صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: ابن عطاء الله السَّكندري (5)

مجدي ابراهيمالإرادة بين الواقع والتصور:

إزاء تحول "الإرادة" من "فعل" إلى "تصور" تصبح مجرد فكرة في الذهن لا يقوم عليها من الواقع الفعلي دليل. ولقد تقدمت الإشارة إلى أن منطق التاريخ نفسه ربما يعطينا التصور عن عجز "الإرادة" ومحدوديتها، حتى ليتلاشى بجوارها سائر قوى الإنسان فيما لو لم يكن يؤمن بعناية الله؛ فالتاريخ فيه الجبرية الصارمة القاهرة تسير على سنن القصد الحكيم ولا تسمح بفوضى ولا بعبث، وفيه كذلك حتمية المسيرة التي يفرضها على الأشخاص والأحداث وفق قوة إلهية وحكمة مرسومة وتقدير سابق؛ وإنّ المرء ليبدو من خلال هذا كله مُنفذاً لحركة التاريخ الحتمية ليس إلا، وإنه من هاهنا ليعطي صورة للوجود على الإدراك الذي يعطيه التصور لمجرد عجز الإرادة. فوجود الإنسان محدود، وعمره المحدود هذا يؤكد تلك الحتمية بما يتنافى ومطلق الإرادة المحدودة، وإنه إذا لم يكن يؤمن بهذه الحتمية فإن المقابل هو الإيمان بالعبث وبالفوضى؛ فكما أننا نؤمن بقدرة الله في الطبيعة؛ فمن باب أولى نؤمن بعنايته للإنسان في مسار التاريخ.

وإذا تَقَرَّرَتْ عناية الله للإنسان في التاريخ تقررت معها محدودية إرادته وبالتالي عجزه عن فهم حركة التاريخ بغير أن يكون فيها نظام إلهي حاكم لها من الأساس. إنّ المرء ليدرك بمطلق إرادته (المحدودة) حقيقته، لكن إدراكه لها لا يخرج عن حتمية التاريخ إلا أن يَتَصوَّر القيمة في مجموع ما لا يُدْرَك. في التاريخ جبرية عقلية تنطق بها الحكمة تماماً كما ينطق بها الوعي بالأحداث وبالظروف المحيطة بالأفراد والأشخاص وبملابسات تكشف عن مطلق هذه الجبرية العقلية إلى درجة لا يكون فيها المرء قادراً بإرادته ولا بتصوراته عن الخروج عنها بأية حال من الأحوال. إنه ابن عربي من الصوفية الكبار هو الذي كان يُردِّد أن كل مخلوق مجبور؛ فكيف يحيط بالحقيقة محصور. ما في الوجود حُرٌ دون تقييد فالكل عبيد، من تقيَّدَ بطلب الحقوق فهو مخلوق؛ العبودية فينا حقيقة، والحرية فينا لا تعطيها الطريقة. أين الحرية مع الطلب؟! .. ليس لنا مقام في الحرية المطلقة.

هكذا يقرر ابن عربي وهم تمثل "الإرادة" من حيث انعزالها فكرة مجردة من الله؛ فلئن زَعَم المرء أنه بالإمكان أن يَتَصَرَّف خارج محيط هذا الكون الهائل الذي يعيش فيه فهو في الوقت نفسه زَعْم موهوم؛ لأنه خروجٌ عن الوعي بتلك الحتمية العقلية مع إرادة التصرف في محيط هذه الحتمية في كل حال، وعلى أيه حال.

إنما الحكم على الشيء فَرْعٌ من تَصَوّره كما يقول الأصوليون. وعليه؛ فإذا نحن تصورنا الإرادة الإنسانية خارج نطاق منطق التاريخ، يُلْزِمُنَا أن ندرك في ذات اللحظة أنه كلما كان التصور معمولاً به جاءت الصورة في الواقع تعطي الإدراك؛ فلا يخرج إدراك ألبتة عن تصور يشي بحركة الواقع ويتلبس بمجريات الأحداث، وبالتالي حُكْمُنَا بانحصار الإنسان في واقعاته الجزئية وقلة خروجه عنها أو عدمه؛ مهما زَعَمَ مُخْلصاً امتلاك إرادته وغالى في مثل هذا الزعم الموهوم، إنما هو فرع من تصورنا لهذه الإرادة المحدودة في هذا الكون الهائل الفسيح.

وعلى هذا؛ تكون الإرادة جزءاً لا يتجزأ من واقع موجود غير مفقود. وبما أن لهذا الواقع منطقاً جبرياً بمقتضى التصور العقلي لا اللاهوتي صارت الإرادة نفسها لا تخرج هى كذلك عن هذا المنطق بجميع معطياته العاملة في الفكر أو في الواقع. فلئن كانت الإرادة جزءاً لا يتجزأ من واقع موجود فينا؛ فإن هذا الجزء الواقعي نفسه هو الذي يعطينا الانحصار فيما هو محدود بالنسبة لنا بما فيه إرادتنا. إنّ إدراكنا في الواقع بكل ما فيه من إمكانية التحقق إنْ هو إلا نتيجة التصور الذي يتلازم مع المعنى ليصير مقبولاً في كل تصور مفهوم، حتى إذا ما قابلتنا الإرادة بتصورات واقعية، أو قابلتنا بمدركات تتحقق في الواقع الفعلي خرجنا بنتيجة مؤداها : إلزام النفس بمنطق الواقع والأحداث الذي يتحكم هو قبل كل شيء في إرادتنا مثلما تتحكم في التاريخ الإنساني وفي الواقع وفي الناموس الكوني سُنَنٌ (عناية إلهية) يَسْتَنُّ عليها نظم الوقائع والأحداث.

الإرادة والحرية:

مَنْ ذَا الذي يزعم واهماً الخروج عن واقع يعيشه ويحياه؟ وَمَنْ ذَاَ الذي يزعم الخروج عن حاجاته ومطالبه ورغباته إلا أن يكون واهماً وله في الوهم نسبٌ عريق؟ ومن ذا الذي يزعم الخروج عن نفسه ووعيه ومداركه، ثم يدّعي - من بعدُ - الحرية التي تنالُ بمطلق الإرادة، وهو لا يتحرر؛ وأنَىَّ يَتَحَرَّر؟ إنّ الحرية هنا تعني الموت : الموت عن الإرادة : إرادة المطالب والحاجات، حين يموت المرء يتحرر، وحين يُفني مطالبه وحاجاته ونفسه وعقله، هنالك يحق له أن ينادي بأعلى صوت فيه : وإني اليوم لحر!

أما قبل ذلك؛ فهو وهم عظيم يغلف سطح الوعي لديه، ذلك الوعي الذي ينقضه الواقع فيما لو تعمق، كما تنقضه الصور الإدراكية لكل ما في الواقع من مهمات الإدراك؛ كائناً ما كان هذا الإدراك، وعلى اختلاف درجاته الإدراكية، واختلاف المستويات فيه.

إنّ مؤكدات الوعي فينا لتقول بأبلغ لسان : إننا لن نخرج عن واقعاتنا بحال، (مع التغاضي هنا بعض الشيء عن قيمة المجاهدات الرُّوحيّة والرياضات الصوفية من حيث إنها مجعولة لإدراك تلك الحقيقة منذ البداية وتأكيدها والعمل من أجلها في إطار القيم التي يؤمن بها الصوفية)؛ وليس فينا من يخرج عن تلك الواقعات الوجودية المحدودة بحدود المطالب والحاجات، أو حتى حدود الأهواء والرغبات. وما هذه التصورات والمفاهيم التي نتصورها بين الحين والآخر ترضية لنفوسنا وتلبية لمناشط الوعي العادي فينا إلا نتيجة تعكس واقعاتنا الوجودية المحدودة، لكنها في ذات الوقت لا تعكس ما هو الأمر عليه في نفسه.

نعم : إنها لتعكس الحق، ولكن لا الحق في ذاته كما هو عليه بل الحق كما نتصوره نحن بعقولنا المحدودة القاصرة. فإذا كان الواقع يُعطي صورة إدراكية ما، تهدف إلى اجتماع الوقائع أو تشابكها واختلاط قوانينها ومضامينها، أو تَفَرُّق هذه القوانين وتباعدها، والتي هى كذلك تعطي حقيقته الإدراكية أو ما يُقارب تلك الحقيقة من ألوان الإدراكات؛ فمن معطيات الواقع المقيد بهذه الضرورة الإدراكية نحن الواهمون!

نحن الواهمون على الحقيقة دون أدنى مجاز، نغيب في سمادير غليظة؛ لأننا نَدَّعي الإرادة لمجرد الدعوى وكفى، فلا يقوم فينا الوهم إلا لأننا نريد، وإرادتنا مقيدة بالوهم، بمقدار ما يجيء الوهم فينا مقيداً كذلك بالضرورة الإدراكية لمنطق التاريخ، وهو منطق ـ كما تقدَّم ـ حَتْميٌّ : جَبْري جبرية عقلية قبل أن تكون لاهوتية؛ فالقيود المفروضة من قبيل هذا المنطق مُسَيّرة لحركة التاريخ في كل حركة من حركاته الناطقة بفروض الجبر المطلق على مستوى الفكر المجرد فضلاً عن مستوى الواقع المشهود : سلاسل الوجود تحكمنا بقيودها وفروضها، وما نحن في الواقع إلا رهائن تلك السلاسل الوجودية العظمى.

فلن نتحرر من قيدها الذي أدمى فينا المعاصم، ولن نريد على الحقيقة الفكاك منه إلا في الوقت الذي نخرج فيه عن أنفسنا : مطالبها وحاجاتها وروابطها الواقعية والوجودية. والخروج عن النفس بكل فيها من مطالب وحاجات وروابط واقعية هو في الوقت نفسه خُروجٌ عن العادات والمألوفات والروابط وسائر ما ألفته النفوس واعتادته واقعاً ترتع فيه، وترغب في اكتنازه والسيطرة عليه.

وهذا الخروج كما قلنا فيما تَقَدَّم يعني الموت؛ فلئن كان الموت يَتَضَمَّن هنا معنى الموت الإرادي عن شهود الحُجب والأغيار فهو كذلك يعني : موت الحظوظ النفسانية وسلوب عادات النفس وانقلابها عن مواطنها ومألوفاتها حقيقةً لا مجاز فيه، لكن مع ذلك يأتي الموت هنا بمعنى العزوف عن الدنيا، وموت حظوظ النفس فيها، وقلة الجري مع رغائبها وعاداتها، يعني العدم النسبي ـ لا المطلق ـ الذي يجوز بمقتضاه الخروج عن وقائع الوجود : الخروج عن رغائب الوجود، عن الطمع والتسلط والسيطرة والاستحواذ وسائر الآفات والمسالك الشريرة، وهى بامتياز مصدر الشر في هذا العالم الحيران!

عند ذلك فقط، تكون "الإرادة" مُحَقَّقَة بالفعل ويحق لنا التّحرر؛ فهل من مستطيع؟!

نقائض العبودية:

ومن التَّحَرُّر الذي كتب عنه المجربون وهم ممددو العود بحبِّ علوي للذات الإلهية؛ فكانت كلماتهم فيه ميراث المخلصين، يجيءُ موطن شرف العارف أن يرى على الدوام في عبوديته أن العزة لله وأن لا عزة في سواه. فأول ما ينقض فكرة العبودية من أساسها كما تظهر عند غير العارف هو ما سمّاه ابن عربي بــ "هذيان العالم"؛ إذْ العالم كله في رأيه ـ ونحن منه ـ في حالة غفلة واصبة : عقله مستعبد ذلول، ووجدانه فارغ من ذكر الله ملهوف على الدنيا وحطامها الزائل الرخيص، ومشاعره نَزَّاعَة إلى طلب الدُّوُن في عالم الشهوات، ينتقل من غفلة إلى غفلة، ويتعلق بمعبود صنعه خياله وقدَّسَه هواه، ويغوص في التقليد بغير دليل من عصمة الدلالة والمعرفة؛ كلنا في هذا العالم في حالة من الهذيان، ولكن العارف شأنه شأن آخر : عزيز بعبوديته لله، يرى الشرف كل الشرف في هذه العبودية، وينتصر للحضور بين يدي الله لتنعدم الغفلة من قلبه أو تكاد، ويحل شرف المعرفة بالله في باطنه بدلاً من الغفلة والاستنامة والجهالة العمياء.

أي نعم :"العزة بالله موطن الشرف" .. ما في ذلك شك. والشرفُ البالغ بالنسبة للعارف هو أن تكون عزته بالله، ولا عِزَة فيما سواه، ولا يَتَوَرَّع الصوفي قيد أنملة في أن يسأل الله عز الدنيا والآخرة، لكنه حين يسأله ذلك يسأله من بساط الدُّنو والتقريب لبلوغ العز بالله : عز الدنيا بالإيمان والمعرفة، وعز الآخرة باللقاء والمشاهدة كما في الحزب الكبير للإمام ابي الحسن الشاذلي.

ولا حاجة به إلى عز في الدنيا والآخرة فيما سواهما؛ أي الإيمان والمعرفة في الدنيا. واللقاء والمشاهدة في الآخرة حتى إذا ما أسْقَطَتَ معه التدبير صِرْتَ عزيزاً به لا بنفسك أو بعقلك : عقلك هذا المحدود لا يدِّبر لك سوى الأمور المحدودة، ولا يوصلك ـ إنْ أوْصَلَكَ ـ  إلاَّ إلى المحدود. أما إسقاط التدبير فهو شهود قلبي للمُدَبّر؛ وفناء. ومَنْ يدعي غير ذلك ففي حجاب. أتريد أن تكون محدوداً بعقلك أو بنفسك، دَبِّر إذن ما استطعت إلى التدبير سبيلاً، ولن تصل بالتدبير في النهاية إلاّ إلى الوهم المُحَقق لا إلى المعرفة الحقيقية.

(وللحديث بقية مع نقائض العبودية)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم