صحيفة المثقف

إنتزال الجبوري: الأمُّ كتابٌ جلُّهُ غيرُ مقروء

الأمُّ لفظٌ له معنًى مُكَثِّفٌ لأصل وجود الشيء بوجهيه المادي والمعنوي؛ فالمادي كون الأم جامعة لأصل المواد الخام لكينونة الشيء، والمعنوي كونها منجمَ معانٍ إيجابية كالرقة، والعاطفة، والرحمة، والاحتضان.

والأم مفهوم لمصاديق ذات معانٍ متعددة، بعض منها ما يكون حقيقيا فيخص الذات الإنسانية، وبعض منها ما يكون مجازيا فيتعدى الذات الإنسانية لغيرها من الذوات الكونية غير العاقلة.

فالحقيقي يُطلق على الأم البشرية التي تنجب أولادًا فتكون لهم أمًّا، واللفظ الحقيقي الأعم لل(أم) هو ما يُطلق على حواء (أم البشر).

والمجازي الأعم يُطلق على الأم غير العاقلة مثل: أم النجوم(كما يطلق على المجرة)[1].

وقد يُطلق على امرأة لم تنجب لكنها حملت صفات الأنثى الأصيلة التي انطوت على كل معاني الأمومة من حب وحنان ودفء ورقة وعناية؛ فتُسمى أم أبيها، أم أخوتها، أم أهلها، أم زوجها، أم الأقارب وعامة الناس. وقد يُطلق على امرأة مهتمة بالطبقات البائسة المحرومة في المجتمع كالفقراء، واليتامى، والبائسين، فتسمى أم الفقراء، أم اليتامى، أم البائسين ...الخ.

لكن ما تفوّه به المتصوفة حول مفهوم الأم المقولة التالية:

"كثرة الصدمات عبر السنين للإنسان المثالي تجعل منه روحًا كونية...أمًّا لجميع الكائنات متجاوزًا الحدود الطبيعية للإدراك الإنساني".

وتعني ليس شرطًا أن يكون جنس الأنثى هو من يحدد صفات الأمومة الكونية؛ فالصفات الأصلية للأم الكونية لا تختصرها حدود العقل البشري. وهذا نادر الحدوث في عالم الرجال، لأن من صفاتهم الغالبة هي العقلانية، والواقعية، والخشونة، والرعاية الصارمة، لكن إذا تجرّد رجلٌ ما كليًّا من الصفات الخاصة واتسم بصفات الأمومة الأصلية لكل مخلوقات الله؛ فقد يُحتسب في خانة الأمهات الكونيات. وقد يكون أبًا كونيًا لكل الكائنات فيما لو احتفظ بِسِمات الطبع الذكوري البشري.

وقد ذهب البعض من الشعوب الى أبعد من ذلك فاعتبروا الأرض هي الأم، والأم هي الوطن، فمنها وُلد البشر استنادا الى ميثولوجيا قديمة تخلص الى أن السماء تلقّح الأرض بالمطر، وحين نزول المطر تكون الأرض خصيبةً فتنتج الرخاء[2].

وقد عبّر البعضُ عن الأرض بمفردات تحمل معاني ملوّنة تخصّ الأنثى الأم منها: ثروة، خصوبة، رخاء، أمن، مرضع، أم، أمي، امرأة، منفعلة[3].

واقترن يوم الطبيعة المصادف 21 آذار من كل عام بعيد الأم في العالم العربي، إشارة الى أن الطبيعة الخصبة المعطاء الكريمة هي أم البشر لشباهتها في العطاء وتحقيق الرخاء بالأم؛ وهو يمثل عيد الشعوب الايرانية، والكردية، وشعوب آسيا الوسطى. ويُسمى بال(نوروز) أي اليوم الجديد، أو اليوم الأول من الربيع حيث تستفيق الطبيعة، وتخضر، وتنتشر بعد سبات الشتاء.

الأم مفردٌ لجمع أمّهات أو أمّات، وتأتي أحيانا تعبيرًا عن تعدد الأمهات لفرد، أو جماعة، أو لشيء غير عاقل؛ لكثرة الأمهات التي تحمل الصفات الأعلى تركيزا، وأصالةً، وتعبيرا عن أصل الأمومة العاقلة، أو غير العاقلة، فنقول أمهات المؤمنين لزوجات الرسول(ص)، أو أمهات الفرد أو الجماعة لاجتماع كل الصفات الأصلية للأم فيهن.

ويُطلق التعبير المجازي لل(أم) على غير العاقل وقد تركّز فيه معنى أصلي، أو معانٍ، أو سمات أصلية سواء كانت حسنة أم سيئة –فمثلا- يُطلق لفظ (أم الكتاب) على سورة الفاتحة لأن تركّزت فيها الصفات الأساسية لله تعالى والمعاني العميقة، وبها يُستفتح القرآن. ويُطلق لفظ (أم القرى) على مكة، يعني التي جمعت كل سمات القرية الآمنة المطمئنة التي تحقق الطمأنينة والسكينة لساكنيها(وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)[4]. ويُطلق لفظ (أم الخبائث) على الخمر كونه حمل سِماتٍ سيئةً مضرةً بصحة الإنسان. أو يُطلق اللفظ بصفة الجمع فيُقال: أمهات الكتب بِسِمتها على رأس قائمة الكتب الأهم، والأعمق، والأكثر غنًى وثراءً في موضوع ما...الخ.

على كلا الصنفين للأم كتب العلماء، والمشاهير، والحكماء، وعامة الناس، تعريفًا بها، وإشادةً بدورها، وثناءً لما انطوت عليه من حسن المعاني، وجسامة دورها وعظيم شأنها للأم/ الإنسان، أو مدحًا أو قدحًا بما انطوت عليه من سماتٍ إيجابية أو سلبية للأم غير العاقلة.

ما يهمّنا الحديث عنه هو الأم/ الإنسان.

الأم/ الإنسان

الأم؛ الكائن الذي لم يبْقَ عالم، ولا حكيم، ولا شخصية ذات مقام عال، ولا من عامة الناس الاّ وكتب عنه.

في الحقيقة إن موضوع الأم لا يمكن استيعابه بهذه الأسطر المعدودة. والكتابة والحديث عنها لو اجتمعت أقلام وصحف الدنيا ما أوْفت حقها؛ فهي كلوحة رُسمت بألوان مختلفة جلّها غير مرئي.

بصفتي أمًا فإني لا أستطيع البوح بكل ما في نفسي عن الأم ودورها الكبير في الحياة البشرية.

الحديث عن الأم بشكل تفصيلي يطول؛ فالأم روحٌ قبل أن تكون جسدا، وتنطوي كيْنونة ذات الأمومة على الخصال التالية:

العاطفة الغزيرة، الحنان، التضحية، الإيثار، العطاء، نكران الذات، الإخلاص والوفاء، الصدق، الأمان، التمسك بالمبادئ والمثل والقيم الروحية والأخلاقية، التحمل، الصبر، التسامح، الحنكة والذكاء، الشعور العالي بالمسؤولية، اللين والرقة، والشفافية.

هذه الصفات تتركز عند أغلب الأمهات سواء كانت متعلمات أم غير متعلمات؛ فغريزة الأمومة تُوجِد هذه الصفات عند الأم بشكل عفوي وفطري. إذا توفرت في الأم هذه الصفات فإنها تنفق في كل منها على الأبناء بشكل حرفي، وبكل إخلاص حتى تستنفد قواها كاملة؛ مؤثرةً لهم على ذاتها، ولا فرق في حالة الصحة والمرض، أو السراء والضراء، أو الشدة والرخاء. وقد تتفوّق الأم غير المتعلمة على الأم المتعلمة في هذه الصفات؛ فيكون نتاجها الأمومي أبناء نموذجيين في سلوكهم، وتربيتهم، وخلقهم، وتفوقهم، وعطائهم للمجتمع والمحيط. ومن لا تنطوِ على الصفات المكوّنة لذات الأمومة لا تصلح لأن تكون أمّا.

والصفات الإيجابية للأم هي خيرُ منطلقٍ لبناءٍ محكمٍ لشخصية الأبناء ومستقبلهم ومصيرهم (الرجال صنيعة النساء)، والنساء صنيعة الأمهات. كيفما تكون الأمهات يكون الأبناء، ما خلا تدخّل عوامل الوراثة، والبيئة، والظروف الحياتية.

قد يُطلق لفظ الوالدة على الأم، وينطبق على كل من أنجبت ولدًا(ذكرا أم أنثى)، وأدّت مهام الأمومة من رضاع وحضانة وتربية. ولفظ (أم) أبلغ من الوالدة لأن يتركّز فيه كل سمات الأمومة الحقيقية من عاطفة، واهتمام، وإيثار؛ فليس كل والدة هي (أم) بالمعنى الأخص، وليس كل أم هي والدة بالمعنى الأخص أيضا، وقد تجتمع الخصال الخاصة بالأم والوالدة في امرأة واحدة.

والأم هي الحافظة والواهبة لحياة البشر بإذن الله جل وعلا؛ بِوصفها الوعاء العميق الذي يستوعب الإنسان جنينا، ويخرج طفًلا بعد إتمامه عدة الحمل. وهبها الله الرحم لكي تحمل جنينًا؛ أو توْأما، وقد يصل الى سبعة توائم. وسُمّيَ (الرحم) لأنه الوعاء الوحيد الذي يغدق الرحمة، والحماية، والأمان على الجنين من الخطر الخارجي، ويحفظه حتى بلوغه النضج الولادي.

ولكل فردٍ على الأم حقٌ أمومي مادي ومعنوي، فالمادي هو الفترة الزمنية التي تبدأ من رحم الأم؛ يمضيها الجنين متشربا الغذاء ومتنفسا الهواء؛ ومعنوي هو رفده بمعاني الرحمة، والاحتضان، والدفء الذي ينعكس عليه بالأنس والراحة والسعادة.

وقد أثبتت الدراسات كثيرا أن الجنين يشعر بكل ما تشعر به الأم الحامل من فرح وحزن؛ فيضحك ويبكي وهو في رحمها، ويسمع صوتها ويأنس به، وينام على نبض قلبها، لذلك حينما يلد الطفل باكيا يضعونه على صدر أمه؛ فيهدأ لأنه يسمع دقات قلبها. الجنين لا يعي وهو في الرحم معاناة الأم في فترة الحمل حتى لحظة الولادة. فترة الحمل ليست سهلة على الأم مطلقا؛ ففيها تمر بمنعطفات شتى على الصعيد الجسدي والنفسي والعصبي؛ فالإعياء، وثقل الجنين، وصعوبة النوم، واضطرابات الصحة، وغيرها. وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الفترة بالآيتين(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا)[5]، و(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)[6]. (وهنًا وكُرهًا) اللذان وردا في الآيتين الكريمتين يشيران الى شدة التعب والضعف والإعياء للأم أثناء الحمل، وبعده آلام الولادة.

حق الطفل المادي والمعنوي الأمومي ما بعد الولادة يتجسد باحتضانه ورضاعه والاهتمام به؛ وإغداق الحب والحنان عليه، والرقابة الدقيقة لنموه البدني، والعقلي، والسلوكي، والعاطفي، والأخلاقي، والروحي حتى يبلغ سن الرشد والاتزان في هذه النواحي، ويصبح فردا صالحا للمجتمع. والأم هي المعلم الأول في الحياة؛ إذ تكرّس وتكيّف كل طاقاتها الجسدية، والنفسية، والعقلية وفق سيرورة مراحل نمو الطفل الرضيع، حتى يبلغ الفطام، وحتى يبلغ أوج رشده البدني، والعقلي، والنفسي.

وقد تُلقي الأم الطفل في دور الحضانة إذا كانت عاملة خارج المنزل، وبعده روضات الرعاية قبل سن التعليم الأولي، وفي هذه الحالة لا يتلقّى الطفل المزيد من العناية والرعاية الكافيتين من الأم، وتختلط عليه المنابع التي يتشرّب منها لاستكمال مسيرة نموه الطبيعي الذي -من المفترض- أن يتلقاه عنها، وربما تؤدي به في المستقبل الى اضطرابات سلوكية ونفسية.

الأمومة من أشق المسؤوليات التي تعتري حياة المرأة، وأشدّها جسامةً؛ وفيها تذوب ذات الأم في ذوات أبنائها.

والعطاء الإيجابي للأم في كل محطات صيرورة الأبناء يستتبعه شحذُ قواها وهممِها بفولتية عالية من الصبر والحكمة والوعي؛ وهي مسؤولية صعبة؛ فللأم الدور الفاعل والأكبر في مهمة متابعة الأبناء؛ متحدية الصعاب، والمنعطفات، والتضاريس الوعرة في المسيرة.

و-حسب رأيي- فإن لعاطفة الأم العميقة أثرا بالغا في مراحل النمو البدني، والعقلي، والنفسي للأبناء. وفي هذا الجانب تتميز الأم الحكيمة بقدرتها على إدارة وتسخير عاطفتها في إعداد الأبناء، وغرس القيم والأخلاق الفاضلة في نفوسهم، ومعرفة شخصياتهم، والحرص على الوقت وتنظيمه، والحوار الحر، وعدم ممارسة أي نوع من الضغوط عليهم ومنحهم حرية لا بأس بها، وهذا لا يعني أن لا وجود للصرامة في التربية؛ فإن الصرامة مهمة، وهي من أمتن العوامل في عملية تنشئة الأبناء، وتشييد مستقبل واعد مشرق لهم.

وفي هذه المسيرة الشاقة الطويلة تفاصيلُ، وأسرارٌ، وألغازٌ، وخفايا لا يعلمها الاّ الله، والأم وحدها. وتمكث الأم حافظة الأسرار في وجدانها، ولم تُبْدها يوما ما حرصا على حياة الأبناء كونها مؤلمة لقلوبهم؛ والأم تدفع الألم عن قلوبهم بكل ما أوتيت من قوة ضمير، ومشاعر، وروح.

ويُتَوَّج نتاج الأم الإيجابي، بأبناء صالحين؛ كأن يكون نتاجًا عاطفيًا بحتًا؛ فيكون الولد (الذكر والأنثى) حنونًا عاطفيًا كريمَ القلب واليد، وقد يكون نتاجًا عقليًا وعلميًا وعاطفيًا؛ فيكون ذا باع في العلم والمعرفة والعاطفة معا، وقد يكون نتاجًا علميًا وعقليًا بحتًا فيكون عالمًا في حقل ما، وقد يكون شجاعًا، أو محاربًا، أو حكيمًا، أو حاكمًا، أو متدينًا طقوسيًا، أو قدّيسًا، أو راهبًا...الخ. (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ)[7]. وقد تحدث طفرة وراثية على -سبيل المثال- وينتج حضن الأم ولدًا سلبيًا سيئًا يشكّل عالة على المجتمع (يخرج الخبيث من الطيب).

وحينما يكون نتاجُ الأم إيجابيًا فإن هذا دالٌ على أن الأم كانت في مستوى من الأداء عالٍ في صلب المسؤولية وعلى أكمل وجهٍ، وأكثر.

والصفات السالبة لكينونة الأمومة؛ هي: الأنانية والنرجسية، التسلط، القسوة، فقدان الحكمة، اللامبالاة، البلاهة، السذاجة. وهذه الصفات تؤثر تأثيرًا مباشرًا على سيرورة العملية التربوية للولد؛ فيكون نتاج الأم ولدا ساذجًا أبلهًا، أو آخر قاسيًا، أو غير مسؤول، أو ضائعًا، أو منحرفًا، أو مجرمًا، أو قاتلًا...الخ. وقد يزيد الطين بلة فيما إذا اجتمعت الصفات في كلا الأبوين وبالنتيجة سوف يكون الولد عبئًا ثقيلًا يتحمل تبعاته المجتمع والمحيط الخارجي (وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا)[8].

لكن قد تحدث طفرة وراثية في هذه الحالة، وقد ينتج حضن الأم ولدًا نموذجيًا وقدوةً(يخرج الطيب من الخبيث).

في كل المجتمعات أوْلَت الأديان السماوية والأرضية مكانة خاصة للأم، وأكّدت على احترامها، وبِرّها، وتكريمها، ورعايتها، وتمجيدها، والإشادة بها.

ويتدخّل الدين في العلاقة بين الأبناء والأبوين فيمنع عقوقهما مهما كانا الاّ في الشرك بالله فإنه يجوّز معصيتهما.

وأكّدت الأديان اليهودية والمسيحية والإسلام وغيرها وجوب بِرّ الأم والأب، وقد ورد في التوراة ضمن الوصايا العشر عن الأم:

" أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض"[9].

أما في الإنجيل فقد وردت وصية النبي عيسى (ع):

" أيها الأولاد أطيعوا والديكم في الرب لأن هذا حق، وإكرام أبيك وأمك التي هي أول وصية بوعد لكي يكون لكم خير وتكونوا طوال الأعمار على الأرض"[10].

أما الإسلام فقد خص الأم والأب معا بمنزلة ومكانة سامية؛ ففي القرآن الكريم جاء عنهما: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[11]، (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[12].

وأوصى الرسول (ص) بالأم خيرا أكثر من الأب حيث قال:

(الجنة تحت أقدام الأمهات)؛

وقال لرجل حينما جاءه سائلا: أيهما أحق ببِرّي أمي أم أبي؛ فقال له: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك.

والأم المثالية هي مَن حاكت من شرايين القلب بساط َالدفء والأمان والسعادة والأمل لأبنائها. ومن سارت تحمل أصالةَ القيم؛ لتؤسّسَ هيكلَها المقدس المشيّد بركائز الإيمان والجلال والصدق والإخلاص، وعلى منوالِها تؤسس المجتمعات هياكلَها المقدسة المحصّنة من الضلال والزيف والإبتذال والكذب والتصنّع؛ فالأم هي أهم ركيزة يتكئ عليها بناء الأمم  "ليس يرقى الأبناء في أمة ما لم تكن قد ترقّت الأمهات". وهي من ترسّمت خطى الصالحات وانتهجت مسلكاً؛ لترسمَ على جبين الإنسانية خريطةَ فضائل الأخلاق ومحاسن السلوك، وشقّت بمعول الصرامة سبيل الجد والاجتهاد والإخلاص. ومن أنجبت الكبار وغرست في نفوسهم الخلق والأدب الأصيلين، وعلّمتهم الصبر، والشجاعة، والصلابة، ومواجهة الحياة، وكيف يمكن أن يكونوا أهلاً لتقبّلها بصورِها وتقلباتِها. ومن ذبلت زهرتُها، ونسيت عطرَها؛ لكنه مكث فواحاً في واحة الحياة بالحب، والجمال، والسكينة، والخير، والطمأنينة. ومن قالت للحياة: أنا هنا أسير معك وأحمل قنديلي، ونمضي معا خطوة خطوة، لنضيءَ دروب الأجيال بالعلم والمعرفة. ومن انطلقت من بؤرةِ ذاتها؛ لتحثَّ الخطى نحو العطاءِ والبذل والتضحيات الجسام؛ في كل ميادين الحياة؛ وترسم ليس للأبناء فحسب بل للبشرية جمعاء منهج المحبة والإيثار؛ وهو معين منهمر بكل المثل والقيم الإنسانية الراقية.

الأم هي الضوء الأول، والحضن الأول الذي شهد البكاء الأول، والقبلة الأولى، والضحك الأول، وهي الوطن ذو التراب الدافىء، والأرض المعطاء، والروض البهي، والينبوع الأبدي المتدفق حبا، وطيبا، وعطاء، ونقاء، وجودا، وهي الشجرة الوارفة الظلال المثمرة اليانعة المتجددة، التي كلما اهتزت آتت أكلا.

ما يقع على الأبناء هو وعي دور الأم العظيم في وجودهم بشكل تفصيلي؛ لأنهم الأوْلى بمعرفتها؛ فهي المنجم المعنوي في حياتهم؛ وهنا للأبناء الواعين الأذكياء رؤية للأم تبلورت عبر سنيّ التربية والتهذيب التي تلقّوْها عن أمهم. وعلى الأبناء أن لا يأخذهم الغرور فيما بلغوه من طموحات وأمنيات كانت ثمرة جهودها وأبيهم؛ وما بلغوه كان مبلغ آمالها وأمانيها؛ فما عليهم الاّ الوفاء لها، والعرفان بجميل صنيعها وحقوقها، وبرّها، واحتوائها، واحتضانها في شيخوختها، ووهنها، وضعفها، وانطفاء توهّجها وحيويتها. وتمكث الأم طوال العمر تنشد راحة الأبناء حتى وإن نأوْا عنها فإنها تحملهم بدفء روحها، ودعائها، ودموعها، ويبقى شعورها الأبدي أنهم أجنّتها التي احتضنتهم في أحشائها، ووهبتهم وما تزال بكل كرم مشاعر دون منّة، أو استكثار ما دامت على قيد الحياة.

قيل عنها:

الأم التي تهزّ المهد بيمينها تهزّ العالم بشمالها- نابليون بونابرت.

أجمل ثلاث نساء في العالم: أمي وظلها وانعكاس مرآتها – جبران خليل جبران.

من عجائب الأم السبع؛ أن الجلوس بقربها نصف ساعة يعادل ست جلسات عند طبيب نفسي متمكن .وثبت علميا أن الأم تصدر موجات حميمة عند احتضانها تجعلك أكثر تفكراً وأستقراراً وأكثر اندماجاً مع من هم حولك .عندما تضع الأم يدها على موضع الألم في جسدك فإنه يتماثل فوراً بالشفاء ولو نفسياً، وأنها الكائن الوحيد الذي يحتوي على جهاز استشعاري تنبؤي في حالات سوء القدر فلا تتعجب إذا منعتك من الذهاب أو الخروج حتى وإن كان للتنزه. وأنها الوحيدة القادرة على افتدائك بنفسها وإن لم يستدع الأمر، وأنها القادرة بدعائها أن تغيّر مسار القدر إليك .وهي الكائن الوحيد الذي لا تستطيع أن تزيّف شعورك أمامه حتى باستخدام الخدع والحيل[13].

قلبُ الأم فضاءٌ يحلّق فيه أطفالها بلا خوف.

كلما أردتُ أن أكتب عن أمي أدركتُ بأنني أمي.

أفضل كتاب قرأته هو أمي.

الأمُ مدرسةٌ إذا أعددتَها     أعددتَ شعبًا طيبَ الأعراق

الأمُ أستاذُ الأساتذةِ الأُلى   شغلت مآثرَهم مدى الآفاق  – حافظ ابراهيم

أحنُّ الى خبزِ أمي، وقهوةِ أمي، ولمسةِ أمي،

وتكبر فيّ الطفولة يومًا على صدرِ يومِ

وأعشقُ عمري؛

لأني إذا متُّ أخجلُ من دمعِ أمي- محمود درويش.

الكتابة عن الأم لا تنفدُ كلماتُها، ولا يجفُّ حبرُ مدادِها. حين ترحل الأم لا ثمةَ قيمةً للزمان ولا للمكان، ولعل أبلغ ما عبّر عنها الأديب أدونيس حين قال:

لا يمكثُ الزمنُ في مكانٍ تهجرُهُ الأمومة.

 

بقلم: إنتزال الجبوري

.....................

[1]  أنظر: معجم المعاني الألكتروني.

[2] أنظر: داكو، بيير. الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث. بيروت: مؤسسة الرسالة، الشركة المتحدة للتوزيع، ص343.

[3]  نفس المصدر، ص344.

[4]  آل عمران- 97.

[5]  الأحقاف- 15

[6]  لقمان – 14-15.

[7]  الأعراف- 58.

[8] الأعراف – 58.

[9]  فؤاد، شيماء. تعرف على وصايا الأديان السماوية بالأم. موقع Masress الألكتروني.

[10]  نفس المصدر.

[11]  الاسراء- 23- 24.

[12]  لقمان – 14-15.

[13] موقع وضوح للتنمية الألكتروني.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم