صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: عندما تكون الأمينة غير جميلة..!

يسري عبد الغنيلقد انتشر في بدايات العصر الحديث موضة تعريب الروايات، والذي كان من أثر الاتصال بالأدب الغربي حيث اتجه الأدباء إلى فن القصة، وسلكوا إليها مسالك متعددة منها مرحلة الترجمة .

في هذه المرحلة بدأ الأدباء العرب يترجمون بعض القصص الأجنبية محتفظين إلى حد كبير بمعالمها وشخصياتها وأحداثها، ومن أوائل من سلكوا هذا المسلك، جدنا العظيم الشيخ / رفاعة رافع الطهطاوي، الذي ترجم عن الفرنسية رواية : (مغامرات تليماك) للأب / فنلون الفرنسي، وسماها (مواقع الأفلاك في وقائع تليماك)، ونذكر محمد عثمان جلال الذي ترجم عن الفرنسية قصة (بول وفرجيني)، وسماها (الأماني والمنة في ذكر قبول ورد جنة)، ونذكر نجيب حداد الذي ترجم رواية (الفرسان الثلاثة) للإسكندر ديماس، التي حولتها السينما المصرية إلى أكثر من فيلم سينمائي .

وفي أواخر القرن التاسع عشر هاجر إلى مصر عدد من السوريين، وكان لهم أثرهم الملحوظ في تنشيط حركة الترجمة القصصية، ومنهم : نيقولا رزق الله، الذي ترجم رواية (سقوط نابليون الثالث)، ونيقولا حداد، وطانيوس عبده، ومما ساعدهم على ذلك  أنهم وجدوا أبواب النشر مفتحة لهم، وأن الصحف أفردت صفحات لما يقدمون إليها من قصص تلبية لرغبة الجمهور .

وانتهى القرن التاسع عشر والترجمة هي المسيطرة على القصة، كما أنها كانت في بعض الأحيان ترجمة هابطة لم يحسن أصحابها اختيار القصص، ولا عرضها بأسلوب أدبي قويم .

ومع أوائل القرن العشرين استمرت حركة الترجمة في طريقها، وظهرت إلى جانبها حركة التعريب أو التمصير، وذلك بإعطاء شخصيات القصص وأماكنها أسماء عربية، والتصرف في بعض أحداثها لتتفق مع الجو العربي أو المصري، ومن ذلك رواية (البؤساء) التي عربها شاعر النيل / حافظ إبراهيم عن اللغة الفرنسية، وإن كان هو في الأصل غير متمكن منها .

وهنا قد يطرح سؤال : هل ترجم أحد المجيدين للغة الفرنسية رواية (البؤساء) لهوجو ، ترجمة حرفية، ثم أخذها حافظ وهو صاحب بلاغة وفصاحة وأعاد صياغتها ؟ !  .

أو هل اعتمد حافظ على ترجمة لها كانت موجودة في الأصل ؟، ثم أعاد صياغتها، وذلك لأن حافظا لم يكن يعرف اللغة الفرنسية ؟ ! .

هذان السؤالان في حاجة إلى إجابة شافية واضحة، ولكن ذلك لن يتأتى إلا بالفحص والدرس والتمحيص، نأمل أن نقوم به إذا كان في العمر بقية—حيث نستوفي مسألة   الترجمة الامينة غير الجميلة فى نهضتنا الادبية—كما يقول اهل البحث في الادب المقارن    .

وأذكرك أن الشيخ / مصطفى لطفي المنفلوطي في روايات (الفضيلة )، و (الشاعر )، و (ماجدولين )، و (في سبيل التاج)، فعل نفس الأمر، ولكن المؤكد ـ حسب بحثي ـ أن المنفلوطي كان له صديق يعمل في مهنة المحاماة، ويتقن اللغة الفرنسية، وكان يقوم بترجمة هذه الروايات ترجمة حرفية، ثم يأخذها شيخنا المنفلوطي ويعيد كتابتها بأسلوبه العذب الرقيق .

وهناك فرق واضح بين حافظ إبراهيم والمنفلوطي في طريقة الصياغة والكتابة، فحافظ شاعر في المقام الأول، والمنفلوطي كاتب متمرس، المنفلوطي الذي ولد سنة 1876، وتوفي سنة 1924، ولد بقرية منفلوط إحدى قرى صعيد مصر، وحفظ القرآن الكريم في حداثته، ثم درس بالأزهر الشريف لمدة عشر سنوات منتظمة، ولكنه شغف بالأدب، وعكف على كتب الأدب العربي القديم ينتقي أطايبها من الشعر والنثر، كما تتبع بشغف شديد كتابات الكتاب المعاصرين له، وبخاصة كتابات الأستاذ الإمام / محمد عبده أستاذه وشيخه، كما قرأ الكتب المترجمة على عهده، ولاسيما القصص الرومانسية .

ومن هذه القراءة المتصلة الواسعة تكون ذوقه الأدبي، وقويت أداة التعبير الأدبي لديه، وبدأ الكتابة في صحيفة (المؤيد) لصاحبها الشيخ / علي يوسف، واتصلت أسبابه بزعيم الأمة / سعد زغلول باشا، وكان معجبًا به، فعينه محررًا عربيًا بوزارة المعارف العمومية، وانتقل معه إلى وزارة الحقانية (العدل)، ولما قامت الحياة النيابية بمصر سنة 1924، عينه سعد زغلول رئيسًا للكتاب بمجلس الشيوخ، ولكن حياته لم تطل في هذه الوظيفة حيث أنه توفي في نفس العام!!!! .

كان المنفلوطي أديبًا مطبوعًا، ذا سليقة مواتية، وحس مرهف، وعاطفة جياشة، وقلم مطواع، وقد اصطنع لنفسه أسلوبًا متميزًا في الكتابة والتعبير به في طلاقة وعذوبة، وبعد عن التكلف والصنعة والزخارف اللفظية .

وبهذا الأسلوب الرشيق المكين المسترسل السهل مكن للمقالة الأدبية الحديثة، وخلصها من قيودها، وما كان يكبلها، واعتبرت كتابات المنفلوطي فتحًا جديدًا أصيلاً في عصره، وكانت منزلته في النثر الحديث بمنزلة رب السيف   والقلم / محمد سامي البارودي في الشعر الحديث، ومن آثاره الأدبية (العبرات) و(النظرات)، وكذلك القصص التي نقلها إلى العربية مع كثير من حرية التصرف، وحرية التعبير بعد أن ترجمت إليه حرفيًا .

وأسلوب المنفلوطي يتسم بوضوح الفكرة، وإحسان التدليل عليها، وفصاحة القول، وسلامة التعبير، وتقسيم الأسلوب إلى فقرات قد يتكون منها سجع خفيف تلقائي، دون إسراف أو تكلف، والخيال في كتاباته غير كثير، ولكنه وضع في موضعه من أجل توضيح وتأييد الفكرة المراد التعبير عنها، وكم من مرات قمنا بتدريس مقطوعات من أدب المنفلوطي لأولادنا في مراحل التعليم المختلفة عندما كنا نعمل في مدارس وزارة التربية والتعليم، وكم كان يروق أسلوب الرجل لأولادنا، في زمن كان يقدر فيه الأدب والأدباء .

(جزء من دراستي  عن الترجمة في عصر النهضة الأدبية العربية الحديثة : إضاءات وملاحظات)

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم