صحيفة المثقف

بحرُ الظلماتِ

سامي عبد العالكلُّ إنسانٍ لديه ذاكرة خفيةٌ لا تتوقف عن المقاومةِ، فما بالنا حين يمر الإنسانُ بحدثٍ وجودي هو الهجرة لمجتمعٍ آخر يحمل الحياة برمتها... هذا حال عمليات اللجوء إلى أوروبا وغيرها بعد أحداث الربيع العربي القاحِل. ولا سيما أنَّ اللجوء كان نتيجة حروبٍ تمثل فراغ المساحة الزمنية التي تلخص كيانه ومصيره. إذ شعر بأنَّ هناك صراعاً وشتاتاً داخله يدفعانه لمرحلة الضياع. لقد شعر اللاجئون أنَّهم لم يغادروا أوطانهم بقدر ما لفظتهم الحياة على قارعة الجنون. تركت الحربُ وراءها مجهولاً كان على أصحابه البحث عن ذواتهم طوال الوقت، حتى وإنْ حطّت بهم الرحالُ إلى دولةٍ قبلت وجودهم ورعايتهم!!

إنَّ اقتلاع الإنسان من الجذور والإلقاء فيما وراء البحار حدثٌ ضد النسيان، فليس ثمة ذاكرةٌ تنتهي بين ليلةٍ وضحاها مع معاناة اللجوء عُنوةً، لأنَّ هروباً إلى حياة مختلفة يشرخ ويكسر وجود الكائن البشري من الأساس. كان على اللاجئين أنْ يتجاوزا بحراً هو الظلام الدامس داخل نفوسنا قبل أنْ يكون اسمه البحر الابيض المتوسط أو غيره.

يبدو أنَّ عبارة "بحر الظلمات" الواردة بقصص ألف ليلة وليلةٍ ليست فقط مُعبرّة عن أهوالٍ تُنذر بهلاك الإنسان وبكون الناجي منها قد نجا بأعجوبةٍ كما جاء في حكاية السندباد البحري، لكنها كذلك مصطلح (كان وما زال) يصف حال اللاجئين العرب فراراً من الجحيم المتعدد الأنياب على خريطة الربيع العربي (داعش، جبهة النصرة، كتائب الإخوان، الجماعات الجهادية المقاتلة، الجيوش العربية النظامية، التحالف الدولي في سوريا والعراق)، إنه الفرار الكئيب عبر ظلام مُحقَق بين الشرق والغرب.

كأنَّ هناك أسئلة تستحث انسانيتنا على النظر والتأمل: هل نحن العرب نشْعُر بمعاناة الإنسان المهجر لدرجة أن ما نراه يؤثر فينا؟ هل الأكوام البشرية، هذا الهواش العربي الراهن، يعبأ بحياة الآخرين، بأية حياة لأبنائه؟ إنَّ أطفالنا، نساءنا، مجتمعاتنا ممزقةٌ في باحة العالم الراهن دون أملٍ.

لنتوقف بعد هذه السنوات إزاء غرق الطفل السوري" إيلان كردي" الذي لفظته الأمواج على شواطئ البحر الابيض المتوسط. كان جثمان إيلان كردي علامةً قد حَوَّلت المياه إلى ذاكرة من الندم، إلى عَرَقٍ من الخجل الذي يغطي تاريخنا السياسي المليء بالقسوة. لماذا لم ندْرك في هذا التاريخ مصيراً مأساوياً نحن أصحابه أم سيحتاج الخجل إلى كائن حسّاس اسمه الإنسان؟! فعلاً تابع العالمُ حينذاك صور اللاجئين وتابعنا نحن أيضاً كأننا منفصلون عن الواقع. أو أننا (من باب الهروب) لم نتابع رغم عيونناً المفتوحة، كانت صور إيلان كردي دليلاً فاضحاً في بحر العار العربي لا بحر الروم كما سُمِّي قديماً. أُريق ماءُ حياته البريئة على شواطئ الخلافة العثمانية ( تركيا). فطفولة سورياً لا حياة إيلان كردي فقط لفظها البحر جثةً طافيةً. لكن التصق وجه هذا الطفل السوري تحديداً بالأرض، بينما عكس ظهره الساكن كالشفق مصيراً قانياً بعمق الكراهية والدمار الحاصل  في سوريا. فأيَّةُ جريمةٍ ضد الإنسانية تستوعب هذا الحال المرعب؟!

صورة إيلان كردي حملت مرارة المآسي الإنسانية قاطبة في تلك اللوحة التي هي من لحم الواقع. كان يتجنب نظراتنا بالموت نائماً فأيقظ داخلنا آلاماً لن تنتهي. هذا يلخص كلَّ تاريخ العرب الحديث الذي اجتر مآسينا وصراعنا من زمن ليس بالقريب. تاريخ الغرق السياسي والاجتماعي للأبرياء والضحايا نتيجة القهر والاستبداد والضياع والتخلف والديكتاتورية. لو صار أن نتذكر ذلك الوضع في قادم الأيام سيكون الألم هو لحمنا الأول. وسيمثل واقعنا العشاء الأخير لمسيحٍ راهن لا يملك خلاصنا ولا الاعتراف بنا. فالألم من هذا الصنف لا ينامُ على الإطلاق وإلاَّ لتلاشى موضوعُه وبات طافياً بلا داعٍ.

لقد غرق الطفلُ إيلان كردي في عجزنا المؤلم من الأناضول إلى أقاصي أفريقيا ومن أدنى الخليج إلى أطراف المحيط. تحول وجود العرب الصاخب فجأة إلى غرفة غاصة بالصمت الخانق. وامست هويتُنا التي كم تغنينا بها صخرةً مبللةً بالدموع من كل حدب وصوبٍ. لا تتزحزح ولا تسمع ولا أمل حتى في أنْ تتدحرج باتجاه المستقبل. ومع ذلك نحن مُصرَّون على ضربِ رؤوسنا بكتلتها الصماء دون أنْ نستفيق!!

تاريخياً ليس اللاجئون ذوي مكانة وثيرة في قاموسنا السياسي، لا العربي ولا الإسلامي ولا الاثني ولا القاري ولا المحلي حتى. إنَّهم مطرودون من رحمة العرب داخل أوطانهم. فكان حتما أنْ تصعد أرواحُهم إلى الخالق. إنَّ مسلسلنا الصراعي الدرامي الذي لا ينتهي هو صعود الأرواح الشاكية إلى السماء. وإذا أرّخنا لمنطقتنا الجغرافية، فإنها أزمنة اللجوء من الطغيان والمجاعات والحروب ودمار الطوائف والمذاهب والجماعات الدينية وعصابات السياسة وأحزابها. هي حفريات الصراع الضال والتهجير غير الأدمي.

اللجوء في أبجدياتنا الحياتية ليس إنسانياً بالمرة. لكنه مطاردةٌ ليليةٌ هروباً من الموت بفعل الغزو والدمار السياسي. هذا القاموس ينقل معاني الغنائم والسبي والاستعباد والإذلال والقتل على الانتماء والتجريف لكل ما هو انساني. أمَّا اللجوء بمظلة من حقوق الإنسان وقبول الآخر والإغاثة الإنسانية والضيافة الحضارية، فتلك هوةٌ ابتلعت من يترك دياره باحثاً عن المأوى. للأسف (ونحن المتمتعون بها) تعد هذه المظلة الإنسانية صناعةٌ أوروبيةٌ صرف. جاءت من عصر التنوير وصولاً إلى منظمات رعاية المهاجرين وحقوق الأقليات وعدم التمييز ضد الأجانب. إنَّها الممارسة النقيضة لثقافتنا في التعامل مع الغير الذي نناصبه العداء والملاحقة. إذا استعملنا عبارات النحو، فإن اللاجئ في مجتمعاتنا العربية لا محل له من الإعراب والسكن والأمان والاعتراف. فقط ليس له في ذمتنا إلاّ أضعف الإيمان(الدعاء- الشفقة)!!

هل كان لا بد أنْ يحتضن الموتُ الطفل إيلان كردي حتى نراه؟! ظلام الواقع العربي كان مرشوقاً في قلب الثورات الربيعية من البداية حتى النهاية. حقاً لهؤلاء العابرين أنْ يسمونَّها ثورات أنتجت ظلاماً ليس أكثر. ويمكنهم اطلاق الخيال لينضم الظلام المعاصر إلى ظلام العصور الغابرة. الحديث النبوي كما جاء: " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" يبرز آلية الدماغ العربي المتأرجحة تحت مذابح داعش. بل تحت مذابح كل من هبّ ودبّ في تراث الحروب العربية. دماغ تقول: هل من قصّاب لاهوتي يتقدّم المشاهد للإجهاز على الناس؟ بالطبع سيجد أمامه رقاب بعدد حبات الرمال. هذا حال العرب، فكم راقبوا الموت ببلاهة أمام شاشات التلفاز مشدوهين في حربي الخليج الأولى والثانية، وفقدوا مفارقاته اليومية، تعودوا على صدماته المتجددة. إن كلُّ شعوب لا تعي مصيرها جيداً ولا تسعى إلى صناعته بشكل أفضل للأجيال القادمة، سيكون نهايتها بمقصلة الإرهاب (ظلام الداخل) أو غرقاً تعلقاً بالآخر.

لقد كان إيلانُ كردي يحاول مع والده عبور الظلام نحو ضفاف أوروبا، إذ ليس ثمة شيءٌ يتطلع إلى النور مثل الطفولة. إنها بهجة الحياة التي نتطلع من خلالها إلى المستقبل.  والمصادفة أنَّ صور ايلان بجوار اخيه في لقطات حياتهما التي تم تداولها آنذاك كانت لقطات باسمة، معبرة عن المرح والسعادة، ولكن حين التهمته مياه البحر الأبيض المتوسط، فكأنما قد التهم ابتسامتنا العابرة عبور الضوء. وعندما انكفئ على وجهه كلوحة فنية فكأنما قد غاب مستقبل أطفالنا. فضياع الطفولة معناه قتل الزمن القادم لو كان هناك من يعقل ذلك. معناه تدمير حياتنا المأمولة بين جحافل الكتائب الحربية والجماعات المتطرفة. العجيب أنَّ هذا كان يحدث يومياً دونما انتباه إلاَّ من ذاكرة الموت فقط.

والظلام يلاحق الأطفال لأنَّهم وحدهم القادرون على دحره رغم ضعفهم. كان داعش يخاف من أطفالنا النجباء فيدسهم بين جنوده. كان يدربهم على حمل السلاح والقتل وسفك الدماء. فكلُّ ظلام دامس يتجنب بصيصَ أيِّ أمل طفولي. إنَّ ابتسامة طفل لهي القادرة على خلق الأشياء من جديد، على محو الخراب، على ابراز الحقائق ولو بحجم العالم الأشد قسوة من أهوال البحر. إنَّ الجماعات المتطرفة تختار أسوأ الأقدار للمجتمعات بأكفان الطفولة التي تنشرها صباحاً ومساءً. بالأمس القريب في مصر ألبست جماعة الإخوان أطفال المدارس أكفاناً في مواجهة خصومهم السياسيين!! واعتبروهم قوافل محملة برسائل للمجتمعات العربية لا لمصر فقط، فلم تكن الأكفان سوى لون أبيض لفكر أسود دموي. إذ كيف يبيّضون قماشاً بينما يقتلون إنسانية الأطفال البريئة؟!

لم تغب صُور إيلان كردي، بل أصبح كل طفل إيلاناً بشحمه ولحمه في منازلنا وحدائقنا الباكية، وفي غرف صغارنا الخاوية من الابتسامة. إذا كان إيلان كردي قد مات غرقاً، فلأنَّه حي. فعلاً لم ينل منه المصير إلى الآن رغم مرور السنوات على فاجعته. فنحن لا نلتفت إلى الموت إلاَّ لكونه مس جوهرنا في كيان ليس لنا. تحديداً  قد مسَّ عجزنا عن انقاذ ذواتنا منه في هذا الشخص وقد أدركنا أنه سيلحق بنا لا محالة. ولكي نعتبر من هذا الحدث، فليس لذواتنا ملجأ إلاَّ طفولة صرعى على شواطئ المجهول كما رأينا. ومع هذا ليس لذواتنا علاجٌ، لأننا شاركنا في جريمة قتل اللاجئين بالصمت والعجز. أغرقنا إيلان كردي في حينه بنظرات دامعة لا أكثر. وإلاَّ ماذا فعلنا له ولغيره في العراق وليبيا وسوريا واليمن؟!

لنلاحظ أنَّ الغرق كان صناعة لمجتمعاتنا الداعشية التي أفرزت الظلام الفكري والإرهاب والديكتاتورية. وما زال الخطر المحدق يهدد أطفالنا ويضعهم على شأفة الهاوية بخصوص التربية والتعليم والرعاية. لم تكن داعش وغيرها ظلاماً طارئاً، إنما هناك دول عربية مؤسسة علي أيديولوجيا الدعشنة والاستدعاش. تقتات منها وتصدرها إلى دول ومجتمعاتٍ أخرى. إنَّ  قصص ألف ليلة وليلة لهي ألف محاولة ومحاولة لتجنب الغرق كغرق إيلان كردي. إنَّها تاريخ المتعة السياسية في شكل حكاية سردية لمراوغة الموت الناتج عن الاستبداد والقمع السياسيين. لم تَقلّ الأخيلةُ في ألف ليلة وليلة إغواءً عن صور إيلان كردي التي مثلث رصيدا ًللظلام الذي نعانيه (لقد تحول الموت والقتل إلى لذة لدى جماعات الارهاب وأطراف الصراع). فتركنا نحن العرب محتوى القصص وتمسكنا بالإمتاع الليلي، بإيقاع الهروب من السيف أو إدمان إراقة الدماء.

الموت البريء هو عنوان إيلان كردي في عمق البحر. لقد أحرجت طفولُته الموت الخاطف بقدر ما أظهرت مأساته بالنسبة لكل الناظرين. كان إيلان ساكناً مستسلماً في موته للقدرِ الذي دفعناه نحن أبناء عمومته إليه. فأيُّ قدرٍ قاتل هذا الذي يريد استسلاماً مدفوع الدموع والأحزان على شيء سنفقده إلى الأبد؟ كان حظُ إيلان العاثر أنَّه  مثل البريد الافتراضي لوجوده بالنسبة إلينا ولاستمرار ذاكرتنا تجاهه.  فيا ترى كم إيلان كردي آخر ابتلعه القتل ولم يره أحدٌ منذ الصراعات الدموية التي اشعلت المجتمعات العربية؟ وكم طفولةً لفظتها الأنظمة السياسية جثةً في بحر الحياة نتيجة التخلف والمرض والفقر دون أيِّ لجوءٍ؟!!

لعل الإنسان العربي ما لم يعش حياة كريمة في وطنه دون تسول ولا صراع لن يجد أي مأوى آمن له، فقد يحل ضيفاً لدى الآخر وقد يجد حياة ثرية في مجتمع مغاير، لكنه سيشعر بفجوة وجودية لا تملأها حياته الصاخبة. إنَّ اللجوء تجربة قاسية تجعل الأوطان أوجاعاً بلون الشمس الحارقة وإنْ كانت كامنةً في الأعماق.

 

سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم