صحيفة المثقف

أياد الزهيري: الإله في الديانة الهندوسية (3) - (10)

اياد الزهيريوكما قلنا في البدء أن الديانة الهندوسية، هي ديانة مفتوحة ، ولم توضع لها حدود صارمه، وأنما نهاياتها، نهايات سائبه، أي ديانة مرنه وسياله، وأن كانت لها بعض المعالم الثابته وخاصه فيما يخص النظام الطبقي الأجتماعي، والأيمان بتناسخ الأرواح . هذه الخاصيه جعلت منها ديانه ذات أمتدادات عقائدية تتصف بالتغير والتبدل مع الزمن، وقد بينا ذلك في الجزء الأول والثاني من حلقات الديانه الهندوسية، وسنبين في الحلقة الثالثة والأخيرة الفروع التي تفرعت من الهندوسية، والتي ولدت من رحمها و ولكنها أخذت سبيل آخر مختلف، وخاصه الموقف من النظام الطبقي، ولكن بما أن مسألة الألوهة هو محور بحثنا، لذا سيكون هو المحور الوحيد في أطار أهتمامنا .

من الأمور التي ينبغي الأشارة أليها والتي تؤكد المسار المتحول في عقائد هذه الديانه، هو الأنظمة الفلسفية المختلفة التي سُجلت في حساب الهندوسية، والتي شكلت ملامحها الفكرية، التي عبرت عن مخاض عقائدي عبر تاريخ طويل يمتد من 500 ق م الى وقت ظهور حركة (الآريا سامج) التي تأسست عام 1875 م وهي ذات أتجاه ليبرالي، وما بين هذين التاريخيين نشأت الكثير من الفرق والمدارس الفكرية والعقائدية ذات الأساس الهندوسي، ومن هذه الطرق التي ظهرت قديماً الجاينية والبوذية والتي سنحاول التطرق لها في بحث خاص بأعتبارها ديانة كبيرة أشتقت بالأساس من الهندوسية، وشملت معظم منطقة الشرق الأدنى، كما ظهرت طرق ومدارس متأخرة، من أمثال البراهمو ساماج أو الحركة الليبرالية، وهي تعتبر حركة ضمن الهندوسية العصرية، وقد تأسست 1828 م (موسوعة تاريخ الأديان ج4 فراس السواح)، وهي حركة تدعو الى عقيدة جوهرية تقوم عليها كل الأديان، وهي وحدانية الله (الكينونة الخالدة) مؤلفة الكون وحافظته، وكذلك حركة (الأريا ساماج) وهي حركة لا تؤمن بالشرك والألحاد، كما يمكننا الأشارة كذلك الى حركة أخرى تُدعى (راما كريشنا) هي الأخرى ظهرت بالقرن التاسع عشر على يد شخص يسمى (راما كريشنا) وهو برهمي هندوسي بالأساس والذي يعتقد بأن جميع المخلوقات هي عبارة عن صور مختلفة عن الله، وأن جميع الآلهه والآلهات انما هم جوانب متعددة لبراهما مطلق واحد، ولكن أهم وأشهر هذه الحركات، والتي جذبت الكثير من الهنود أليها، الا وهي الديانه السيخية التي أنسلخت من صلب الهندوسية، والتي يعود زمن أنشاءها الى القرن الخامس عشر الميلادي . هذه الديانة عبرت عن أنعطافة كبيرة في مسيرة الهند الدينية، والمهم أنها ولدت من رحم الديانه الهندوسية، والتي تأسست على يد مؤسسها المعروف ب (نانك) . أن النقطة الجوهرية في السيخية هو التأكيد على التوحيد، والذي بالحقيقة يتوازى مع التوحيد الأسلامي، وهذه نقلة نوعية فيما عُرفت عليه الديانه الهندوسية التي بدأت بالتعدد وأنتهت بوحدة الوجود على يد البرهمية، ولكن من المهم الأشارة الى أنها تتوافق في كثير من عناصرها مع الهندوسية، الديانة الأم. هناك رأي يقول أن السيخية قد تأثرت بالتوحيد الأسلامي بحكم وجود المسلمين القوي بالهند، وكان أحد كبار مفكري السيخية، والمدعو (كبير) من الذين أزدروا الأصنام، وكان يقول لا يمكن للاله أن يحل في حجر، وقد أعلن بأعتباره موحداً، حيث قال (أن حب الله كان كافياً لتحرير أي شخص) . قد يسأل سائل كيف يزدري (كبير) الأصنام وأنت تدعي أن الهندوسية بدأت بالأصنام وأنتهت بوحدت الوجود، الجواب أن فلسفة وحدة الوجود أقتصرت على طبقات الحكماء والمثقفين والمتعلمين من الهندوس، أما الديانه الشعبيه الهندوسية ففيها خليط من الالهه، وبأشكال وعناوين وطبيعة مختلفة، وهذا الأمر نراه في أكثر الأديان سواء كانت سماوية أو غير سماوية، حيث يلعب المخيال الشعبي والجهل الدور الكبير في نشوء عقائد وتصورات مختلفة عن الديانة الأم ومنها ديننا الأسلامي الحنيف، حيث أن الدين الشعبي قد جاء بالكثير من العقائد التي لا علاقة لها بالأصل.

أن التوحيد السيخي هو تعبير عن أتجاه توفيقي مع ثاني أكبر ديانة في الهند وهو الأسلام، لكن تبقى السيخية تتفق كثيراً مع العقائد الهندوسية الأخرى.

أن التوجه التوحيدي عند أكبر شخصية سيخية وهو نانك واضحاً وشفافاً في أعلان مبادئه التوحيدية عبر ترنيمته الخاصة والتي جاء فيها

((لا اله الا الله الواحد الذي أسمه الحق، الذي يجردنا من الخوف والبهتان.

الخالد، الموجود بذاته، غير المولود، الكريم الجواد، الواحد الحقيقي، كان في البدء الواحد الحقيقي، كان في أول الزمان، الواحد الحقيقي الذي كان، ويكون، وسيكون أبداً يانانك)).

أن هذه النصوص المذكورة أعلاه من قِبل السيخية، هو تعبير عن أتجاه أصلاحي من داخل الديانه الهندوسية، وتكشف عما عانته الهندوسية من ترهل وتآكل في نسيجها الفكري والأجتماعي نتيجه للتغيرات الكثيرة والغير منضبطة الملامح، بالأضافة لنظامها الطبقي الذي مارس أضطهاد قاسي للطبقات التي رُسم لها أن تكون في الدرك الأسفل من السلم الأجتماعي، وكانت السيخيه عبارة عن ثورة في جانب العقيدة الالهيه، وثورة في الجانب الأجتماعي، حيث كانت ضد النظام الطبقي التميزي، والذي أُدلج بطريقة وتفسير ديني هندوسي، والقائم على عقيدة تناسخ الأرواح، وَسَيَران قانون (كارما).

أن نانك قد سمى الاله ب (الأسم الحق) لكي يتجنب أسمه في الأسلام (الله)، وعند الهندوس (راما)، (شيفا)، (براهما)، وقد وصفه بأنه خالد، والحاكم القدير، الظاهر الباطن، الخالق والمدمر واللطيف ... وقدَّر الله بسره الغيبي مصائر كل المخلوقات وجعل الأنسان سيدها لتخدمه كلها، وقد وجدنا في ترنيمة سيخية تجمع فيها الالهه الثلاثة ذات الأصول الهندوسية ويعود بها الى الاله الواحد كأصل لها؛

((مايا الالهة الميثولوجية، نشأت من الواحد، وولد من رحمها ثلاثة تلاميذ مقبولين للواحد براهما، وفيشو، وشيفا،

يُقال ان براهما هو الذي يعطي العالم قوامه وفيشنو هو في حفظ ديمومته، وشيفا المدمر هو من ستعيده اليه ويمتصه، وهو من يضبط أمور الموت والدنيوية، الله يدفعهم للعمل كما يريد هو، هو من يراهم دائماً، وهم لا يرونه أبداً) (موسوعة تاريخ الأديان ج4 فراس السواح).

خلاصة القول في هذا النص السيخي أن الله هو من خلق المايا (القوة الساحرة)،وهو الخالق الحقيقي وليس المايا، أي هناك تركيز على الله، وهو أصل الأشياء.

السيخيه قد نأت بنفسها عن الهندوسية الأم لما رأت فيها من حالة التخبط ، وما أصابها من ضبابيه في مسألة االألوهه، لذى حسمت السيخيه أمرها بوضوح تام نحو التوحيد، وبشفافيه عالية، حيث تنطق أحدى ترانيمهم بنزعة توحيدية واضحة (فأعبدوا الله الواحد لكل الناس، المعلم الالهي الواحد)، وأن من ضمن تعهدات المنضمين الى هذا الدين، هو أن يتعهدوا بعبادة اله غير مرئي، وأن يعظموا الشيء المرئي والمقدس الذي هو كتابهم (الجرانث).

خلاصة القول أن الهندوسية بدأت بتعدد الالهه، ومرت بأنساق مختلفه منها وحدة الوجود، ومنها الأيمان بالروح المطلقه (البرهمان –أتمان) الذي يمثل أصل الأشياء، والذي تتماهى فيه كل الأرواح بأعتباره أصلها، حيث يَدّعون أن العلاقة بين الفرد والبرهمان –أتمان شبيه بتلك التي بين الأنهار والمحيط حيث تختفي فيه، ففي أدبياتهم يقولون (كما الأنهار الجارية تختفي في المحيط) أنه الأتحاد الكامل بين الفرد والنفس العليا، وهو تسليم النفس لحضرة الألوهية، وقد عبرت عنه الأوبانيشاد بعبارة (هذا العالم كله من براهمان)، هذا الأعتقاد هو من جعل البرهمي يدعي أنه الأسمى على الأرض مهما كان مستوى طبقته لأن كل واحد منهم هو جزء من الكينونه الألهية الفائقة العظمة (موسوعة تاريخ الأديان-ج4 فراس السواح)، في حين حسمت السيخيه أمرها بشكل قاطع في مسألة الألوهيه كفرقه منشقه عن الهندوسيه لتعلن أعتقادها الواضح والحاسم بأن هناك اله واحد أزلي (لا اله الا الله الواحد الذي أسمه الحق) كما جاء في أحدى ترنيمات مؤسس السيخيه (نانك).

 

أياد الزهيري.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم