صحيفة المثقف

تحولات الجسد.. ما بعد الحيوان

سامي عبد العالهل يمكن للجسد البشري أنْ يتجاوز الحيوان الذي يسكُنه؟ وبالتوازي: هل كل سلطة تستحضر حيواناً ما داخل الإنسان حتى يسهل ترويضه؟ وعلية يجب التساؤل تالياً: ما هي أبرز تحولات الجسد في تاريخه المراوغ مع السلطة؟!

علينا الالتفات مبدئياً أننا جزء لا يتجزأ من فكرة الحيوان بشكل عام، وأنّها إحدى مراتب الوجود الحي مع الآخرين والكائنات الحية. فنحن نحيا كضرب من الوجوه الحيوية المشتركة في الطبيعة. ولكن الإنسان يتجاوز مرحلةً كهذه من خلال تطورات الثقافة والحضارة والإبداع والفكر، كما أنَّ نمط العيش الخاص به يختلف عن سواه من كائنات. بيد أنَّ الاسئلة السابقة تثير إشكالية التجاوز لهذه الحيوانية من عدمها، أو على الأقل يتم تأويلها ثقافياً من جانبنا في تاريخ الوجود الإنساني.

سبب فكرة التجاوز أنَّ السلطة لا ترى في الجسد سوى الحيوان القابل للمراقبة والقمع والحجر والسجن والإقصاء وأنَّه كلما قطع شوطاً من الرمزية الثقافية تعيده إلى الخلف مرةً بعد مرةٍ. والقضية الأعمق أنَّ الغرائز تجعل من الجسد قدرة ذاتية على الوجود والتجلي، ومع كل الرغبات تنشأ السلطة المقابلة التي تحد من فعلها المتجاوز، أي مع فاعلية الرغبات سرعان ما تضع سلطةٌ ما تقنيناً لهذه الغرائز طالما كانت تثير نوعاً من الصراع على نطاقٍ عام. أي أنَّه عبر مراحل التاريخ الأولى في "تراث الجسد" حتى النهاية خضع الجسد لسلطة ما، استغرقت دلالاته بالنسبة إليها وبالنسبة لحياته. فهي تهتمُ بالجسد نظراً لاعتباره امتداداً لها، فإذا كان علَّيه أنْ يصبح موجوداً فهي تنتظر منه مزيداً من الوجود المعبر عنها حين لا تكون (في غيابها الظاهري).

في المقابل استوعبت تحولات الجسد هذه السلطة المتربصة وأثارت حفيظتها بالوقت نفسه. وأنَّ كل تحولات ( تحورات) بيولوجية أو ثقافية في الجسد هدفها الإفلات من التسلط أو على الأقل مراوغته. فلا تخشى السلطة شيئاً قدر ما تخشى من تحرر الأجساد، لأنَّها تهدد كيانها الحي الذي تحافظ عليه يقظاً بين البشر. مما جعل الصراع على مساحة التحرر مشتعلاً مع تغيرات السياسة وأنظمتها المختلفة.

المفارقة أنَّ الدور المزدوج للجسد (البيولوجيا-الثقافة) كان رهاناً على امتصاص عنف السلطة وفلترته لصالح أشكال جديدة من الأجساد الحرة إلى حد ما. فليست دوائر الليبرالية السياسية سوى جزء من هذا الرهان الحر باعتبار أن الاعتراف المفتوح بكيان الجسد دون أدلجته أو قولبته، وحتى ما بعد الليبرالية بمجمل حقوقها الإنسانية إنما هي سياسة انفتاح لمجال الجسد وآفاقه. فمع فرص التحول الذي يحققه يكون الجسد قادراً على التمتع بسلطةٍ ذاتية (الحريات الفردية) وباستطاعته أنْ يدبر شؤونه الخاصة. والحقيقة أنَّ دلالةَ الجسد تنشأ من كونِّه قوة قابلة للتأثير والتأثُر دون قمع، أي أنَّه وسيط فعال فوق العادة لأشياء قد تأتي غالباً بحكم تفاعل البشر. فتكوين المجتمعات يفترض سلفاً هذا الوسيط الحر الذي يلتزم بآلياته ومظاهر حركته.

الأمر فيه جانبان: احدهما الوجود المرتبط بالرغبة الممتدة كبناء شعوريٍّ يجمنا والآخرين، كلَّ الآخرين. فلا يوجد إنسان دون رغباتٍ ولا إمكانيات حسية يكاد يدركها أيُّ من يعيش معه. وذلك يفترض التأثير المجاوز لحدود الجسد في مجاله المعروف. وهو ما يجعل الرغبة – كدالٍّ صائر دون توقف- موضوعاً للآخر ويجعل إمكانية قوته واردة باستمرار.    ومن ذلك نشأ ما اسميه الوجود معاًco-existence وهو المتحقق انسانياً ولغوياَ كما ترى جوليا كريستيفا. فما يميز تاريخ الانسان هو الإحساس بغيره، أنَّه الكائن الذي يأخذ آخريته otherness بعين الوجود ولا يستطيع العيش دونها. فاللغة مثلاً لا تأخذ امكانياتها الدلالية إلاَّ برغبة تجاه الآخر، التكلم هو ترجمة لرسالة ما كانت لتخرج دون وجوده، والكتابة هي الغياب الذي يغزل خيوط ما يستحيل حضوره، وهي تفترض ترك حروف وكلمات وصيغ لمن يأتي في وقتٍ ما.

أمَّا الوجه التالي، فهو البُعد الرمزي الذي يحل محل البعد المادي الأول عبر فضائه غير المدرك. أي هو الشيء الحاضر حين يغيب الآخر مادياً عن قصد أو دونه. فالرمز شيء يحضر مكان شيء غائب دالاً عليه. وكلمة الشيء لا مهرب من استعمالها، فلا يسعفنا معجم اللغة تعبيراً عن رموز بصيغ لا تشير إلى معطياتٍ بعينها. فالموت -على سبيل التوضيح- يُعرف بأنَّه فقدان لروح الحياة في الكائن، لكن ما هي ماهيته؟ ما طبيعته؟ هو وضع رمزي يفعل دلالياً داخل الجسد وخارجه، وهنا يعرِّفنا اللاوعي والخيال أبعاداً أخرى في شكل اللاجسد. ولا يعني ذلك تصفيةً لقضايا الجسد بمعطاه الحي لكن ما يحصل يمثل وجوداً من نوع خاص.

بالتدريج التاريخي يمكننا- لإتمام الفكرة السابقة- رصد تحولات الجسد (من خارجه إلى داخله) واضعاً السلطة في احراج تكويني للتحرر منها. لقد استطاع " الجسد" أن يتحول (يتغير- يشف، يُهجّن، يُصنع) مستثمراً الفجوات الثورية لبنية المعرفة والسياسة والتكنولوجيا والمجتمعات الإنسانية. كان عليه بلوغ أقسى درجات التكيف وانتزاع مصيره الأنطولوجي تعبيراً عن طبيعته كما حدث في الواقع الافتراضي. المدهش أن مسار تطورات الجسد يدفع بالأمور لصالحه حتى اللحظة الأخيرة. أي بنفس منطق السلطة يقارعها الجسد طبيعة بطبيعة محاولاً تصفية كتلته الحرجة ( العضوية والبيولوجية) والتي تثير غرائز التوحش لدى السلطة حين ترى جسداً متمرداً.

إذن ثمة مراحل مرَّ بها الجسد أنطولوجياً حتى وصل إلى صورته الافتراضية الراهنة التي تظهر في تكنولوجيا الصورة والمحاكاة والكائنات الرقمية.

أولاً: الجسد مخلُّوقاً (سلطة اللاهوت):

وهي مرحلة السلطة اللاهوتية المُضافة إلى الجسد من الخارج، باعتباره احدى بصمات الإله في الإنسان. إنه " الجسد– القيمة " من وجهة نظر المؤمنين في الأديان. حيث مثلَّ أثراً لاكتشاف أثار الخالق بصدد التكوين والوظائف والحكمة التي يجسدها. فالإله- من تلك الزاوية- وهب الإنسان جسداً معجزاً في حياةٍ يتحملها كنعمة ميتافيزيقية.

وجميع أصحاب الديانات يبدون امتناناً للسماء، لأنَّها أوجدت الجسد الذي يحس ويشعر ويتمتع بالملذات منتظراً منها المزيد، لكن الأهم أنَّ أية سلطة له في هذه المرحلة لن تكون نابعةً منه تخصيصاً، فدوما تستحضر سواها من مصدرها المتعالي. هذا بخلاف الغرائز التي ستجد تصنيفها داخل أهواء الجسد. أي أنَّ خطابات الأديان وعظياً تطلق تحذيراً من انحرافات الجسد بوصفه دابةً للشر. وهو الدابة التي تجذب صاحبها نحو الأرض وحمأة الخطايا. فالإنسان العاصي ستلاحقه اللعنات، لأنَّه عصي خالق (الجسد) واتبع شهواته الدنيا. وهذا الاعتقاد يضمر كون الجسد محلَّاً لشيطان خفيٍّ سلارعان ما يملى على صاحبه معاقرة الزائل والشهوات.

هناك جانب محقر في المسألة أساسه تدني غرائز الجسد حين تشد الإنسان إلى وهاد الحياة بينما الروح تجذبه إلى أعلى. ونظراً لعجز الإنسان عن التخلص من غرائزه، فالكهانة الدينية تقنعه بأنَّ خلاصة يتم بقمع جسده ووضعه تحت الوصاية. إذن بطبيعة الجسد لا يستطيع الإنسان التحرر من رجال الدين انتظاماً لقطيع طويل باسم العبودية للإله. أي اعتبار القيد نابعاً من الجسد بتسييس حركته لصالح من يتحكمون فيه.

ثانياً: الجسد مؤسطَّراً (سلطة الأسطورة):

والسلطة ها هنا تكمن في إضفاء الطابع الأسطوري على الجسد، فقد تمَّ تصويره في منحوتات ورسوم الفراعنة واليونان على أنَّه خليط من الحيوان الخرافي والجانب الإنساني. والسلطة بطريقة النقطة الأولى خارج قوى الجسد الإنساني، وكأنَّ هناك اسراراً تسكنه ليفعل أشياء خارقة للمألوف.

بإشارةٍ سبقت كانت آلهة الفراعنة دالةً على قوى تنوء بها الطاقة البشرية المعتادة. والسلطة تحرم الجسد الآخر في مجال الأساطير من الوجود حراً. لأن ادراج كيانه الضعيف كإنسانٍ عادي يجعل الجسد الأسطوري خارج التوقع ويجلب أسراراً ترتبط بالآلهة لا البشر.

ثالثاً: الجسد شفافاً (سلطة الروحانيات):

هو ناتج عن التعلق بالروحانيات، إذ تحاول اتجاهات روحانية بث انفاس إنسانية على إيقاع لاهوتي قديم في صورة الجسد. والأمر مبني على اعتبار الجسد أقل أهمية من الروح. وفي ذلك لا تخفى ثنائيات: جسد/ روح، عقل / حس، جوهر / مظهر.

والجسد هاهنا هو البديل الخلفي لما كانت تمارسه السلطة المادية. فالروح هو السلم للمعراج بالجسد نحو الأعلى. ويؤكد هذا التفكير أنَّ الجسد سيتحول من كتلةٍ غرائزيةٍ إلى مستوى شفاف. أي محاولة للتطهر من الإحساس الداخلي بالخطيئة، ذلك على افتراض كون الجسد جراباً لآثام قديمة.

والأخطر أنْ يصل الجسد رغم ماديته إلى سلطة باسم الروح، وهذا ما يعيد قداسته المفقودة. الأمر واسع الانتشار في الجماعات الصوفية وتعاليم الأديان التي تعنى بالروحانيات حيت تختزل القداسة في أشخاص بعينهم. ويصبح الجسد منعزلاً، هائماً، غائباً لصالح الروح. وهذا له جانب سياسي متعلق باصطياد الاجساد الهائمة ضمن حشود الأيديولوجيا، فالسياسة تفرغ الأجساد من طاقات التمرد. وإذا كانت الروح تفعل ذلك، فليس أمام الأنظمة السياسية سوى مد خط الروحانيات إلى المجهول، حتى تترك الأجساد كقواقع مقذوفة على شواطئ الحياة.

رابعاً: الجسد مؤدلجاً (سلطة الأيديولوجيا):

تأتي الفكرة من إلباس الجسد لباس الأيديولوجيا، وكافة الأيديولوجيات تخضع الجسد لمعايير حاكمة، تقده قداً على مقاييس معينة إنْ لم تكن لتخلقه من جديد. الأيديولوجيات الدينية مثلاَ تستعمل لاهوت التحريم للسيطرة على الجسد، فتقرر إسناده إلى الإله وكيفية التعامل معه وآداب اللياقة الجسدية وأزمنته وأهم التغيرات الطارئة عليه. كل هذا في إطار تنظيم اجتماعي ثقافي يستقبل إمكانياته وفق مرجعية الدين.

كذلك الأيديولوجيات السياسية تتعامل مع الأجساد كمعادل موضوعي لتحقق منافعها. فهي تريد الاصطفاف باسمها وتنحت علامات الجسد وفقاً لتراتب يخدم مصالح الفاعلين. فالأيديولوجيا الماركسية تفترض الاصطفاف في مجتمع الطبقات بما يشعل الصراع السياسي ويحسمه لصالح الفقراء.

وبالمثل الاتجاهات الليبرالية تفترض أنَّ الأجساد تتحول إلى ثقافة للتحرر من مركزية السلطة لصالح سلطتها الخاصة، بحيث يتقلص دور الدولة والمجتمع وتزيد رقعة الحرية الفردية. ولأول مرة بعد عصر النهضة وجدت الاجساد صدى لتحولاتها في مسارات نوعية بجب أن تقطعها. ورغم وقوع الايديولوجيات في حفرة اللاهوت من جهة مركزية النظرية السياسية إلاَّ أنها تركت أثراً لم يكن مقصوداً. مؤداه أن الجسد بإمكانه حمل مصيره كطاقة قابلة للانفجار السياسي خلال أية لحظة. ولذلك فإن عصور الأيديولوجيات تنتهي غالباً بانفجار حيوي للأجساد على جثث النظريات المغلقة.

خامساً: الجسد طقساً (سلطة التدين):

حيث انتشرت طقوس الجسد لدى جماعات الاسلام السياسي كانتشار النار في الهشيم. فهم يعتبرون الجسد طقساً جمعياً علينا تغطيته بالرموز. وهو ما يوثق عُرى السلطة الدينية مستدعياً اشباحها في كل مكان. هي سلطة المقدس بمعناه التنظيمي المؤدلج، فالرجال يرتدون جلباباً وبنطالاً قصيرين، وتنقش الذقون بلحى طويله وتحمل الأيدي سواكاً لا يمل صاحبها تخليلاً لأسنانه. ويمشون بتؤدة بين خطى سريعة وأخرى بطيئة تعكس خجلاً خادعاً كإيحاء بالخشية من الله. ولا ينسى رجال الجماعات الاسلامية محاولة التظاهر بالجدية المطلوبة لحسم الأمور.

كان نمط الجسد تسييساً ذكورياً يعكس خطاب الإسلاميين الذي يصطَّاد متابعيه في شباكه من أول طرحِه، مع الزعم أنه مجرد جسد عابد، قانت لله في تفاصيله ومسعاه. بالطبع سيأتي المظهر مع علامة الصلاة (الزبيبة بالجبهة) والوجه الجاد مع الخطوات المهرولة والواثقة كأنَّ ثمة مهمةً له لا تنتهي. أما جسد النساء فهو محط عناية الاسلام السياسي بالمقام الأول. فالتغطية بالنقاب والملابس السميكة والمشي المتواري هي نظرية سياسية في طبيعة المرأة وأفكارها ووجودها الاجتماعي. كما أن جسدي المرأة والرجل مربوطان بمرجعية جهادية تترجم إلى أفعال عنيفة، ولذلك فالجسد كطقس بالمعنى السابق كان عبوة ناسفة تحصد الأرواح لدى الدواعش والقاعدة والسلفية الجهادية وبوكوحرام.

سادساً: الجسد أداة مدمرة (سلطة الموت):

هو ما يظهر في الحروب التي ينخرط فيها البشر بلا طائل، وقد مرت البشرية بحربين عالميتين ضروس في النصف الأول من القرن العشرين، الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. حيث كان الإنسان الأوروبي (إنسان الحداثة والعقلانية والتنوير) آلة تدمير بامتياز.

ظهر الإنسان خلال هذين الحربين راكضاً وراء أشباحه ككائن أحمق وطائش. يركض ليحرق ويدمر تاركاً الأرامل والثكلى والأيتام في شوارع أوروبا. يبدو أنَّ الإنسان إذا أشعل غرائز القطيع والتوحش لن يوقفه سوى الفناء. لا يختلف في هذا مجتمع عن سواه. مما حدا جان بول سارتر إلى طرح سؤال الوجود كنبع أصيلٍّ لحرية الإنسان. الوجود يسبق الماهية أيا كانت، أي ليَعُد الإنسان إلى وجوده كما هو أولاً، ثم ليبحث عما سيكُّونه من مشروعٍ. الإنسان مقذوف وجودي عليه أن يتحمل تبعاته. ومهما تكن المشروعات التي ستحقق جوهر الفرد، فلن تجدي بدون حريةٍ هي لب ماهيته. الوجود كامن في كيانه الجسدي بقدر أصالة الحياة وغرائزها.

سابعاً: الجسد موجُوداً (سلطة الكائن الإنساني):

وهو فكرة جسد الناتج عن الحداثة الغربية. فالجسد الحداثي ليس مسكوناً بالأساطير ولا بالأسرار ولا تحركه قوى مفارقة، لكنه مجرد جسم بيولوجي له سياقه وغرائزه الحسية، يخضع للتغيرات المناخية والطبيعية ويمرض ويشفى بعد الدراسة والفحص الطبي. وهو ما يفترض قدرة َالجسد على المشاركة في الحياة العامة طالما يمكن التحكم فيه. والعنوان البارز أن الجسد يستطيع التعبير عن نفسه، وبإمكاننا تأهيله لتحمل القيم والمسؤولية والحرية داخل مواطني الدول والمجتمعات.

بوضوح قال كوجيتو ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود) وهو اعلان صريح بقوة الفكر داخل جسد يغدو موجوداً في ذاته. والكوجيتو هنا اعلان سياسي كذلك وليس فلسفياً فقط. وطالما نستطيع التفكير بحرية، فإننا نستطع الوجود بالدرجة نفسها. هو اعلان لنزع السلطة المقدسة التي أوجدت ذوات الناس سلفاً (الجسد مخلوقاً ومؤسطراً). والفكر يعني ممارسة دلالات الجسد كاشفاً قدراته الطبيعية والرمزية. ورغم ما قيل فلسفياً عن الكوجيتو الديكارتي ( ثنائية الفكر والوجود) إذ يباعد الفكر عن الجسد، لكن تأويلُّه يعني لحظات الفكر الأولى (أنا أفكر) والوجود الثانية ( إنا موجود) قد لا ينفصلان. الفكر هو عين الوجود والوجود هو عين الفكر، الأنا واحد.

وتلك خطوة كبيرة في قطع هيمنة السلطة على الأجساد من الخارج، فالسلطة - ديكارتياً- كامنة في ذات الإنسان طالما هو إنسان وطالما يمتلك فكراً حراً. الخطوة التالية أن الفرد قد يكون خالقاً لحياته، عكس مما يروَّجه كُّهان اللاهوت ( الجسد المحقر).

ثامناً: الجسد طاقة (آلة عمل):

الجسد هو الرصيد العيني لفكرة العمل، فما لم يكن ثمة جسد هو طاقات مختزلة ما كان بإمكاننا تصريفها عملياً. معنى ذلك أن العمل هو الجانب المختزل داخل الجسد بإدارة الذات نحو المنفعة. لكنه يفترض مورداً اجادت الرأسمالية استغلاله لتحقيق الأرباح وفتح الأسواق العابرة للمجتمعات.

كانت المقايضة لا تخطئها العين بين القوى العضلية للجسد والقوى الشرائية التي قد يجنيها، ليجيء جعل الجسد ماكينة بشرية تستنزف قدراته تباعاً. وقد نوَّه ماركس أنَّ العمال يبيعون قواهم الجسدية من أجل احتياجاتهم، وأنَّهم يقعون تحت نير طبقة الرأسمال التي لا ترحم. حيث يراهن الاقتصاد على فائض القوة الجسدية لجني المكاسب التي تهدر عرق الآخرين.

الرأسمالي لدية كل الحيل الممكنة في امتلاك الأجساد بواسطة أمرين.

1- التحكم في الأسواق وسيولة الأسعار وبالتالي سيثير سيولة الطاقة الجسدية الباحثة عن احتياجاتها الأولية.

2- اعتبار الاجساد معاول لزيادة ثرواته عن طريق استنفار غرائزها ببدائل لا تتوافر لجميع الناس نظراً لتدني الأجور. سواء من خلال نوعية السلع المادية أو بالاشتغال على إثارة الرغبات وإدارتها لصالح الأغنياء وأصحاب السلطة.

تاسعاً: الجسد عارياً (الافقار والعُري):

ظاهرتا الفقر والعُري (في مجتمعات معاصرة) مرتبطان بالتقائهما عند مستوى الشهوات. صحيح لا يوجد قانون للأجساد التي يحملها الفقراء وكذلك لأجساد الطبقة الثرية المرفهة، إلاَّ أنَّ الجسد الفقير العاري من إنسانيته ومن حماية المجتمع هو منشور سياسي لفضح الأنظمة الحاكمة المستبدة. هذه الأنظمة المتخمة بإشباع الغرائز لفئات عُليا ليس أكثر، في حين تتلاعب بالفقراء عن طريق الجسد كترمومتر لبسط النفوذ واستهلاك طاقات التحرر واهدار رصيد الحياة.

صناعة الفقر هي صناعة ثقيلة تشغل ماهية الجسد وتربطه بالمجهول حتى الرمق الأخير. وهي صناعة تقول: ليكُّن الجسد هو الآكل لنفسه إنْ لم يجد ما يقتات عليه. وإذا كان " كل تغير كمي يؤدي إلى تغير كيفي " بعبارة الماركسية، فتجويع الجسد يطفئ على الأقل جذوة النهوض والحركة. ومع طبع الفقر في طيات الجسد (الفقراء عادة كالأشباح)، فالفقر علامة واضحة للعيان، الفقر يمشي على رجلين في أحرش المدن والقرى والحواري والأزقة.

أغلب المجتمعات العربية تتَّوحل– بهذا المعنى- في العشوائيات السكانية على نواصي المدن وأحزمة القصور والمزارع. إنه عرض الجسد عارياً لكشف لحم الفقراء أمام العيون، أما حالة العُري المبتذل في الدعارة والنوادي والفنون والدراما والسينما فتكتب رداً على الإفقار المادي بإفقار قيمي (أخلاقي).

ليس ثمة مبرر أخلاقي يلزم الفقير ببيع جسده وعقله وإرادته وحريته لمن يدفع دون أن يشعر بحرية كيانه. حيث يكون الجسد سلعة الأنظمة السياسية وسلعة علب الليل على السواء. إنَّ العُري القائم على الفقر هو أقسى أنماط العُري اذلالاً للإنسان، لأنَّه غدا بضاعة مكشوفة أمام الذباب الاجتماعي والسياسي. وكلمة الذباب نتيجة فضيحة انكشاف الجسد لمن يشتري سواء أكان ديكتاتوراً سياسياً يتاجر بالعقول وإرادة الشعوب أم راغب متعة يتسَّقط ضحاياه الذين هم ضحايا آلة اقتصادية تدهس الفئات الفقيرة.

عاشراً: الجسد كائناً آلياً (الروبوت):

ظهر هذا الجسد نتيجة تخليط التقنيات المتطورة الكترونياً مع الجسد كنسيج بشري. الإنسان الآلي أو مزيج من الجسد الحي وشرائح الكترونية تؤدي وظائف مثل التذكر وتغذية الجسم أو زراعة أعضاء مصنَّعة في اللحم الحي. هذا الجسد يشكك في قدرات السلطة التقليدية على بسط نفوذها. فالسلطة لا تمارس وظائفها بخفاءٍ طوال الوقت، وبلتالي ماذا لو كانت التقنية متغلغلةً فيما هو حي داخلنا؟!

الجسد الآلي ليس خطراً على الجسد البيولوجي، لكنه يشكل خطراً على السلطة، لأنه يأتي من النقطة الأكثر عماءً بالنسبة إليها. فكيف سيشعر بالخوف من لا يشعر بالحياة مثلاً؟ كيف يميز الجسد الآلي بين هذا وذاك دونما برمجة سالفة التجهيز؟ هذا الوضع يحتاج نمطاً معقداً من السلطة، لأن الجسد الآلي يحمل سلطته الخاصة. ويلعب اللعبة ذاتها التي تفرزها السلطة وهي لعبة الوسيط، فلئن كانت السلطة أداة هيمنة ناعمة، فالجسم الآلي وسيط في الفضاء المعمول به. ليضع أية سلطة تقليدية موضع الاستفهام.

حادي عشر: الجسد متخيَّلاً (سلطة الخيال):

هو الجانب المتخيل الذي لا يجري الجسد بدونه. فليس الجسد مادةً حية ثابتة في كل الأحوال، لكنه نزوع نحو التَّوهم بجسد آخر أكثر قبولاً وكمالاً وإدهاشاً. فقد يكون هناك جسد مشوه، ولكنه سيمثل لدى صاحبه دائرة شبه مكتملة في صورة جميلة. كما أنَّ الرغبات تمد الجسد بشحنات من جنسها المفترض على مستوى الخيال. ويغدو موضع القصور موضعاً لإثارة المزيد منها عند حالات العِوُز.

ثاني عشر: الجسد افتراضياً (سلطة الديجيتال):

وهو الجسد الأكثر ذكاء بين جميع أنماط الجسد وتحولاته السابقة. إنّه منظومة رقمية تتوافر لديها إمكانيات تتفلت من السلطة في فضاء المعلوماتية والانفتاح بين البشري والتقني وتجدد الإمكانيات (التحديث). كما أنَّه يشارك إيجابياً في الحياة عبر خلق شبكة علاقات عنقودية بين العقول بمقدار توافر الممارسة فائقة الجودة.

هنا ليس يكفي للسلطة أنْ تراقب وتتابع وترسم الحدود بيولوجياً، فهذه الأشياء تحديداً هي ما يعمل الجسد الافتراضي على هدمها. لأنَّه نسيج خارج – داخل أشكال الزمان والمكان بمعناهما المألوف، أي هو جسد يدمر الثنائيات والمفاهيم الكلية. فالأبعاد المنتمية إلى المكان والزمان لا تنتمي موضوعياً إليهما وإنْ أشارا إلى ذلك. فالزمان والمكان مقولتان ميتافيزيقيتان في تاريخ الفلسفة، أمَّا في الواقع الافتراضي، فيصبح المكان زماناً والزمان مكاناً بموجب أنَّ التشكيل السائل هو الفضاء الأبرز. والجسد الافتراضي بمثابة الإمكانية غير المتصورة لجسد يفعل ما يشاء بحكم قدراته من واقع العالم الذي يسكنه.

الجسد الافتراضي لا يموت ولا يفنى لكونِّه ذاكرة إلكترونية لها نسيجها الخاص حيث يمكن تجديدها. ذاكرة تختزن في تفاصيله مستقبلاً مفتوحاً لم يأت بعد، حتى أنَّه كلما مر بانحنائه زمانية يجدد وضعه غير المنظور، إنَّ الجسد يقاوم موتاً يحتاج مادة لإفنائه. بينما الواقع الافتراضي يكتسب الحيوات تلو الحيوات كاحتمالٍّ لا ينضب، فقوانينه كامنةٌ داخله لا خارجه.

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم