صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: عنوانُ التَّوفيق

مجدي ابراهيممن النصوص الممتازة في أدب السّلوك الصوفي لابن عطاء الله السَّكندري هو نصِّ كتابه: "عنوان التوفيق في آداب الطريق". ومن الظاهر جداً أن هذا الكتاب شرحُ لآداب الطريق كما يُوحي به عنوانه، وهو ممّا يظهر خلال عرضنا له يتضمّن شخصيات مركزية ثلاث: ابن عطاء الله، وأبو مدين الغوث، وابن عربي، ولكنه كذلك يَتَضَمَّن إشارات شارحة لقصيدة العارف بالله أبي مدين شعيب؛ وينسب بعضهم إلى أبي مدين الغوث تأسيس المدرسة الشاذلية، وهى نسبة خاطئة تماماً، إذْ المؤسس الحقيقي لها هو الإمام أبو الحسن الشاذلي. لكن الشيخ عبد السلام ابن مشيش أستاذ الشاذلي يُعَدُّ تلميذا لأبي مدين الغوث، ومن هنا جاء خطأ الذين نسبوا تأسيس المدرسة الشاذلية إلى العارف بالله أبي مدين الغوث.

النَّصُّ في خصوصيّة خطابه، وفي شخصياته المركزية الثلاث، هو من نوعيّة لغة الخطاب الخاص بالصوفية أنفسهم لأنفسهم. فلئن كانت الخطابات الصوفيّة ثلاثة: واحد منها، وهو الأهم هنا فيما ينطبق على الشخصيات المركزية، موجَّه من الصوفي للصوفي يحتفظ بدلالاته نقيّة صافية كأنما يقدّمها من روح إلى روح، والاستقبال حاضر والمرسل قادر على بث الخطاب وهو مطمئن واثق من سلامة الدلالة وسلامة فهم الإشارة. والخطاب الثاني: من الصوفي إلى الأغيار من عامة الناس سواء كانوا علماء أو رجال دين أو سياسة لكنهم ليسوا بصوفية، أصحاب تجارب وخبرات روحية؛ هنالك يتغيّر الخطاب ويتخذ لوناً يظهر فيه الوضوح النسبي بتغيّر دلالات اللغة. والخطاب الثالث: هو الأخذ عن الله مباشرة، وهو خطاب خاصّ ببطن التجربة الصوفية نفسها، كما ورد عن أبي يزيد في مقولته الشهيرة: أخذتم علمكم ميِّت عن ميّت، وأخذنا علمنا عن الحيِّ الذي لا يموت.

فلئن كان النّص في خصوصية خطابه، وفيما يتصل بحضور الشخصيات المركزيّة فيه هو من نوعية الخطاب الأول، فكيف يجئُ النص كتاباً موجَّهاً للمريدين؟ وهنا تبدو مُفارقة: كيف يكون نصّ الكتاب خطاباً للمريدين، وهو في نفس الوقت خطابٌ خاص بتوجُّه الشخصيات المركزية فيه؟ هنالك يظهر من قريب دور التربية الروحية والذوقيّة؛ لأن هؤلاء المريدين أنفسهم جماعة من المفترض فيهم أن يكونوا على النهج سائرين، وهم بمقصود نص الكتاب مؤهلون أن يكونوا فيما بعد صوفية، فالتربية على المناهج الصوفي أقدر لهم وأفعل إذا هى جاءت مُلزمة لهم أن ينظروا في جوانبها المتعددة، وأن يترقّبوا الكشف عن معاني الألفاظ التي اختصّت فيما بينهم لأنفسهم، بحكم أن الخطاب هنا منظورٌ إليه من جهة خصوصيّة الطريق: أدباً ومعرفة وذوقاً وإشارة ودلالة. يلزم أن يفهم المريد بدايةً ما هو قادم عليه: أن أدب الطريق مباينٌ ومغايرٌ، وأن اللفظ فيه مستبهمٌ على الأجانب والأغيار كما حدَّثنا القشيري في الرسالة، وأن الغيرة على الأسرار أن تشيع في غير أهلها هي غيرة من جنس التربية الروحية والذوقية للمريدين:

فمن منحَ الجُّهال عَلماً أضَاعه            ومَنْ مَنعَ المستوجبينَ فقد ظَلم

لأجل هذا، كان النهي عن تعليق الدُّر في أعناق الخنازير كما قال السيد المسيح.

* * *

جاءت قصيدة أبي مدين الغوث موضوعة في آداب الطريق، وقد كان ابن عربي قام بتخميسها (بتخميس قصيدة أبي مدين الغوث شعيب) على غِرَار تخميس وتسبيع بردة الإمام البُوصَيَري في مدح سيد الخلق، صلوات ربي وسلامه عليه، فنصُّ آداب الطريق هو شرح لتلك القصيدة، ويحتوي الكتاب في آخره على تخميس ابن عربي لها؛ ولكن ابن عطاء الله يذكر في شرحه بيتاً من القصيدة ثم يقوم بالتعليق عليه، وشرحه موضِّحاً مقاصده وأهدافه وغاياته، بما يلتقي وفكر ابن عطاء في الطريق، أي أن الشرح هو في المقام الأول يخضع لتصوف ابن عطاء.

أحياناً يشرح بيتاً بمفرده، وأحياناً يشرح بيتين، وأحياناً ثلاثة؛ وأحياناً أخرى يذكر بين طي الرسالة المذكورة أشعاراً تتناسب مع الشرح، ويلقي عليه ظلالاً من عناصر مذهبه في إسقاط التدبير، وشرحاً يُبيِّن مقاصد هذه الأشعار. بيد أن الأهم ليس هو استشهاد ابن عطاء الله بالشعر إنْ في حال الشرح الوارد، أو الوارد الشرحي، على تخصيص الاصطلاح؛ ولكن الأهم هو تصوف الشاذليّة: بروز الفكرة العطائيّة ظاهرة في الشرح جلِّيّة في البيان.

فابتداءً من خطبة الكتاب ونحن نرى كلمة ابن عطاء تتوجه إلى نوع من الناس يريد هو أن يوجه خطابه إليهم؛ هذا النوع لابدّ أن يكون قد أشهده الله سابق تدبيره فيهم فسلموا إليه القياد، وكشف لهم عن خفي لطفه في منعه فتركوا المنازعة والعناد؛ فهم في جميع الحالات مستسلمون إليه متوكلون عليه. لابدّ أن تكون إذن هذه الكلمات القليلة هى جوهر فكرة إسقاط التدبير عن ابن عطاء، وهى أخصّ ما يهدف إليه من إطالة الحديث أو قِصره، في جميع ما يكتب؛ لأنها الفكرة الصوفية المركزية العليا المسيطرة عليه كما سيطرت على تصوف السادة الشاذلية عموماً، وتصوف ابن عطاء الله على وجه الخصوص.

يشرح النَّص فكرة "المُخَاللة"، كما وَرَدَتْ في حديث رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه حين قال: "يُحشر المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالل". هذه المخاللة هى المقصودة من آداب الصحبة في الطريق؛ كون المُخاللة قرينة الصحبة الشديدة؛ فلابدَّ أن يعرف المرء خليله وينظر صحبة من عساه يُخالل.

أدبُ الطريق كله في معرفة من يستحق تلك المُخاللة ممَّن هو محروم منها. وعند ابن عطاء الله ينبغي أن يعرف السالك: مَنْ ذلك الذي تجب مخاللته؟ وإلى السالك يتوجّه بخطابه التربوي المقصود (النصيحة). والنصيحة شكل من أشكال حضور لغة الخطاب الصوفي عند ابن عطاء؛ لإشراق الفهم وإبراز التواصل وإيضاح المقصود، وقد تأتي على شكل موعظة أو معرفة أو تشويق أو دلالة على فقه الطريق:" فلا تخالل إلاّ من ينهضك حاله، ويدُّلكَ على الله مقاله، وذلك هو الفقير المتجرِّد عن السِّوى المُقبل على المولى، فليست اللذة إلاّ مخاللته، ولا السعادة إلاّ في خدمته ومصاحبته. فلذلك قال الشيخ العارف المتمكن أبو مدين الغوث:

ما لذة العيش إلا صحبة الفُقَــــــرَا     هُمْ السَّلَاَطين والسَّادات والأُمرا

وفي تخميس ابن عربي لمطلع القصيدة قال:

يا طالباً من لذَاذَاتِ الدنيا وطــراً             إذا أرَدَتْ جَمِيِعَ الخَيْرِ فِيكَ يُرى

المستشارُ أمينٌ فاسْـمَعِ الخَبَـــرَا             (ما لذة العَيْشِ إلا صُحبة الفُقَرَا)

(هُمْ السَّلَاَطين والسَّاداَت والأمرا)

والمعنى: ما لذة عيش السالك في طريق مولاه إلاّ صحبة الفقراء، والفقير ليس هو الذي لا يملك مالاً ولا هو ممّا يكون قد حُرِمَ من جاه الدنيا، ولكنه هنا على اصطلاح الصوفية هو المتجرِّد عن الخلائق المُعرض عن العوائق، لم يبق له قبلة ولا مقصد إلا الله تعالى، قد أعرض عن كل شيء سواه وتحقّق بحقيقة:" لا إله إلا الله محمد رسول الله".

الفقير هو المُفتقر إلى الله، قد تحقق بآداب العبودية بفقره. والصوفيّة جميعاً يتحققون بمقام الفقر، وإليه ينتسبون. والفقر هو أهم مقام من مقاماتهم الشريفة.

وإذا كان الصوفية هم الفقراء على الحقيقة؛ لأنهم تحققوا بأدب الافتقار إلى الله، وكان مقام الفقر علامة وإشارة على توجُّهاتهم الروحية، فهم كذلك قد تحققوا وينبغي لهم أن يتحققوا بأدب الصمت، يتجاور مع أدب الافتقار، والصمت حكمة عند أهل الطريقة من اللوازم الواجبة فيما يشير إليه ابن عطاء شرحاً لقصيدة الشيخ أبي مدين الغوث، نوعان:

(1) صمت باللسان.

(2) صمت بالجنان.

وكلاهما لابدَّ منه في آداب الطريق، ولا غنى لأحدهما عن الآخر، فمن صمت قلبه ونطق لسانه، نطق بالحكمة. ومن صَمَتَ لسانه وصمت قلبه، تجلى له سرَّه وكلّمه رَبَّه. وهذا غاية الصمت: أن يعلم المرء أن صمته تفكّراً من تجليات الله على سرّه كيما يلقن الحكمة. ولا يكون الصمت بليغاً إلا إنْ كان عن قدرة لا عن عيّ؛ فصمت العيّ عجز، وصمت القدرة جهاد ومعرفة، وشتان بين العجز والقدرة. وهو أيضاً معنى قول الشيخ أبي مدين:

ولازم الصمت إلاّ إن سُئلتَ فقلْ    لا علم عندي وكن بالجهل مُستتراً

والمعنى هو: أن أدب الطريق يُلْزم السالك أن يتستّر بالجهل، وأن يقول على الدوام "لا علم عندي"؛ ولو كان من خاصّة العلماء، وهو أن لا يكون دَعيَّاً في كل وادٍ يخطب. يتَسَتَّر بالجهل؛ لأنه سيتلقى علماً إذا هو وفيَّ الصمت حقه من أدب العلاقة الباطنة. وكثرة الكلام هى بالضرورة ممّا تجرُ إلى الدعوى بغير علم حتى فيما لو كان صاحبها عالماً، فهى إلى الدعوى أقرب؛ فما من شك في أن الكلام شهوة، وأكثر شهوات المتكلمين الادِّعاء: وفي لزوم الصمت على الغايات الجليلة، وقبض عنان القلب واللسان عن كل دنيء رديّ، إشراقٌ العلم اللَّدني، كما قال ابن عطاء: "... واستتر بالجهل تشرق لك أنوار العلم اللدَّني؛ فإنك مهما اعترفت بجهلك ورجعت إلى أصلك لاحت لك معرفة نفسك؛ فإذا عرفتها عَرفتَ رَبَّك، كما رُوى في الحديث:"مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ".

إذا تحقّق العبد بأوصافه من الفقر والضعف والعجز والمذلَّة، وشهد لنفسه بالعيوب الظاهرة والباطنة، أدرك من فوره أوصاف الربوبيّة من الغنى والقوة والعزة والقدرة؛ فيحظى في الوقت نفسه بظهور أوصاف مولاه سبحانه وتعالى فيه: أن منحه الغنى وأعطاه القوة، وأمدّه بالعزة وأعزَّه بالقدرة. فإذا لسان حاله يقول: "سبحان من ستر سرَّ الخصوصيّة في ظهور البشرية، وظهر بعظمة الربوبيّة في إظهار العبودية".

ليست طبيعة الخطاب ولا مقولاته الظاهرة، فضلاً عن الباطنة، إنشاءً وعظيّاً، ولكنها طبيعة مُمنهجة كمن يفتح لك الباب ويدعوك للدخول، أو كمن يدّلك على الطريق ويقول لك: سِر. حتى إذا مشيت في طريق السّر، تكشفت لك باتجاه المسيرة سرّ الخصوصية من وراء ظهور البشريّة، والأمر مُعلق وحده على مقام التّحقق بالعبوديّة.

خَمَّس ابن عربي هذا المعنى لمَّا خَمَّس قصيدة الشيخ أبو مدين الغوث التلمساني رامياً إلى غيبة الرؤية إلى عيوب الناس والانشغال بعيوب الذات بُغية اكتشاف حضورها داخل أطواء المعيّة حين قال:

ولاَ تَكُـنْ لعُيوُب النـَّاس مُنْتَقدَاً     وإنْ يَكن ظَاَهرَاً بين الوجُـود بَـدَا

وَانْظُرْ بعَيْن كَمَال لا تَعبْ أَحَـدَاً      (وَلاَ تَرَىَ العَيْبَ إلاَ فيكَ مُعْتَقدَا)

(عَيْبَاً بَدَاَ بيِّنا لَكنْهُ اسْتَتَرَا)

وفي القصيدة تلخيص وافٍ لأدب العلاقة بين المريد والشيخ كما فرضته الآداب الصوفية، والتي هى في نفس الوقت آداب العبودية تتراوح بين تربية وترقية؛ أعني الحياة الباطنة التي يقوم عليها التصوف جملة وتفصيلاً؛ لهذه الحياة كما ترى أدبٌ فريد هو نفسه أدب العبودية يحمي المريد من رعونات النفس وطغيان الهوى, وفيها تربية رُوحيَّة عالية لدرجة أنهم أجمعوا بأن الطريق لا تصلح مطلقاً بغير الرعاية الروحيَّة يتولاّها شيخ عارف بصير بمعاطبها، قادر على قطع مفاوزها. وليست تلك القدرة تخصُّه وحده فقط ولكن أيضاً يُقدر المريد نفسه على قطع تلك المفاوز. فعلى المريد أن يحفظ آداب الطريق في نفسه، وأن يتوصَّل بالافتقار والانكسار إلى محبة شيخه وأن يتمسك بأثر أعتابه، وأن يراقب أحواله ويجتهد في حصول مرضاته وأن ينكسر ويخضع له في كل حين؛ فإنه الترياق!

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم