صحيفة المثقف

سامي عبد العال: قبائل المؤمنين والملحدين

سامي عبد العالمن دواعي التعبيرات اللغوية: أنَّه حينما يُقال" مؤمن" تنتصب أمامه كلمة "ملحد". سواء أكان طرفُ المعادلةِ مُحدَّداً من قِبل الايمان الديني أم العكس بواسطة الالحاد. وربما أقدم حفرية لهذا الشأن توجد تاريخياً في المدونات الدينية القديمة، سواء أكانت مدونات وضعيةً أم سماوية. " أهل الإيمان وأهل الكفر "، " حزب الله وحزب الشيطان "، " أهل الجنة وأهل النار"، " أصحاب الضلالة وأصحاب الهداية "، " أعوان الحق وأعوان الباطل "، "طالبو الدنيا وطالبو الآخرة ". والتفرقة ستظل مستمرة حتى الرمق الأخير من قوى الإنسان خيالاً وحساً، وبعد نهاية العالم بحسب ما يذهب إليه الاعتقاد الديني. وفي هذا الإطار ربما تعود التفرقة إلى أصل الحياة كما بدا لأنصار المعسكرين المتعارضين. وبطبيعة الحال سيتلَّون هؤلاء وأولئك بأوصافٍ كثيرةٍ تبعاً لسياقات الثقافة التي تغذي سلطة التصنيف الديني ومعطياته داخل حياتنا الإنسانية.

يبدو أنَّ البشرية ستكرر تاريخها القائم على صراع التناقضات بشكل أكثر شفافيةً ورمزيةً في المستقبل المنظور. عندما يأتي ماضيها الغابر من ناحية الأزمنة المستقبلية القادمة في صور مختلفة من الصراع بحسب تطورات العصر. فلئن كانت فكرة القبائل طاغية قديماً، حيث ساد التحارب بينها( بين قبائل كذا وكذا في المجتمعات القديمة)، فقد تظهر تلك الفكرة هنا أو هناك بأسباب مختلفة. إنَّ تطور البشرية الراهن (ومن أسفٍ) لم يستطع تخليصنا من هذه الثنائيات ولا من النزعة القبلّية، وها هي ستعود بصورةٍ تلائم عصرها في كل مرة جديدةٍ. وفي هذه الأثناء الراهنة من الحوارات والتنظيرات الدينية السياسية، بتنا نرى (القبائلية الدينية) تعود بكل مكر على صعيد" الإيمان والكفر"، وقد اجترت كافة التفاصيل التي كانت في يوم من الأيام بمفاهيم وحياة بدائية تماماً، إذ دعمت تلك الحياة الغارقة في التخلف حروباً لا تبقي ولا تذر.

وأزعم أنَّ عمليات التناسل الحدي بين النقائض يمكن انقسامها إلى ما لا نهاية. ولا تُوجد هناك أية أوجه لاستعمال الدين وممارساته وطقوسه ومعانيه لا يستوطنها هذا التنافر. وهو تنافر حدي عادةً، أي ليس مرحلياً لدرجة النهاية تمهيداً للالتئام فيما بعد. لكنه يجري كبذور منفلقة يعتبرها الفريقان (المؤمنون والملحدون) غير قابلين للتعايش. ويستحيل أن يتزاوجاً مهما طال الوقت، ناهيك عن أن يحيا الاثنان حياة مختلفة. ولهذا كان الحل القريب هو إدامة الصراع المسعور لقتل الآخر (مادياً أو رمزياً)، كما رأينا ذلك جنباً إلى جنب لدى جماعات العنف الديني وجماعات اللادينيين (خاصة بث كراهية الأديان على المنصات والمواقع إلكترونية). حتى أنه قد دُمرت مجتمعات بفضل هذه الأشياء.

لأن سيادة النقائض في مجتمعٍ ما لن تكون إلاَّ مرحلة لظلامه الكثيف. ها هو التاريخ العربي الاسلامي كان مشبعاً بالسرديات والقصص التي تمثل بجثث الأفراد وأثارة الأخيلة العنيفة وتقاتل أهل الطوائف والمذاهب. فكثيراً ما كان يوصف من قبل كتابات شرقية وغربية بتاريخ الغزو والفتح والجهاد لبلاد الكفار والأغيار. وكلها مسميات يقبع فيها "شيطان التصنيف" بجميع أشكاله. وكذلك لو تمَّ تأسيس دول للادينيين افتراضاً، فإنها ستدخل في صراع محموم مع أهل الأديان حتى الرمق الأخير،  وليست مشاهد الدول الغربية والشرقية الراهنة ببعيدة عندما نجدها تحارب الجماعات الدينية المتطرفة بنفس منطقها الدموي متعقبة إياها في كل مكان من العالم.

فرغم تطور الذهنية البشرية إلاَّ أنها تعمل بجانبيها (الواعي واللاوعي) بحتمية التمييز، الاستبعاد، الاقصاء. هذا يعود بها إلى آلاف السنوات الغابرة منذ بدايات الإنسانية كما قلت. عندما كانت حياة الإنسان تنغمر في قبيلته، لحمته العصبية باصطلاح ابن خلدون. إنه بمثابة انتماء يحدد الهوية كاملةً بلا قدرة على الانعتاق. لأن الخروج عن القبيلة يعني موتاً في حالات ليست بالقليلة. ويصبح الأنا منصهراً في أثير الجماعة العرقية كأنه نسيج عضلي داخل وجودها الحي. لا يشعر بالإنشداد إلاَّ إلى مثيله، نظيره العضوي (وتسمى لُّحمة القبيلة). ويصبح أيضاً عاجزاً عن الانفكاك من الحالة الجمعية التي تحدد مصيره وآليات عمله ورؤيته للكون والمصير.

إن القبائل والعشائر والعائلات لهي أقرب التكوينات أنثروبولوجياً للروابط العرقية والجنسية بين الجماعات البشرية. وهي الرغبة العنيفة في الاندماج الحسي بالمماثل في التكوين والاعتقاد والعلاقات. ومن ثم فهو ليس المماثل الروحي ولا الإنساني قصداً دون غيرهما، إنما الالتصاق الجسدي الصراعي هو الأساس. ولو قربنا الصورة أكثر لوجدنا القبيلة متصلاً لحمياً بين مجموعة ذائبة في بعضها البعض تجاه كتلة أخرى. هي غالباً قبيلة مكروهة على خط العداء معها. وأن الواقع المادي لحركة الأعضاء في القبيلة يكمن هذا الامتداد. وذلك بصرف النظر عن الاختلاف، التنوع. بل سيموت كل اختلاف من شأنه اثراء وإغناء الفضاء الحر للعقول والأفراد والحقوق واللغات والآفاق.

والأكثر دلالة مع هذا المسار مثلما أشرت هو إنبات معاني القبلِّية باسم الأديان والالحاد معاً. إنه أعمق تحول حدث على مفاهيم التحدر عن الأصل والنسب والعرق وصولاً إلى وجودنا التاريخي الراهن منذ القدم. أن يتدفق الوجود الصراعي في انتماءات تغالب بعضها البعض بعناصر الاعتقاد والأيديولوجيا. لأن أسباب الانتماء العضوي لم تنته بعد، عناصر الصراع تحورت، تغيرت في اشكال أكثر حداثية وحتى ما بعد حداثية. وكانت ثمة مبررات للقفز نحو الأمام دوماً بأسماء شتى ليس أقلها أسماء اعلامية وثقافية وسياسية. وتلك المرحلة الآن وبعد الآن لها من الخطورة ما لها.

لأن المبررات المرتبطة بصراع الأديان عامة وكلية رغم خصوصيتها مع غرقها في وحل العصبية المقيتة. كما أنها تحتمي حتى أطرافها الدنيا بوسائط شفافة من المذاهب والفلسفات والرؤى والتقنيات وعوالم ووسائط الافتراض. وقد تقطع هذه العصبية شرايين الحياة الإنسانية في همس الأثير بحيث لا تكاد ترى. وحتى أنها انتقلت مؤخراً من مجرد (قبائل دينية أو إلحادية مذهبية) ذات طابع جيو سياسي محدود إلى بدائل عولمية على صعيد السياسات الدولية.

بالأمس القريب في نهايات القرن العشرين، أشعل صمويل هنتنجتون في كتابه (صدام الحضارات clash of civilizations and last man ) فتيل الحرب الحضارية باعتبار أن ثمة ديناً -وهو الاسلام- أخطر على الحضارة الغربية من جميع الأديان الشرقية الأخرى. ليست المسألة هنا ما إذا كانت أفكاره صحيحة أم لا (وهي كذلك بالنسبة للإسلام السياسي وغير السياسي)، لكن لأنه ساق مبرراته ودوافعه بطريقة غير دينية إزاء الدين. تجاوزاً يمكن اعتبارها إلحاداً سياسياً يناصب الدين العداء الحضاري وإنْ كان نسغها لاهوتياً مسيحياً في شرايين الامبراطورية الأمريكية. وفعلاً ثم سرعان تشكلت الفكرة في قرارات أممية ومنظمات دولية انتهت بالحرب على الإرهاب عاصفة في طريقها بمجتمعات شرقية وعربية في مقابل القيم المعاصرة لدول الغرب. إذن الرأسان نفسهما لقبيلتي الإيمان والإلحاد قد وجدا مكانهما لدى صانعي السياسة وأصحاب المشروعات العولمية بعد تدمير برجي التجارة العالميين. ثم جاءت الصواريخ والمدمرات الأمريكية التي اعتدة على مجتمع العراق لا تفرق بين المؤمنين والملحدين. مع أن المزاعم الكبرى التي وراءها كانت القضاء على محور الشر وتحالفاته الإرهابية!!

لقد اتاحت العولمة أدوات افتراضية ووسائط خيالية استطاعت تكريس العنف المتبادل بين قبائل هذا العصر. وهو الموقف الذي لن يزيد الاثنين إلا تمسكاً بمواقع أقدامهما الشائكتين. بل والإمعان أكثر وأكثر في نشر الآراء العدائية بينهما. لقد تحصن الفريقان بمواقع الكترونية وعبر صفحات تويتر والفيس بوك والمدونات والصحف الالكترونية ومواقع النشر بمجمل الآليات الاعتقادية ذاتها بين الإيمان والإلحاد. لقد خُصصت مجازياً أرقام وشفرات لكل موقع (سواء الإيمان أو الإلحاد) لا يأخذها إلاَّ من أجاب عن أسئلة ايديولوجية تخص توجهات وآراء الفريقين. إذن أمست الأرقام السرية مفتاحاً قبائلياً واسطورياً كما هي في استعمال الألفاظ والعبارات ضمن الأساطير القديمة. وبالفعل فإن أسطرة الايمان والإلحاد مازالت عملية تنسخ رمزيتها وأدواتها على كلا الجبهتين. لأن الانحشار في معارك حوارية ونقدية ضيقة حول التصنيفات الدينية دون "عمل فلسفي ضخم" يتجاوزها ينتهي إلى احتذاء الأهداف والوقوع في ذات الأخطاء.

هكذا انتشرت الروابط الافتراضية والأيقونات والصور الديجيتال لأصحاب الاتجاهين في وسائط التواصل والاعلام. ليغدو التناقض بينهما واسعاً على نطاق العالم الافتراضي ومرادفاته. ولتتحول القبائل من أجساد عضوية ثقافية إلى أنسجة خيالية على صعيد الأفكار والقوى الرمزية الناعمة المتمثلة في الثقافة. ولم يكن الأمر سائراً في طريق التخفف من الاحتقان اللاهوتي الصراعي، لكنه جعل الملاحقة بين الاثنين على أشدها. فكأن المؤمنين يجتاحون مواقع الملحدين مع الشتائم والسباب اللا أخلاقي. وبالعكس امتشق الملحدون عصا السخرية من العقائد الدينية الضيقة. والقراءة لهذا الحال تكشف كم تقلص المنطق العقلاني الثري في فهم قضايا الدين والحقيقة والإنسان والحياة وكيفية الاعتقاد.

بكل تأكيد تأتي قبائل الملحدين والمؤمنين ضمن إطارها التاريخي هذا. ونحن ندرك أن الثقافة الشائعة حول الحوار والنقد والتعبير لم تكن إلاَّ صناعة ثقيلة لشروط التخلف وأنظمته السارية بين جميع الاتجاهات بلا تفرقة. فإذا كان ثمة شيء مشترك بينا القبيلتين فهو طرائق التعامل والنقاش بينهما. ولذلك لم يكن ثمة انفتاح فكري، بل ضاقت المساحات واثخنت الأفكار بغرائز الفتك بالمخالف والاجهاز عليه.

وراء ذلك كله منطق اقصائي هو منطق: " إما .... أو"، إما الإيمان.. أو.. الالحاد، إما الدين.. أو.. اللادين، إما أنا... أو.. لا أحد سواي". ذلك المنطق يخفي التكوين القبائلي الدموي في حواشي الفكر الإنساني حتى اللحظة. حيث لديه قدرات هائلة على التكيف مع الأنظمة الحداثية وما بعد الحداثية للعنف والكتابة والحقائق. وبحكم اللغة فإن " إما" ليست اختياراً فحسب بل وجوداً حتى الموت، حتى الفناء، حتى التلاشي كذلك. إن الوضع الثنائي العصي على الالتئام ينقل عملياته العنيفة خارج إطار التفكير المثالي والأسطوري. ليلتحم بمقولة ديكارت الشهيرة: أنا أفكر إذن أنا موجود. ويصبح الأنا هو الحجاب السميك الذي يكمم فيه الآخر ويقضي عليه من أقرب الطرق. والقصة التي تكرر نفسها بعيده عن الترميز أو الرأسمال المعرفي. وإن كان الأخير أكبر مخازن البارود الذي يزودها بالاستمرارية. كيف يمكن ابطال مفعول هذا المنطق التناقضي للاعتقاد؟ هل ثمة آفاق مغايرة تلغي الاستقطاب الحاصل في الحياة؟

الإلغاء يكمن دوماً في الطرف الثالث، الرابع، الخامس، بلا توقف. كل ثنائية يأتي تعطيلها من هذا الموقع السري خارج – داخل وجودها المتناقض والعنيف. إنه التفكير السالب negative thinking الذي لا ينحاز سلفاً لهذا أو ذاك. ويبقى مسئولاً عن احداث التنوع، الاختلاف، التغيير، الاختراق، التدمير لأي استقطاب اكراهي من هذا القبيل. فإذا كان الإلحاد توجهاً ايديولوجياً ضد ديني anti- religious، فإنه لن يقدم إجابات مفتوحة وشفافة على معضلات العنف الديني. لكنه سيستدعي كل إرهاب مقابل له، أي سيستثير عداء المضاد البيولوجي له وبطبيعة الحال سينقلب هو نفسه آجلاً أم عاجلاً إلى نوع من الارهاب. ولذلك ينبغي  أن يكون الحوار والفكر فيضاً، اغراقاً، غمراً من الانفتاح اللانهائي... هو زخم حي لحياة الإنسان بما هو إنسان.

والعلة البعيدة أن الإيمان الديني لن يتحرر من محدداته الثقافية سوى بتحرير مفاهيم الإله. بمعنى ينبغي تحرير الإله من قبضة العنف والأيديولوجيا مثلما تم تحريره من مفاهيم وصور الوثنية. وحتى يجب تحريره من تصورات الوجود الماهوي لأفعال الإيمان بأنماط تاريخية معينة. وبالتالي إذا قبل الإنسان بحسب حريته اللا إيمان، فلن يمكنه ذلك إلاَّ بتدمير الصور التاريخية والقمعية للإله. ولهذا يحرص الأخير (الله) في جميع صفاته وأسمائه على البقاء في حيز الإطلاق، مساحة التأله السالب (مثل منطوق الشهادة: لا إله إلا الله) الذي لا تكافئه أية معان بحد ذاتها. بل تعجز اللغة عن الاتيان بدلاله الإله كما هي في قوالب اللغة المعتادة والجاهزة.

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم