صحيفة المثقف

جمال العتّابي: كنت بعثياً (2): منطلقات كتابات السيرة ومآل النتائج

جمال العتابييبدو الشيخ راضي متجاذباً بين حركتين  في مذكراته، حركة الذهاب الى الماضي، وحركة الأياب الى الحاضر، انه، بتعبير آخر متجاذب بين ذاكرة ماضيه، ومخيلة مستقبله، والحاضر يقف بينهما كنقطة توازن، وهو يحمل همومه، وسائل عبر ماضيه، في تصور معلن وصريح، أو مايزال مكتوماً، متفائلا أحياناً، أو حذراً ويائساً في أحيان كثيرة.

قد لا تتسع القراءة لما هو مطلوب منها على ما أفترض، أن تتوسع في محاور عديدة ومهمة تناولها كاتب السيرة، لكنني سأتوقف عند بعض المحطات والمنعطفات التاريخية التي ما تزال موضع جدل وخلاف، لكن المهم في المذكرات، كونها ضرورة نحتاجها راهناً، انها تعزز حاجتنا لثقافة الإعتراف، والإعتذار بأسس سليمة وبنّاءة ومنظّمة، والإعتراف هنا لا يتعلق بالفعل السياسي الخطأ، إنما يتجاوزه نحو كيفية تدريب الآخر على تعلم هذه الثقافة وتعميمها، انه بتقديري إمتحان ثقافي، تكون فيه الذاكرة قادرة على الإقناع، دونما خلق لأوهام جديدة، إذ يعتقد البعض للأسف الشديد، ان الإعتذار نقطة ضعف، كونها دليل إنكسار وهزيمة، بينما يُعدّ الإعتراف بالخطأ أو تصحيحه والتراجع عنه، موقفاً شجاعاً متسامياً، يحتاجه المرء كفرد، وكذلك الجماعات السياسية، وأعني بها الفاعلة المؤثرة، أو تلك التي تمسك زمام  السلطة سابقاً، أو الزمن الحاضر، لعل هذا الوضع يُظهر أهمية الإلتفات إلى بلورة وعي نقدي بأخطاء الماضي. والحذر من النزوع إلى إدانة الآخر، وترك الساحة مهيأة أمام تبرئة الذات.

ان المراجعة تقتضي ايضاً، تجنب الماضي كمعيار أو مقياس مقدّس، لخلق أوهام جديدة، هي في الحقيقة محاولة لتعويض مواجهة الأخطاء وتحري أسباب الفشل والإخفاق لدى القوى السياسية جميعاً.

ان الرؤية العلمية والعقلية تدرك ان الاحداث أياً كانت، هي نتاج تفاعل اسباب عديدة، وبالتالي فانها تفترض بما في ذلك ميدان العلاقات السياسية، ضرورة التنور بالسببية من أجل رؤية نتائجها المحتملة.

لقد أدرك محسن الشيخ راضي هذه الحقيقة متأخراً، وعبّر عنها بالقول : من الانصاف ان يكون الانسان أكثر صلابة بنقد ذاته، وفي نقد ما حدث في عام 1963،وأن يكون أكثر صلابة بإدانة الكثير من الممارسات اللاإنسانية التي إقترفتها ( بعض العناصر البعثية) المشبّعة بروح الثأر والإنتقام غير المبرر، ويواصل القول: الحق انني اشعر ان الكلمات مهما بلغت من قوة في التعبير لاتكفي لبيان رفضي لما قام به بعض البعثيين من سلوك مدّمر وكارثي تحملنا وزره ونتائجه جميعاً، نحن المشاركين في تلك الفترة المقيتة، لقد حقد علينا الشعب العراقي، كأفراد، وكحزب، وحقدت علينا القوى السياسية الاخرى، بما يوازي حقدنا عليهم، وربما أكثر، وبكل ثقة وقناعة أقول بأني أدين بقوة كل السلوكيات الوحشية التي لازمت احداث 63، وأستنكر بشدّة العنف الذي رافقها والدماء التي سالت، وأريقت تحت عنوانات واهية لاقيمة لها إزاء حياة الإنسان وكرامته(ص181).

بتقديري ان النص أعلاه، يضمر نزوعاً لإدانة القسوة، ويدين القتل ودوافع التدمير، بإعتراف صريح وواضح، علينا أن نقرأه بنواياه الحسنة، وبلا لبوس سياسي، ينبغي ان يكون خطاباً سياسياً وثقافياً تتقنه القوى السياسية من تجربة العراق المريرة، بمعنى التأسيس لخطاب عقلاني يهدف الى وضع أسس للمراجعة ونقد الذات، وإعادة النظر في تقييم التجارب بكل جوانبها ومكوناتها، وإشكالاتها، وإخفاقاتها، وممارسة النقد لا تعني عبارات خطابية لا تصنع يقيناً، إذ يفترض من وجهة نظر التاريخ التمسك بحدود الحقيقة،  وبموعظة تجارب التاريخ، ويبقى ممكناً القول : لا تاريخ بدون ذاكرة، ولا كتابة بدون ضمير.

يدعونا الشيخ راضي إلى البحث عن إجابات لأسئلة لا حدود لها، كنا نأمل أن يشاركنا الإجابة عنها، فما معنى أن تقود السلطة مواطنيها إلى أقبية التعذيب، وتصفيتهم؟ كيف لنا أن نفهم التناقض بين ما تعلنه الأيديولوجيات الشمولية من برامج وأهداف زائفة، وبين ممارساتها على الأرض، كيف يمكن لحزب سياسي  يدعي لنفسه معاني الدفاع عن الإنسانية، وهو يقتل الإنسان، لأنه مختلف معه بالرأي؟ كل ذلك يجعل من مهمة التدقيق في مراجعة الذات من أخطر المهمات وأكثرها أهمية.

ولأننا أمام سرد للسيرة مثيرللجدل، لقائد سياسي ماتزال ذاكرته يقظة، من خلالها نتبين الأحداث، ونتأملها من جديد وبهدوء، دون إنفعال، فالشيخ راضي يقف بالضد من محاولات (التشويه)، التي تعرّض لها رفيقه علي صالح السعدي، والقيادات البعثية، كما يصفها الشيخ بالنزيهة والبريئة من التهم التي ألصقت بهم، ويشير بذلك الى شخصه، الى جانب هاني الفكيكي، وأبو طالب الهاشمي، وحمدي عبد المجيد، ويزعم كاتب السيرة بثقة، ان السعدي أدان أعمال العنف، ولم يمارسه على الإطلاق ضد الشيوعيين، وكل ما يشاع عنه من قسوة وعنف، غير صحيح، ويبرر للسعدي عدم تمكنه من مواجهة العنف وإيقافه، إذ كان أضعف من السيطرة عليه، على الرغم من انه يحمّله المسؤولية، بوصفه قيادياً في السلطة والحزب، وخلاف العديد من الروايات في الأدبيات الحزبية والمذكرات الشخصية لقادة سياسيين من طرف الصراع الآخر، يؤكد الشيخ راضي، ان السعدي كان بريئاً من كل عنف، ولم تتطلخ يداه بدماء الشيوعيين، ويذكر راضي في (ص203) : شهادتي للتاريخ، أقول، لا أريد أن أُدين الحزب وقيادته، فحسب، بوصفها تتحمل مسؤولية الجرائم المرتكبة بحق الشيوعيين، وغير الشيوعيين، إنما أدين نفسي، لأني كنت جزءاً  من قيادة الحزب والنظام، ولم أستطع وقف حمّامات الدم، ولم نكن قادرين على كبح جماح الثأر والإنتقام التي مارسها المتحزبون  في البعث، والجناح العسكري المسيطر على الأجهزة الأمنية ولجان التحقيق.

ويضيف بهذا الصدد: كنا جميعاً في الحركة الوطنية في العراق نتقاتل بالنيابة من حيث لا ندري، غارقين في أتون صراع المعسكرين الإشتراكي والرأسمالي، تحول الى صراع دموي بين الشيوعيين والبعثيين، لذا يدعو الى التحري بإنصاف مواقف البعض من قادة البعث خلال تلك المدّة، والتنبيه إلى ان النظر  للتاريخ بعين واحدة رمداء سيفسد الإنصاف الإنساني، وسيطمس الكثير من الحقائق التاريخية(ص 161). إن الشرخ الذي أحدثه الصراع بين القوى السياسية بعد تموز 58، تحول إلى شروخ مدمّرة في جسد المجتمع العراقي، حتى بدا عاجزاً عن إيقاف الإنهيار، والخروج من دوّامة النزيف.

لعل مفاتيح فهم أحداث تلك المدة عند الشيخ راضي، تقدمها تلك السياقات والأفكار والمواقف، إذ يشدد على عدم آهلية البعث لإدارة الدولة: نحن الشباب الغض لاخبرة لنا، ولا ممارسة في أصغر منصب إداري يؤهلنا، وهنا تكمن إحدى المشاكل التي واجهتنا، لكن بعد هذه العقود الطويلة التي مضت على تجربة8 شباط، أثبتت ان النوايا الحسنة التي كانت تخامر وجداننا، لم تكن وحدها كافية لتحقيق العدالة في ظل أوضاع سياسية مضطربة.

تحت وطأة الماضي، يحاول محسن الشيخ راضي، في خطاب الإعتراف أن يكشف المستور، برفع الستر وتمزيق القناع، أن يكثف موقفه عن زمن عصي، كان بحاجة إلى مقاييس مرنة، وإدارات سياسية عقلانية، تحسنُ الرؤية وتدرك مهمات الحاضر والمستقبل، تتعدى الإجتهادات النظرية، وتفكر بنمطٍ وطني يعبّر عن مستوى إدراكها لطبيعة الأحداث وآفاقها على مستويات عدّة، لكن للأسف الشديد، ظلت عقدة تطهير الخطاب السياسي من لغة العنف والدماء ملازمة لإنتاج القسوة.

 

جمال العتّابي

................................

يتبع، الحلقة 3 (الأخيرة): التحرر من ثقل الماضي لا تسعفه النوايا الحسنة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم