صحيفة المثقف

منظرو الاقتصاد (19): جان مينرد كينز

مصدق الحبيب(1883 – 1946)

John Maynard Keynes

كان الفيلسوف وعالم الرياضيات والمنطق البريطاني برتراند رسل قد قال عنه: " ان كينز هو اذكى رجل التقيت به وهو الذي في كل مرة ادخل بنقاش معه يتركني اشعر بانني مازلت جاهلا مغفلا". هو الاقتصادي الذي اصبح ثاني اشهر الاقتصاديين في تاريخ هذا العلم، بعد مؤسس الاقتصاد آدم سمث. ذلك لانه يعتبر مؤسس الاقتصاد الكلي، الجانب الثاني من النظرية الاقتصادية الحديثة. ولانه الرجل الذي ترك اثرا بالغا على السياسة والادب الاقتصاديين اعتبارا من ثلاثينات القرن الماضي والى اليوم بفضل ما سمي باسمه، النظرية الكينزية في الادب الاقتصادي، ومايتبعها تطبيقيا في عالم الاقتصاد والسياسة، السياسة الكينزية.

ولد كينز في كمبرج البريطانية عام 1883 لعائلة موسرة تنتمي للقسم الاعلى من الطبقات الوسطى في المجتمع الانكليزي ومعروفة بميلها للعلم والمعرفة وخدمة المجتمع. وكان والده جان نيفل كينز اقتصاديا معروفا واستاذا في كمبرج، والذي اصبح بعدذاك عميدا لكلية الملك في جامعة كمبرج. وكانت والدته من أوائل النساء الانگليزيات اللائي دخلن جامعة كمبرج وتخرجن فيها وعملن في مؤسسات المجتمع، وهي التي اصبحت ناشطة ومصلحة اجتماعية معروفة. ولهذا فقد نشأ جان في هذا البيت الذي عُرف بحب ورعاية الوالدين للاطفال الثلاثة، هو واخته واخيه وقربهم لبعضهم وتمتعهم بدعم والديهما حتى بعد بلوغهم واستقلالهم عن بيت العائلة.

وفي المدرسة كان جان تلميذا مهذبا مجتهدا اظهر نبوغا في مادة الرياضيات فدخل جامعة كمبرج عام 1902 لدراسة الرياضيات والفلسفة وتخرج عام 1905 وخصص سنته الرابعة لدراسة الاقتصاد عند مارشال وپيگو اللذان زرعا فيه اهتمامه بهذا العلم وحفزاه على الاستمرار بدراسته. ولولعه في اقتصاد النقود حصل بعد تخرجه على وظيفة حكومية في دائرة شؤون الهند التي جمع من خلالها الكثير من الاحصاءات حيث كانت في نيته ان تكون مادة لكتابه الاول. امضى سنتين في هذه الوظيفة وعاد بعدها عام 1908 الى كمبرج كمحاضر بدعم من مارشال واستمر في نفس الوقت بالدراسة فحصل على الماستر عام 1909 وانتخب سكرتيرا لتحرير المجلة الاقتصادية The Economic Journal عام 1911. ثم عاد الى وظيفته وتمكن من نشر كتابه الاول بعنوان " العملة والشؤون المالية في الهند" عام 1913 فحصل على ترقيته كمستشار لدى اللجنة الملكية لشؤون الهند.

2426 جان مينرد كينزعندما اندلعت الحرب العالمية الاولى عام 1914 رفض الانخراط في الجيش وسجل اسمه عند سلطات التجنيد ضمن اولئك الذين لهم الحق القانوني ان يرفضوا الاشتراك في الحروب بموجب ما تمليه عليهم ضمائرهم Conscientious objectors. وقد قُبل طلبه فنسب للعمل في دائرة الخزانة البريطانية التي بقي يعمل فيها لحين انتخابه ممثلها الاول في مؤتمر فرساي الذي عقد في باريس عام 1919 لتسوية شؤون الحرب وشروط السلام. وهكذا فقد كان كينز عضوا رئيسيا للوفد البريطاني برئاسة رئيس الوزراء ديفد لويد جورج. وخلال المفاوضات صرح كينز باعتراضه على نص معاهدة فرساي التي كان قد اعتبر شروطها ضد ألمانيا مهينة وعقوباتها قاسية واعتبر تعويضات الحرب باهضة وتزيد على طاقة ألمانيا على تحملها مما سيحطم اقتصادها ويدفعها الى حافة الافلاس واليأس ، الامر الذي قد يدفع بعض ساستها الى التطرف مما سيضر بأوربا عموما. ولم يلق تصريح كينز اي اهتمام من قبل رؤوساء الوفود الرئيسيين بريطانيا وفرنسا وايطاليا وأمريكا واليابان، مما دفع كينز الى الاستقالة من وظيفته الحكومية في الخزانة والعودة الى كمبرج. ولم يكتف بمجرد معارضته الشفوية لشروط معاهدة فرساي وتفاصيلها بل دون ملاحظاته ونشرها في كتاب عام 1919 بعنوان "الآثار الاقتصادية للسلام". ومن نافلة القول ان تنبؤات كينز قد تحققت حيث أدت الضغوط المجحفة على ألمانيا الى زيادة النقمة وتنامي الرغبة في الانتقام مما ساعد على تصعيد التطرف السياسي وصعود النازية واندلاع الحرب العالمية الثانية.

کانت عودته الى كمبرج متمتعا بمنحة من استاذه آرثر پيگو ومساعدة والده لدراسة نظرية الاحتمال والتي تمحضت عن اصدار كتابه "بحث في نظرية الاحتمالات" عام 1921. في هذه الفترة شهد كينز شخصيا تحولا عاطفيا كبيرا وهو في نهاية الثلاثينات من عمره . تلخص هذا التحول ببدء الميل في قلبه الى الاناث من زميلاته اذ انه كان منذ مرحلة الاعدادية يميل للذكور فقط وفعلا ارتبط بعدة علاقات مثلية خلال تلك العشرين سنة الماضية من حياته. وكان قد وثق تلك العلاقات والمشاعر في مذكراته الشخصية التي بدأ بكتابتها مبكرا. في عام 1921 كتب يقول انه وجد نفسه قد وقع تماما في حب زميلته في جماعة بلومسبري Bloomsbury Group ليديا لوبوكوفا، الفتاة الجميلة روسية الاصل التي اصبحت راقصة باليه شهيرة. وفعلا فقد تم زواجه منها عام 1925 لكنه لم يتخل عن ميله الى الذكور فكان قد صرح بأنه ثنائي الرغبة الجنسية Bisexual. كان زواجه من ليديا ناجحا جلب اليه الاستقرار العاطفي والنشاط الفكري. في عام 1923 نشر كتابه "سبيل للاصلاح النقدي" ، وفي عام 1926 نشر كتاب "نهاية فلسفة دعه يعمل دعه يمر" الذي بانت فيه جليةً ملامح تحوله الفكري هذه المرة وانقلابه على كل ماتعلمه من نظرية اقتصادية نيوكلاسيكية حتى ذلك الوقت. وحين حلت أزمة الكساد العظيم عام 1929 فانها وفرت لكينز الدليل المنطقي المفحم لما كان يؤمن به من ضرورة الاقلاع عن الطروحات النيوكلاسيكية القديمة التي تعتمد على كفاءة اقتصاد السوق التلقائية لحل الازمات الاقتصادية. وهكذا فقد واصل هذا الاتجاه الجديد في كتابه "بحث في النقود" عام 1930 الذي اعتبره النقاد بأنه فتح بابا جديدا للتحليل الاقتصادي حيث نقل فيه كينز الاقتصاد من علم ساكن staticالى متحرك  dynamic بجعله الدخل والانفاق تيارات جارية بدلا من كونها كميات تعكس لحظة من الزمن. في هذا الكتاب الذي جاء بجزئين، ركز كينز على علاقة الاموال التي تدخر وتلك التي تستثمر فعلا. وانه ليس من الصالح العام ان يلجأ الافراد والمؤسسات الى الادخار في اوقات الشدة لان الادخار سيجلب المشاكل الاكثر تعقيدا. وكان تحليله ينصب على انه لو زادت المدخرات على الاستثمارات ارتفعت معدلات البطالة ذلك ان المنتجين سوف لا يجدون المبرر القوي لاعادة وتوسيع وتطوير الانتاج لكي يتمكنوا من الحفاظ على هامش الكلفة التي تضمن لهم ارباحا مقبولة، وبالتالي فلن تكون هناك حاجة لزيادة الاستخدام أو حتى الحفاظ على مستوياته الجارية.

وفي عز سنوات الكساد عام 1933 كتب عن "وسائل الرخاء" وهي الدراسة التي بانت فيها بوادر استخدام عامل المضاعف الذي سيكون اداة حاسمة في دراساته المقبلة. وكان قد انتقد الحكومة البريطانية على اتخاذها اجراءات التقشف وحاول ان يطمئن المسؤولين عن السياسة الاقتصادية بأن الاقتراض شئ طبيعي وعجز الميزانية ليس بالامر المرعب. كان مهتما جدا بمعالجة الاقتصاد البريطاني بالدرجة الاولى والامريكي بالدرجة الثانية لادراكه بانهما من يستطيع قيادة السفينة الاقتصادية نحو بر الامان. ولذا فقد اخذه حماسه ان يكتب بشكل شخصي للرئيس الامريكي روزفلت و يطلب مقابلته. وفعلا تحققت له مقابلة الرئيس الذي اقتنع بآرائه واهتدى بها عند اقراره برنامج العقد الجديد The New Deal عام 1933

في عام 1936 اصدر كينز دراسته التاريخية بعنوان "النظرية العامة للاستخدام والفائدة والنقود" والتي شملت فلسفته الاقتصادية الثورية الجديدة التي غيرت مجرى فهم نظرية وتطبيق الاقتصاد الكلي التي كانت سائدة قبل ذلك التاريخ، مما حدى باغلب مؤرخي الفكر الاقتصادي ان يعتبروا كينز المؤسس لنظرية الاقتصاد الكلي الحديث والسياسة الاقتصادية الجديدة. في هذه النظرية تحدى كينز موضوعة الاقتصاد النيوكلاسيكي المركزية السائدة آنذاك والقاضية بأن ميكانيكية اقتصاد السوق الحر وتلقائيته هي التي ستؤول في المدى القريب والمتوسط الى التوازن الاقتصادي العام وبلوغ حالة الاستخدام الكامل. واذ رفض كينز هذا المنطق لأول مرة فانه راهن على ان الطلب الاجمالي الذي يساوي كل الانفاقات مجتمعة هو الذي يقرر مستوى النشاط الاقتصادي العام. فاذا كان هذا الطلب الاجمالي غير كاف فان قصوره سيؤدي الى البطالة التي سيطول مداها دون أي أمل وليس بمستطاع السوق لوحده ان ينهيها او يقللها تلقائيا. ولذا فانه اقترح على مسؤولي السياسة الاقتصادية معالجة الازمات بأداتين فعالتين هما السياسة المالية والسياسة النقدية الكفيلتين باخراج الاقتصاد من أزمته. وقد استطاع كينز بذكاءه وقوة اقناعه وفراسته الاكاديمية الموثقة في دراساته ان يقنع الحكومتين البريطانية والامريكية بالبدء في اخذ زمام المبادرة باطلاق الانفاقات الكبيرة على المشاريع العامة التي ستمتص الركود عن طريق الاستثمار في الموارد الطبيعية والبشرية المجمدة طاقاتها بسبب الانهيار الاقتصادي. وقد سرى تطبيق هذا المنهج الكينزي الجديد في دول اخرى في اوربا وانتقل الى بقية بلدان العالم واصبح السياسة الاقتصادية النافذة للسيطرة على تقلبات الدورة الاقتصادية خلال الاربعين سنة بين 1936 و1976، حيث لم يعد تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي امرا مرفوضا بعدذاك، بل اصبح الامر الضروري الوحيد للخروج من الازمات الاقتصادية الكبرى. أما الاستقراض وعجز الميزانية فقد ازدادت وتيرته دوليا خاصة بعد الحرب العالمية الثانية ولاشك فان كينز شخصيا قد لعب الدور الاول في التفاوض مع الولايات المتحدة من أجل تأمين اكبر القروض واحسن الشروط لصالح بريطانيا من اجل بناء وتعمير ما خربته الحرب. وهو الذي حول اهتمامه الى موضوع دفع تكاليف الحرب فنشر كتابه المعنون "كيف ندفع تكاليف الحرب" عام 1940 الذي اشار فيه الى ضرورة تجنب تخفيض الانفاق وزيادة التضخم بل دفع التكاليف عن طريق زيادة الضرائب والادخار الاجباري واستقراض الحكومة من الافراد .

في عام 1942 نال تكريما رسميا بحصوله على لقب بارون ومقعد في مجلس اللوردات البريطاني، وفي عام 1944 كان على رأس وفد بلاده في مؤتمر برتن وودز Bretton Woods الذي تمخض عن تأسيس منظمتي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللتان كان كينز صاحب الفكرة الاولى للحاجة اليهما من اجل تنظيم الشؤون المالية الدولية خاصة للبلدان التي تضررت كثيرا بالحرب ومن اجل تأسيس سعر صرف ثابت للعملات الدولية.

قبل كتابة نظريته العامة ونشرها عام 1936، كان كينز قد اتخذ موقفا معارضا صريحا لرجوع بريطانيا الى قاعدة الذهب وكان مستاءً من حالة البطالة المتفشية خاصة بين عمال المناجم والموانئ والنسيج، لكنه كان ايضا متفائلا حول برنامج حزب العمل لايجاد مخرج ما من الازمة خاصة لانقاذ العاطلين عن العمل وتفعيل برنامج المساعدات الاجتماعية. وخلال كل ذلك لم يعتمد، كما اعتمد اغلب زملائه الاقتصاديين، على الحل السحري لتوازن السوق، وهو الذي لايحبذ الانتظار الى المدى البعيد غير الاكيد وقد قال مقولته الشهيرة " في الامد الطويل سيكون جميعنا في القبور". كما انه لم يكن يؤمن بالحل التساومي المطروح آنذاك الذي يتأمل اصحاب العمل ان يوافقوا على تخفيض اجور العمال ويتوقع قبول تلك الاجور المنخفضة من قبل عدد كبير من العمال المرغمين، وهذا من المفروض ان يقلل من حجم البطالة او على الاقل يحد من تفاقمها. أصر كينز بأن الدولة يجب ان تكون المسؤولة وهي التي تستطيع ان تمتص البطالة، ليس باجور منخفضة، انما باجور اعلى تحفز العمال على العمل الاكثر والاحسن. وبذلك شجع الحكومة على الانفاق الاكبر وتحمل عجز الميزانية الذي سوف لن يدوم الى الابد خاصة اذا كان الانفاق بهدف الاستثمار في القطاعات الكبرى التي تتطلب كثافة عمل كبيرة وتؤول الى تشغيل واسع النطاق، جنبا الى جنب مع سياسة نقدية مناسبة لتخفيض سعر الفائدة والسيطرة على التضخم.

بهذا المنطق استطاع كينز ان يحرز قبول الدولة التي لم تر امامها حلولا افضل او وقتا اطول، وقد انخرط في هذا النهج عدد آخر من الدول التي كانت متعطشة لزيادة الانفاق لكنها متوجسة من شبح عجز الميزانية وعواقبه السياسية. كان كينز قد وضع التبرير الاقتصادي واعطى الضوء الاخطر للجهة الوحيدة القادرة على التحكم بحجم الانفاق ونوعيته والتعامل مع نتائجه الاقتصادية والسياسية، ألا وهي جهة الحكومات المركزية. وتدريجيا انظم الى هذا المنطق اقتصاديون آخرون وبدأوا يتوسعون بشرح الاسباب والنتائج. وهكذا انفجرت شعبية كينز عند السياسيين وحكوماتهم وعند الاقتصاديين ايضا فهيمنت النظرية الكينزية على مناهج تدريس الاقتصاد والاهتمام بشكل خاص بالاقتصاد الكلي في مختلف دول العالم واستمر ذلك لاكثر من اربعة عقود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

تكمن اهمية النظرية الكينزية بانها معالجة اقتصادية- سياسية لأزمات الدورة الاقتصادية المتكررة ومشاكل الكساد والبطالة والتضخم الناتجة عنها. وكانت قد دعت الحاجة الملحّة لهذه النظرية بعد ان تحطم الاقتصاد الغربي بالذات والعالمي عموما ابان انهيار السوق المالية وانقباض النشاط الاقتصادي عام 1929 واستمر لعدة سنوات بعد ذلك. وتوصف هذه النظرية اقتصاديا بانها معالجة "طلبية" أي انها تلتزم جانب الطلب في في السوق الاقتصادية وتستهدف تثوير الطلب الاجمالي عن طريق الانفاق الحكومي الواسع على المشاريع العامة الكبرى التي تستوجب حجما كبيرا من استخدام الموارد الاقتصادية المتوفرة وتمتص البطالة القائمة وتحرك عجلة الانتاج وما يتبع ذلك من انعاش للنشاط الاقتصادي العام مع كبح جماح معدلات التضخم والضرائب. هذه العملية ستعمل تدريجيا وفي الامد القصير والمتوسط على انتشال الاقتصاد من طوري الدورة الاقتصادية، الركود والكساد ودفعهما باتجاه طوري الشفاء والازدهار. يستلزم ذلك سن وتنفيذ سياسات مالية ونقدية مناسبة ومسؤولة وعادلة تساعد هذه العملية على اعطاء افضل نتائجها.

ان الظهير النظري لفكرة كينز الاساسية يتلخص بأن الطلب الاجمالي Aggregate Demand هو القوة المحركة لماكنة الاقتصاد والذي يساوي حسابيا مجموع الانفاق في الحقول الثلاثة، المستهلك والشركات والحكومة، اضافة الى الصافي من التجارة الخارجية (الصادرات ناقص الواردات). وان ديناميكية هذه الماكنة الاقتصادية تقوم على ثلاثة ركائز هي:

- ان الطلب الاجمالي يتأثر مباشرة بالتغييرات التي تطرأ على مكوناته والتي بحكم طبيعتها التكاملية قد تشترك فيما بينها بصفة تعويضية . فمثلا اذا انخفض انفاق المستهلك لسبب ما ستسري العدوى الى انفاق الشركات واستثماراتها وينتج عن ذلك تخفيض الانتاج والدخول والاستهلاك ويتفاقم التأثير بحلقة مفرغة. ولذا فان الحكومة تستطيع في هذه الحالة ان تزيد من انفاقها كعنصر مكمّل من اجل كبح التسارع الى النكوص وانقاذ الموقف.

- ان الاسعار، وخاصة اسعار العمل (الاجور) تتجاوب ببطء لتغيرات العرض والطلب. وقد ينتج عن ذلك أما فائضا او عجزا في كمية العمل المتوفرة.

- ان تغيرات الطلب الاجمالي بنوعيها المتوقع وغير المتوقع لها تأثير بالغ وقصير المدى على حجم الانتاج والاستخدام وليس على الاسعار. وهذا مايدعم فكرة زيادة الانفاق في حقل الحكومة التي ستزيد الانتاج والاستخدام وقد لاتدفع معدلات التضخم الى الصعود.

بسبب ترسخ فكر الاقتصاد الكلاسيكي والنيوكلاسيكي قرابة قرنين قبل كينز، لم يكن سهلا على الاطلاق تقبل ما طرحه كينز بشجاعة وثبات، فكانت افكاره قد جوبهت، خاصة في الحقل الاكاديمي ، باستغراب واستهجان ومعارضة وتسفيه، الا ان ثمرة تطبيقها بعد ازمة الكساد وبعد الحرب العالمية الثانية شذبت الافكار وارخت التعصب فاصبحت تدريجيا هي السياسة الاقتصادية قيد التنفيذ والواعدة بالنجاح، فتغير تبعا لذلك النجاح اتجاه الكثير من الاقتصاديين. ولذا فخلال الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي انبرى لفيف من ألمع الاقتصاديين لشرح وتوسيع الفكرة الكينزية وصياغتها رياضيا وتطعيمها مع طروحات الاقتصاد النيوكلاسيكي القائمة، خاصة بعد ظهور الاقتصاد القياسي والرياضي، مما انتج مزيجا فكريا رصينا سمي بـالنيوكينزية الذي اصبح التيار المهيمن على مناهج تدريس الاقتصاد، فتصاعدت اهميته في تحليل مشكلات الاقتصاد الكلي واستمرت كمنهج رسمي الى يومنا هذا. من اولئك الاقتصاديين الذين نهضوا بهذه المهمة نذكر هكس وسامولسن ومودليالني وتوبن وسولو وبلايندر وشلتز و أوكون.

لكن فترة الفكر الكينزي الذهبية لم تستمر الى الابد. فكغيرها من موجات الفكر والنظريات، تعرضت الافكار الكينزية للانتقادات وبدأ بريقها يخبو منذ سبعينيات القرن الماضي، خاصة بعد ظهور المدرسة النقدية وبروز اقتصاديين معارضين جدد كهايك وفريدمن وقسم من اقتصاديي المدرسة النمساوية ومدرسة شيكاغو وجماعة الليبرالية الجديدة الذين يعارضون بحماس وتعصب أي تدخل للدولة مهما كان سببه ومهما كانت نتائجه. في عام 1968 نشر ملتن فريدمن مقالا نسف فيه وعد الكينزية بامتصاص البطالة وكبح التضخم نتيجة لزيادة الانفاق وقال ان البطالة والتضخم قد يرتفعا معا! كما هاجم الاساس النظري لمنحنى فيليبس القائم على العلاقة العكسية بين البطالة والتضخم وقال ان لا اساس له في الواقع العملي. ومما اعطى فريدمن مصداقية كبيرة آنذاك هو بروز ظاهرة الركود التضخمي Stagflation وكذلك نشوب أزمة النفط عام 1973. اضف الى ذلك نشاط فريدمن الشعبي في التحدث ضد الكينزية عبر وسائل الاعلام، في عموده الصحفي وحديثه الاذاعي وبرامج التلفزيون المحتفية به. وقد انظم الى هذا الاتجاه المعاكس اقتصاديون كبار منهم روبرت لوكاس الذي صرح يوما بأن الكينزية الآن تعتبر شتماً لمن يوصف بها من الاقتصاديين. وكانت تلك الموجة المعارضة فعالة عمليا بحكم قربها من حكومات المحافظين في بريطانيا وامريكا. ففي عام 1979 تخلت حكومة مارگريت ثاچر في لندن، رسميا ومنذ تنصيبها، عن المنهج الكينزي في سياساتها الاقتصادية بسبب تبنيها لفكر الليبرالية الجديدة وقربها من جماعة مونت پلرن Mont Pelrinوبالذات فريدريك هايك كما سبق ذكره. وفي أمريكا نهجت حكومة رونالد ريگن نفس المنهج حتى انها رفضت رفع الضرائب لتمويل حرب فيتنام، خلافا للتوصيات الكينزية كما اسلفنا.

لكن الحاجة للكينزية لم تنته مهما ازدادت التنظيرات والتفسيرات طالما مازلنا نعيش في أسر الدورات الاقتصادية والمصير الذي ينتظرنا منها. في عام 1984 رفض البنك الاحتياطي الامريكي السياسة النقدية المقترحة من قبل فريدمن وعاد ليستخدم مايراه مناسبا من السياسات الكينزية. كما شعرت الكثير من الحكومات ان بامكانها ان تستخدم خليطا من السياسات التي تراها مناسبة. وهكذا استمر الحال الى ان نشبت ازمة الركود الاقتصادي لعام 2007-2008 التي اعادت الى الاذهان من جديد ان لامفر من تقلبات النشاط الاقتصادي تحت ظل اقتصاد السوق ولا مفر من اللجوء الى الحلول الكينزية لانتشال الاقتصاد من درك الكساد ومايجلبه من مصاعب مالية لاتنجو منها حتى طبقات الموسرين والمرفهين. لكنها تسحق السواد الاعظم من الناس. وهكذا فقد كثرت انتقادات النظرية النقدية البديلة وبدأ عدد من الاقتصاديين يشيرون بانها لاتصلح لحل الازمات الكبرى كما ادعى منظرها الاول فريدمن بأن سياسة نقدية رشيدة قائمة بشكل اساسي على تقنين عرض النقود في الاقتصاد والسيطرة على سعر الفائدة ستكون قادرة على تخفيف حدة الازمات الجديدة حين تضرب السوق المالية كما يحدث عادة ، وستكون خلافا للكينزية لكونها قادرة حتى على حل مشكلة الركود التضخمي التي انتشرت خلال عقد السبعينات في عدة بلدان اوربية صناعية عانت من نمو اقتصادي بطئ زاحف مع جموح تضخمي، ولم تنفع معها كل اجراءات الكينزيين.

وهكذا فخلال أزمة 2007-2008 انبرى لفيف من الاقتصاديين الامريكيين اللامعين لاعادة الحياة الى المنهج الكينزي ومنهم پول كرگمن وجوزيف ستگلتز، الحائزان على جائزة نوبل وروبرت رايش وزير العمل السابق في حكومة كلنتن والاستاذ في جامعة كاليفورنيا-بركلي. وفعلا بدأت حكومة أوباما في أمريكا وحكومة گوردن براون في بريطانيا باتخاذ سياسة الحوافز المالية الكبرى Fiscal Stimulus وصفقات انقاذ الشركات الكبيرة المؤثرة Bailout التي كادت ان تكون على حافة الافلاس والاغلاق. بل ذهب بعض الاقتصاديين الى التصريح بأن هذه السياسات ليست فقط ضرورية بل ينبغي تبنيها على اوسع نطاق ممكن لضمان نجاح نتائجها وحصاد ثمارها ذلك انها تبدو اصغر مما يتناسب مع توصيات كينز الاصلية من اجل انقاذ الاقتصاد العالمي ككل واعادة الثقة في عمل السوق. وسارعت بلدان اخرى لاتباع نفس سياسة الحوافز والانقاذ كالهند التي تضررت كثيرا من هذه الازمة والتي دعا رئيس وزرائها آنذاك الاقتصادي مانموهان سنگ بثقة وقوة الى ان الدولة وحدها هي القادرة على انهاء الازمة.

وطبيعي ان يختلف الاقتصاديون وكذلك السياسيون فيما بينهم، ليس فقط على ضرورة وجدوى الاجراءات الكينزية، انما ايضا على تفاصيل تنفيذ الاجراءات، خاصة حول حجم الحوافز واوليات تطبيقها واي المفاصل في الجسم الاقتصادي اكثر استجابة وفعالية لعملها. فعلى سبيل المثال حول اختلاف الاقتصاديين الكبار فيما بينهم، يشكك روبرت لوكاس الحائز على جائزة نوبل بحصافة الاساس النظري لفكرة الحوافز والانقاذ فيما يذهب روبرت پيرو وگاري بَكَر الحائزان ايضا على جائزتي نوبل الى ان النتائج التطبيقية لاتوثق فعالية وفائدة هذه السياسات مثلما يروج لها مريديها. ومن بين السياسيين تصرح أنجلا مركل المستشارة الالمانية بتوجسها وقلقها حول احتمالات التضخم التي قد تنشأ في الامد المتوسط جراء هذه السياسات مما يخلق مشاكل اضافية، ويشاطرها في هذا القلق البنك المركزي الاوربي. ولیس اکثر برهانا من حاجتنا الى الكينزية مايجري اليوم حيث تضطلع الحكومات في انحاء العالم بتنفيذ اكبر برامج الحوافز والانقاذ من اجل العودة للحياة الطبيعية التي سرقتها جائحة كورونا التي لم تبق ركنا من هذا العالم الا وعاثت فيه خرابا. ولا اعتقد ان احدا سيراهن بعد الان على مقدرة العودة الى النشاط الاقتصادي الذي اعتدنا عليه قبل عام 2019 من دون تدخل الحكومات وقيادتها في حل المعضلة الصحية الاقتصادية وهي اكبر معضلة واجهتها البشرية لحد الآن.

كان كينز يتمتع بحياة هادئة مليئة بالعمل والمتعة. كان يؤمن بأن ساعات العمل المثمر ينبغي ان تكون اقصر من ساعات الفراغ والمتعة التي يوفرها العمل، وانه يعتبر جمع المال لذاته مرض خطير حيث ان ليس للمال اي حاجة سوى لتوفير المتعة. كان رجلا ودودا وله علاقات طيبة مع الجميع. كما ان علاقاته باصدقائه امتدت لسنين منذ ان زاملهم ايام الكلية في جمعياتهم الخاصة وانديتهم ومنهم المرأة التي تزوجها والمشاهير الذين كان يلتقي بهم غالبا كالروائية فرجينيا وولف والشاعر تي أس إليوت والفيلسوف برتراند رسل والناقد كلايف بيل والفنان دنكن گرانت، وجميعهم كانوا زملاء في جمعية بلومسبري في كمبرج. كان مهتما بالفنون وخاصة المسرح والموسيقى وقد قدم الدعم الكبير للمؤسسات الفنية كالمسرح البريطاني والاوبرا الملكية والباليه. وكان عضوا مؤسسا لمجلس الفنون البريطاني واصبح رئيسا له في آخر سنة من حياته.

في السنة التالية لنشر النظرية العامة ، اي عام 1937 تعرض كينز وهو في الرابعة والخمسين الى نوبة قلبية عزلته عن نشاطه المعتاد لمدة سنتين. ثم تعرض الى نوبة اخرى اثناء مفاوضاته حول القرض الامريكي لبريطانيا بعد الحرب عام 1946. كان ذلك في مدينة سفانا في ولاية جورجيا الامريكية. تلت ذلك نوبات اخرى عند عودته الى لندن ومنها النوبة الاخيرة التي توفى على اثرها بعد عودته من امريكا بأسابيع عام 1946 وهو بعمر 62 عاما.

 

ا. د. مصدق الحبيب

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم