صحيفة المثقف

صلاح حزام: تشتت وتوزيع الاهتمامات

صلاح حزاميبدو ان هناك حدود لكل شيء يمكن أن يفعله الانسان. ليس فقط في ما يخص الاعمال والنشاطات الفيزيائية التي يقوم بها، كقدرته على رفع الاشياء وقدرته على الركض او المشي وتحمل الحر والبرد والصبر على الجوع والعطش.

هناك من يعتقد ان الجوانب الشعورية والعاطفية، ليس لها حدود وان الانسان يستطيع ان يُحب ويكره ويتعاطف ويعتني ويغار الخ ... بلا حدود !!!

المظاهر والشواهد العلمية لاتدل على ان ذلك الانطباع صحيح .

هنالك حدود لكل هذه الأمور الشعورية، وان كلاً منها يحتاج طاقة، والطاقة محدودة ولاتُخلق من العدم !!

يُحب الشخص والديه، لكن عندما يتزوج ويُنجب اولاداً، لايعود ذلك الاهتمام والمتابعة كالسابق . ذهنه اصبح مشغولاً الى حد كبير بتوفير احتياجات اشخاص ضعفاء هو فقط مسؤول عنهم ولا أحد غيره، في حين أن أخوانه واخواته الباقين ممكن ان يتحملوا قسطاً من المسؤولية عن الوالدين.

لاطاقة ولاوقت ولاموارد تكفي للاعتناء بالجميع وبنفس الدرجة .

كذلك الأمر مع الاشقاء وابناء الاشقاء والأقارب ..

عندما كنا صغاراً كانت أمي تتذكر اقاربها وتأخذنا لزيارتهم، وكانوا يزوروننا ايضاً، لكن بمرور السنين وزيادة حجم العائلة وهموم ادارتها ورعايتها، توقف ذلك التقليد !!

لم نعد نزور أحد ولا يزورنا أحد من اولئك الاقارب..

اوشكت الصلة ان تنقطع بيننا نحن مع ابناء تلك العوائل خاصة عندما يتوفى الكبار وينشغل الصغار !! لانعرف عناوينهم واين هم وماذا يفعلون ..

كلٌّ مشغولٌ بهمومه ...

يأتيك احفاد وتصبحُ جِدّاً، فتزداد القطيعة ويصبح لديك عالم جديد.

لابأس ان تسمع اخبار الآخرين ولكن التواصل قليل او قد يختفي..

امكانية الكراهية ايضاً محدودة ولامجال لأن تكره اعداد غير محدودة ولفترات غير محدودة.

أحد الأدباء كتب ذات مرة : "كنت وانا شاب لا أرى لذة تعادل لذة اختلاق اعداء. الآن ما ان أتخذ عدوّاً حتى تكون فكرتي الاولى ان اتصالح معه كي لا أضطر الى الاهتمام به . انها لمسؤولية كبيرة ان يكون لك أعداء.عبئي يكفيني، لم أعد استطيع حَمْلَ عبءِ الآخرين."

نعم، الكراهية، وأن تكون في حالة كراهية لشخص ما،أمرٌ يحتاج الى "ادارة".

سوف أُطلِق عليها تسمية : أدارة الكراهية ..

مثلما هي أدارة الصداقة ..

ان تُحب شخصاً، فأن ذاك يرتب عليك التزامات .. منها ان تتواصل وتسأل وتزور وتبعث تهنئة وتعزية واطمئنان على الاوضاع الخ ..

ان تكره ايضاً، ذلك يرتب التزامات ...

كيف تتيقن انك لازلت تكره فلان ؟

الكراهية موقف، والموقف ليس مجانياً. يجب ان تطمئن بين الحين والآخر ان فلاناً لازال يحظى منك بالقدر المناسب من الكراهية، والّا مامعنى ان تقول : أني أكره فلاناً؟؟

هل لديك مايكفي من الطاقة لكي تنفقها في مسلك الكراهية؟

اذا كرهتَ اكثر فسوف تُحب أقل ..

يشكو الجميع من انهم لايتواصلون مع ذويهم عن طريق الهاتف وانما عن طريق الرسائل لانهم لاوقت ولامزاج لديهم !!!

فكيف الحال مع الزيارات؟

يبدو ان العالم قد دخل في مرحلة جديدة فيما يتعلق بالعلاقات الانسانية.

وسائل التواصل الاجتماعي التي عوّضت عن الزيارات، وازدياد هموم ومتاعب الحياة جعلت الناس أقل قدرة ورغبة في التواصل.

توقف الناس بشكل شبه تام عن كتابة الرسائل وارسال بطاقات التهنئة..

حلت محلها الوسائل الالكترونية المختلفة ..والتي قد تضيع مع التعرض لأي فايروس، ويضيع معها تاريخ الشخص، في حين ان لدينا رسائل وبطاقات تعود لعشرات السنين ولاتقدر بثمن..

منذ الستينيات من القرن الماضي والكثير من الكتّاب في الغرب يحذّرون من تحّول الانسان الى رقم او رمز او ملَف .. كُتّاب العبث وكتاب الاجتماع كانوا يدركون بحكم ذكائهم، ان العالم يسير بهذا الاتجاه..الناس الآن مجرد عناوين الكترونية وحسابات ندخلها بكلمة سر !! اصبحنا نقتنع بهذا الشكل من العلاقات واصبحت لدينا علاقات قوية مع اشخاص لم نلتقِ بهم ولانعرف عنهم الكثير. ان علاقاتنا بهم تشبه علاقتنا بالأموات، نتذكرهم لكننا لانعرف اين هم الآن وماذا حصل لهم!!

لدينا علاقات مع اشخاص قد لايعلنون عن حقيقة جنسهم وتعليمهم واعمارهم وماذا يعملون واين يقيمون، ومع ذلك فقد نقع في علاقة حب معهم !!

كيف يمكن ذلك؟ لانراهم ولانشم رائحتهم ولانتمتع بنغمات اصواتهم، ومع ذلك نحبهم !!

نحن نتحول بهدوء وبالتدريج الى مخلوقات افتراضية في كل شيء وتصبح علاقتنا مع الاحياء مثل علاقتنا مع الأموات، مجرد أشكال نتذكرها.

 

د. صلاح حزام

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم