صحيفة المثقف

المصطفى سلام: عندما تتأرجح الرغبة يتأرج الوجود.. قراءة في قصة: الأراجيح

المصطفى سلامتقديم: هناك نصوص قصصية تخلق عند قارئها شهية خاصة، بسبب انتظامها سرديا وبنائها فنيا وغناها دلاليا.. ولعل نص "الاراجيح" [1]هو من طينة تلك النصوص، حيث انبنى سرديا حول تيمة الرغبة في امتلاك الجميل أو السعي إلى حيازته. ومن المتفق عليه، أن الجميل، وبغض النظر عن مجاله أو مادته المتجلي فيهما (طبيعة – ثقافة) عنصر مثير للذات، حيث يدفعها إلى محاولة امتلاكه وتجاوز قسوة الإحساس بالانفصال عنه أو ضياعه. وعندما تملك الذات هذا الموضوع تحرز ما يمثله من قيم ومعاني كامنة فيه. ومن المفارقة أن يكون الإنسان موضوعا جميلا من جهة، ثم ذاتا تسعى إلى امتلاكه من جهة ثانية، وهذا ما تحقق في هذا النص، فكيف ذلك؟

أرجحة الرغبة بين الذات والموضوع:

تنتظم قصة " الاراجيح " للأديبة اسمهان الزعيم حول رغبة رجل ذميم في خطبة امرأة جميلة حسناء وأن تكون زوجة له، لكن بسبب ذمامته وإحساسه حد النفور من شكله أو التقزز من مظهره: " وشعر بوخز عميق يحز في جوفه وهو يغادر السوق متجها إلى قريته المجاورة .... ومرق إلى بيته منكس الرأس ثم ما فتئ أن تسمر أمام المرآة كمومياء.. ثم عرج متلكئا على غرفة نومه واستلقى على فراشه مكروبا محزونا ......" [2] لم يقدم على خطبة تلك المرأة، فخاب مسعاه لكنه استعان بشيخ القبيلة: " فقرر الرجل ان يلجا إلى صديقه ن شيخ القبيلة وهو يعلم ان السلطة تستطيع كل شيء حتى الزواج بالغصب أو بالحيلة " [3] ورغم سلطة الشيخ الرمزية والمادية كان قد انضاف إلى طابور المرفوضين.. وشاءت الأقدار أن التقى الرجل بالمرأة بعد أن تزوجا وأنجب كل منها بكره في مناسبة اجتماعية: " وحصل اللقاء في صدفة غريبة في إحدى مناسبات الزفاف..." [4] وفي هذه المناسبة التقى صبي الرجل الذي كان وسيما وجميلا بصبية المرأة التي كانت ذميمة: " وجمع القدر العجيب طفلة المرأة الحسناء في لعبة الأراجيح " [5] يلهوان في ارجوحة الحديقة دون وعي بما لديهما من حسن أو ذمامة . ولما رأى الرجل ولده يتأرجح مع الصبية " عرج على حين غرة وسقطت عيناه على رفيقة ابنه في اللعب فابعده عنها " [6]، وكان أن شاهدت المرأة بدورها الموقف نفسه وتذكرت رفضها لكثير ممن فيهم ذمامة تقدموا لخطبتها فأحست إحساسا مقيتا بكون سلالتها أصبحت موضوعا مرفوضا ...

أرجحة الرغبة أرجحة السرد:

الإنسان كائن راغب رامز، والرغبة من أهم المحاور التي يتأسس عليها فعل السرد إلى جانب محوري الصراع والتواصل ...و مادامت الرغبة دافعا نفسيا ومحركا وجدانيا يحفز الذات على الفعل ويدفعها نحو موضوع رغبتها بالسعي إلى حيازة ما يمثله من قيم ثمينة، فيخطط لذلك ويضع استراتيجيات مستثمرا ما يصنع أهليته ...و سعي الذات نحو موضوعها قد يكون فعليا واقعيا أو خياليا وهميا عن طريق الاستيهام أو الحلم، على أساس أن الرغبة تقبل التعويض أو الاستبدال خاصة في حالات الفشل . ومن بين أكثر الموضوعات التي اقترنت بالرغبة وشكلت هرمونا تخييليا كونيا المرأة ولا سيما من خلال ما حازته من صفات الجمال والحسن . والذاكرة السردية العربية أو غير العربية تؤكد ذلك وتشهد به، وإذا كان الأمر كذلك فكيف تأرجحت الرغبة نفسيا وسرديا في هذا النص ؟

تأرج الرغبة نحو الجميل:

إن حركة الرغبة نحو الجميل، أي رغبة الرجل في امتلاك وحيازة الجميل كما تمثله المرأة " وخيل إليه وهو يسرق النظر إلى محياها الوضيء أن الربيع قد اينع على وجنتيها واشرقت مقلتاها بحور زادها بهاء فوق البهاء، ممشوقة القوام نافرة النهدين ..." [7] تنبني على ثنائية: الوسامة / الذمامة . الوسامة قيمة لدى المرأة وميزة لها وعلامة على مدى حسنها وجمالها، كانت سببا في بعث الرغبة لدى الرجل الذميم فبدأ يتخيل ويتوهم امتلاكه لهذا الموضوع الجميل . وتنفيذا لتلك الرغبة فكر في خطبتها والاقتران بها لكي يمتلك ما يعنيه جمالها من استمتاع وانتشاء وسعادة . وبهذه الطريقة يكون الرجل قد أشبع رغبته واستجاب لتأثيرها . غير أن ذمامة الرجل وقبح مظهره حال دون ذلك، مما جعل الرغبة تبحث عن مسار جديد وتفكر في بديل ثان . ومثلما تجعل الوسامة الرغبة تتأرجح نحو ما تتجلى فيه (المرأة) كانت الذمامة تنفر الرغبة مما تتمظهر فيه (الرجل ينفر من شكله ومظهره والمرأة تنفر ممن هم على شيء من الذمامة)

تأرجح الرغبة عبر الوساطة:

في التأرجح الثاني للرغبة، والذي يتحدد انطلاقا من تأثير الذمامة في صاحبها أولا وتثبيطها لعزمه، أخذت الرغبة تأرجحا جديدا بغاية تحقيقها، حيث سيستعين هذا الرجل بشيخ القبيلة بعد ان اطمأن إلى ثروته: " الرجل الميسور لا تعيبه الذمامة، وأنا لحكمة بالغة جعلني الله ذميما لكنه عوضني عن الوسامة بالمال الوفير ..."[8]

نلاحظ هنا أن الذمامة ستستعين بالثروة والسلطة من أجل الحصول على الجميل أو لنقل إن القبح تقوى بالمال والثراء ثم بالسلطة من أجل تذليل الصعاب نحو الموضوع الجميل . ورغم ما للسلطة من تأثير على الافراد والجماعات لما تحمله من قيم ومعان فقد فشلت في تدخلها لصالح الذمامة . هنا انهزمت السلطة وفشلت الثروة أمام سلطة الجميل، انهزم شهريار (السلطة والثروة) أما فتنة وغواية شهرزاد (الجمال والحسن والوسامة) . قد تكون السلطة ذميمة في جوهرها وشكلها ما جانبت العدل والانصاف، هي مخيفة ومرهبة، قد تنهب ذاك الجميل وتجهز عليه غصبا أو عنفا . ونفس الأمر قد تحدثه الثروة، لكن تظل للجمال سلطته وهبته وتأثيره في ذاته وفي التمثلات التي تحيط به . الجمال يمنح صاحبه حظوة واعتبارا ضمن شبكة العلاقات الاجتماعية ونسق القيم الثقافية المؤسسة .

تأرجح الرغبة نحو البديل:

في التأرجح الثالث للرغبة سرديا، يمكن أن نرصد مسار تحويل الرغبة عن الموضوع الجميل المثال نحو موضوع أقل منه أو ادنى: " وتفر الأيام وتكر، ويأتي النصيب المقدر للحسناء وقد اختارته طوعا وعشقا، بينما الرجل الذميم يرتبط بفتاة متوسطة الجمال ..." [9] لقد تحققت الرغبة هنا تعويضا من خلال موضوع بديل، لكن جذوتها ستظل مشتعلة . لقد اقترن هذا الرجل بامرأة ثانية وأنجب صبيا وسيما وأنجبت المرأة الحسناء صبية ذميمة . وهنا المفارقة، فمن الذمامة انبثقت وتخلقت الوسامة . أو ما يمكن أن نرمز له بثمار الرغبة: أي أن لا ينجب الذميم قبيحا أو أذم منه، كما لا ينجب الوسيم أوسم منه وأجمل . لأن الأمر مرتبط بهويتهما – الجميل والذميم – الجينية . وهنا لا تتأرجح الرغبة وجوديا فقط بل غيبيا أيضا . أي أن في ماضي الجميل أذم منه وأقبح وبما في ماضي القبيح الأجمل والأوسم .

تأرجح الرغبة بين العفو والعقاب:

في المقطع الأخير من النص، تكاد تتوقف أرجوحة الرغبة، حيث تأرجحت بين ثنائيات مثل: الأمان / الخوف، الرضى / الضجر، العفو / العقاب ...فقد يكون الجمال مصدر رضى واطمئنان وعفو ...كما قد تكون الذمامة مصدر خوف وقلق وعقاب ...فقد اطمأنت المرأة الجميلة على صبيتها الذميمة بأن يكون هذا الصبي الوسيم من نصيبها، بينما ضجر الرجل الذميم عندما شاهد ولده يلهو مع تلك الصبية: وكانت المرأة الحسناء، تنظر إليهما من خلف النوافذ وتبتسم للمشهد البريء العفوي وهي ترسم في مخيالها تفاصيل زفافهما وتخطط لذلك الف تخطيط بيد أنها نسيت أو تناست أن طفلتها على درجة عالية من الذمامة بينما ذاك الطفل على درجة ملفتة من الملاحة . " [10]و في الوجه المقابل للصورة: " وبينما كانت الأرجوحة تطير في المدى بالصبيين عرج على حين غرة الرجل الذميم وسقطت عيناه على رفيقة ابنه في اللعب فشزر بكره شزرا ثم جذبه نحوه بعنف خفي.." [11]

و دينامية الرغبة لم تتوقف عند الأمل في الجميل بالنسبة للمرأة وعند الخوف والضجر بالنسبة للرجل، بل أخذت منحى آخر تمثل في تغيير الموقف تبعا للموقع، غذ أحست المرأة بالدونية لكون صبيتها ذميمة ينفر منها بينما شعر الرجل بالاستعلاء بعد ان انجب صبيا وسيما يطمأن إليه ويرغب فيه .

خاتمة:

هكذا انبنى هذا النص، الأنيق في لغته، المحكم في بنائه، الغني في دلالته، على دينامية الرغبة وتأرجحها، على صيرورتها وسيرورتها فكلما تأرجحت الرغبة تأرجح السرد تبعا للذات في علاقتها بالموضوع (انفصال – اتصال) . كما انبنى هذا النص أيضا على ثنائيات مركزية مثل: الوسامة / الذمامة، الجميل / القبيح، السعادة / الشقاء، الأمل / الألم، الرضى، الضجر ...و ذلك من خلال إخراج سردي للرغبة في الجميل كما تجلى في امرأة حسناء . وما يحمله هدا الموضوع من معاني ودلالات سواء من حيث الممارسة أو التمثل داخل نسق اجتماعي وثقافي عام .

 

إنجاز: الدكتور المصطفى سلام

.............................

[1] - اسمهان الزعيم: لم يكن وحده في الجب . مجموعة قصصية . ط1 . 2019 . ص 143 .

[2] - نفسه: ص 143 .

[3] - نفسه: ص144 .

[4] - نفسه: ص144 .

[5] - نفسه: ص 144 .

[6] - نفسه: ص 145.

[7] - اسمهان الزعيم: لم يكن وحده في الجب . مجموعة قصصية . ص 143 .

[8] - نفسه: ص 143 .

[9] - لم يكن وحده في الجب . مجموعة قصصية . ص 144 .

[10] - نفس المرجع: ص 144 .

[11] -نفس المرجع: ص 145 .

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم