة زمنية في سياق السرد في الرحلة، ويكون زمن سرد بعض الحكايات عبارة عن توقف تام لحركة السرد في الرحلة، كذلك كانت الحكايات نوعاً من الحذف إذ يسكت السارد عن تفصيلات لا يرويها للقارئ، وتحل محلّ ذلك الحكاية.

وهناك وظائف جذب وتشويق واستدراج للمسرود له، وإشاعة فضاء طقسي عام يسمح بتمرير الدعوة إلى البدائية في شكلها الإيروتيكي، ورسم صورة كائن بدائي في حالة تهيؤ لغزو ورمي شباك لصيد، أو إشاعة رعب تسمح بتصور فاعلية ذكورية في سرد من أجل اللذة كأنه يأتي مضاداً لسرد أنثوي مثّلته في التراث شهرزاد في سردها الدفاعي بإقامة نوع من الكبح لجماح شهريار في تسلّطه على النساء وإعدامهن في سبيل لذّته.

سرد شهرزاد يعمل في إطار دفع ومقاومة وكفّ أو منع، في حين يعمل سرد شمسي في إطار مضادّ هجوم واستعداء وشدّ وغلبة.

هناك استذكار وحنين يظهر في رحلة شمسي إلى مواطن الطفولة لخلق جسور تصل الحاضر الموصوف ببدائيته زمن براءة الإنسان، بالطفولة زمن براءة الشخصية. وهكذا كانت هناك طاقة استذكار تحثُّ النص للإيغال في عمق مدلوله. ليس الاستذكار محصوراً في ماضي البطل وحده فهناك حنين للماضي كله، من هنا ورد استذكار لما في التراث العربي مثلاً حرب البسوس لاستدرار حكمةٍ رافضةٍ للحرب ولقسوة الحياة، هذا التماهي مع التراث زوّد الشخصية بدلالة رامزة لما هو عربي كلّي لا فردي فقط.

من جانبٍ آخر للمتأمل أن يجد الصلة عميقةً للبطل بالموت، بمعنى قيافة أثر الموت بالجسد وبإفنائه في اللذة وفي البحث عنها. لنقرأ مثلاً وصفه للوجوه الأربعة للشخوص_ وهو منهم_ في السيارة، ووصفه لوجهه ((إن وجهي عشبة صغيرة متهورة، سريعة الجري نحو الموت وإن الأرض على امتدادها ذراعان ناعمتان تتلقى أجسادنا المتعبة))(الرحلة ص47) وإذ لا تخفى دلالة تشبيه ذراعي الأرض وتلقّيها الأجساد بالمعنى الحسّي للذراعين ودلالة الاحتضان والتلقّي، يستمر التداعي بالتأمل في صورة حيّة عن حيوان تنهشه النسور مما يعكس معنى خاصاً لهذا التهافت الحسّي الذي ينتهي باستهلاكيته وانغلاقه الى الموت سواء بالمونولوج الداخلي الذي ترك آثاره على وجه الرحلة التي لا ينبغي أن ننسى أنها رحلة عودة وادبار وانصراف عن موضوعها الأساسي وهدفها الرئيس المهيمن فيها، ففيها معنىً من معاني الموت إذ هو انتهاء وانصرام زمن وانطفاء الحياة فيه.

هناك استذكار الى الطفولة في الحنين الى عادات الصغار، وفي السرد على نمط الاعتراف، وتداعي الذكريات المخترقة حواجز الزمان والمكان والمتبنّاة من الشخصية، وإن أتتْ على لسان عاشق من العصر الأموي. إن لهذه الاستذكارات قيمة تأكيد حضور الشخصية في رغبتها بالاستزادة وتحميل النصّ كل الشحنة الممكنة للإنسان الخارق بفراسته وبصدق مجسّاته وشهوته إزاء الوجود وأحلام هذا الوجود.

فيما يخصّ المكان تتمثّل أسطورةُ أفريقيا في نص محمد شمسي من خلال مغامرته الخاصة فيها، إذ ليستْ أفريقيا داخل (أرض ساخنة) القارّة المعمّدة بالدم وبثورات التحرّر فيها. إنما هي أفريقيا ذات الدلالة الشمسية التي هي موضع اللذة حيث الرجل البدائي المتوحش منذ أول صفحات الرحلة، وهكذا تعلى (مكانة) أسطورية لا مكان فحسب في صياغات لغوية شاعرية وانثيال نفسي حميم. يبدأ ذلك بتدبيج تقاليد السهر في المدينة عبر مجموع مكرّس بالخمر والغناء والنكات الرديئة، في سرد هذه الصورة يتردد ضمير المتكلمين لا المتكلم (نحن حفنة من الرجال لا تسلينا الأحاديث ولا تغسل همومنا المناقشات.. أعمار مختلفة وكما يتنقل الرعاة بإبلهم في الصحراء كنا نحمل أجسادنا المرهقة ونتتبع خطوات العشب والماء، ماؤنا الخمر وعشبنا نساء كلابار وايلورين.. ومدينة ((كانو)) ليست صحراء وحاناتها ليست آباراً تعدو عليها الرمال. هذه ليالينا... رجال من جميع القارات يأتلفون عند اقتسام الغنائم...) (الرحلة ص15)، ويمتد هذا الانتماء الجمعي حتى لحظة قدوم السائحتين الأمريكيتين إذ يرجع المتكلم إلى نفسه ليستأثر بالغنيمة وحده ويتنصل عن المجموع. إن هذا الاستئثار هو الذي أدّى بالرحلة إلى أن تكتمل في فرار (إدبار) دائم وصولاً إلى الوطن. وتتحول المكانة الأسطورية من المكان الذي مثله المجموع إلى المكانة التي يمثلها البطل الساردُ وحده.

وفي مجمل الرحلة تردنا صورُ هذا البطل مزوّدة بتشبيهات ورموز من حكايات واستذكار للماضي الخاص والعام مما عرضنا له. فالأسطورية لم تشمل الشخوص كلهم، وإن مرّت برفق على بعض هؤلاء الشخوص (مثل صديق البطل الكهل الذي فرّ مع ليا إحدى السائحتين إلى أصقاع مجهولة من أفريقيا مستغرقاً في رحلته_ حبه)، إلا أن تمثّل الأسطورة كان دواماً لشخص بعينه له امتدادات شخصية وعامة. أما الشخوص الآخرون فثانويون يدورون في فلك البطل ومساعيه. فيما غُيِّبتْ العوامل المناوئة عن السرد لتظل أنا المتكلم حاضرة حتى النهاية مع صفات معمّقة لها، منها ما يدخل في إظهار قدرات خاصة من عرافة وقيافة وخداع في الحكي يذكّر أحياناً بشخصية البطل المخادع في المقامات العربية القديمة.

هناك سرود أخرى في الرحلة، لها أهمية هي أيضاً، في إرساء الخصيصة النوعية للرحلة فلولاها لامتنع علينا إطلاق أدب رحلة على (أرض ساخنة)، وتتوزع هذه السرود على قلّتها في  مساحة النص، وتتشابك مع غيرها من استعمالات. وإذا شئنا حصرها في كتاب الرحلة المستغرق (135 صفحة) لوجدنا أنها لا تزيد عن عشرين صفحة، وبالتأكيد هذا قدر قليل مما يدخل في الموضوع المباشر الذي يميّز الرحلة عن غيرها من الأجناس، على أن سياق السرد كله لا يخرج عن مناخ أفريقيا، والشخوص موجودون هنا لأجلها، مع الوصف المتناثر لبعض التفصيلات والأمور الجانبية للحياة هناك. ولقد جنّد المؤلف قدراته في ملء الفراغ الحاصل بالتنويعات السردية التي تفنّن في زجّها مع لغته الواصفة بشعرية وبتأمل ممتلئ.

كل هذا التفصيل السردي يقابله، في الحقيقة، تضمين شعري يستفاد عادةً منه في كتب الرحلة لخلق توازن بين العالم الواقعي والجانب الشعوري، ولقد أفلح الكاتب محمد شمسي حقاً في إشاعة فضاء شعوري عام وواحد غير مشتت أو مبلبل، بمعنى أن تضمين الشعر في (أرض ساخنة) جاء موظفاً للموضوع المهيمن نفسه، فلم يخرج الكاتب عن الجو العام للنص. بل إن نثر الكاتب نفسه كانت له فاعلية شعرية على طول سياق النص، فجاءت الرحلة مع واقعيتها محمّلة بمكنونات العاطفة والخيال في سرد يستثمر التشبيهات، والمجازات، والرموز للذهاب عميقاً في ضخّ دلالته.

 

د. سهام جبار

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم