صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: دور أدب الرحلة في الحوار بين الثقافات

يسري عبد الغنييعتبر السفر وفق معظم الأساطير والحكايات جزءاً من المغامرة الإنسانية. وسواء كانت رحلة الإنسان لعمل خيري أو نحو أرض الميعاد (سيدنا إبراهيم وسيدنا موسى)، ليواجه العديد من المحن قبل عودته إلى موطنه الأصلي (أوليس)، ويقطع المسافات طلبا للحكمة من خلال لقاءات متعددة (بوذا) أو يذهب إلى اكتشاف أرض مجهولة (ابن بطوطة، كريستوفر كولومبوس أو ماركو بولو)، فهو في آخر المطاف يغني تصوره للعالم. وقد أضحى السفر في عصرنا الحاضر جزءاً من حياتنا اليومية.

ولعل أبرز نموذج ملموس للحوار بين الثقافات هو أدب الرحلة، ذلك أن الناس انتقلوا على مدى قرون من مكان إلى مكان آخر إما للعمل، أو لطلب العلم، أو للتجارة، أو في مهام دبلوماسية، أو لغاية الترفيه، فكان التفاعل مع أشخاص آخرين من أجناس وثقافات وعقائد مختلفة. وتتخذ هذه التفاعلات أشكالا مختلفة، فتكون عنيفة ومدمرة أو سلمية وودية. ولا نقصد بالعنف هنا الاحتلال أو الغزو بل نعني به تصورا ثقافياً خاطئاً ناجما عن نقص في التواصل بسبب الأفكار المسبقة. وفي الحقيقة فإن الإنسان سيج نفسه بكثير من الحواجز ولم يشيد سوى القليل من جسور التواصل واللقاء. فهل كان ذلك بسبب الخوف؟ أم التفوق؟ أم الكراهية؟ أم إن السبب يكمن في كل هذه الأمور مجتمعة؟ وفي الواقع ليس ثمة إجابة جاهزة لهذه الأسئلة بل ثمة العديد من السيناريوهات...

ويسعى أدب الرحلة، إلى تعزيز التبادل الثقافي في مجال الأدب والترجمة عبر توطيد التعاون متعدد الأطراف الذي يشمل البحث والتحليل في مجال التخطيط والمنشورات والتدريب في مجال الترجمة وتنمية المهارات.

ويمكن تلخيص الأهداف الرئيسة التي يتوخى بلوغها في مجال أدب الرحلة في ما يلي:

- تعزيز الحوار من خلال تشجيع أدب الرحلة وترجمته؛

- تيسير الوصول إلى أعمال أدب الرحلة الأقل شهرة، وخاصة تلك المكتوبة باللغات المستخدمة على نطاق محدود، وتلك الأعمال الأقل حضوراً في الساحة الدولية؛

- تشجيع المزيد من التنوع في الملتقيات الأدبية الدولية ونشر الأعمال الأدبية لفائدة جميع الفئات العمرية؛

- صياغة منهجيات مبتكرة للإبداع الأدبي، وتشجيع الترجمة ودعمها وتدريب مترجمي الأعمال الأدبية العاملين باللغات الأقل استعمالا؛

- تحفيز أنماط التواصل الجديدة متعددة الأطراف، وأشكال التعاون والمشاريع المبتكرة التي تمكن أدب الرحلة من التفاعل مع غيره من الأجناس الفنية، واستكشاف الدور الاجتماعي والسياسي للكتابة؛

- تحفيز النقاش حول القضايا ذات الصلة بالحوار بين الثقافات؛

- إيجاد فرص لتبادل الأفكار ونقل المهارات والمعارف، وتبادل الخبرات والموارد بين المنظمات والمؤسسات من أجل تشجيع الحوار والتواصل بين الثقافات بأفضل السبل الممكنة.

ويمكن لنا القول أن الإنسان قد يقوم في حياته برحلات اختيارية هدفها البحث عن العلم والمعرفة و الفن، أو البحث عن العمل يهيء له ولذويه حياة أفضل، وقد تكون الرحلة إجبارية كأن يذهب إلى العلاج، أو منفيًا أو هاربًا أو لاجئا، أي أنه مذعنا خاضعًا للضرورة .

على كل حال فإن هذه الرحلات الاختيارية أو الإجبارية أنتجت لنا أدبًا غزيرًا مهمًا : أشياء مرئية، وأشياء مسموعة، وأشياء محكية، قد تكون مروية شفاهة أو مكتوبة في صفحات نقرأها، رددها أصحابها عند العودة، فتمكنت من أن تخصب أخيلة القراء، ولكن قد يكون أثرها قد فقد لأمر أو لآخر، فتأتي الأشياء التي حفظت على الورق على أشكال مختلفة، ابتداءً من الملاحظات البسيطة المسطرة بلا أدنى عناية في دفتر صغير وجد ضمن مقتنيات (مونتسكيو) الخاصة إلى قص قصة الرحلة كما فعل (شوتو بريان)، و (مارين)، أو وصف الرحلة وصفًا يوميًا كما فعل (مونتيني)، أو من خلال خطابات كما فعل (دي بروس)، وذلك دون أن ننسى الأهجية الغاضبة مثل (مسكينة بلجيكا!) التي كتبها (بود ليير)، بعد (الرحلة العاطفية) التي كتبها (سيترن)، و(رحلة في إيطاليا) التي كتبها (جوته)، ونذكر أيضًا (رحلة من باريس إلى القدس) التي كتبها (شاتو بريان) .

ووفقًا لذلك أصبحت الرحلات فنًا أدبيًا مشهودًا به تمامًا منذ العصر الرومانسي، حتى عصرنا الحديث، هذا الفن الأدبي الجميل المشوق يبدو الآن قد استنفد، وفي الواقع نحن في حاجة إليه من جديد، ولو في عالم الإنترنيت والأقمار الصناعية والعولمة وتحول العالم إلى قرية كونية صغيرة .

 نقول: إن الدارس للأدب المخصص لهؤلاء الرحالة سوف يلاحظ أنه ليس كثيرًا فحسب، بل إنه يصل إلى حد الزيادة والإفراط، فرنسيون في   إنجلترا، فرنسيون في اسكتلندا، فرنسيون في صقلية الإيطالية، وتقريبًا في كل مكان من العالم الذي نعرفه .

رجال ورجال من مختلف بقاع الدنيا أحبوا العلم والمعرفة، فتتابعوا في صفوف متقاربة أمام لجان مناقشة الرسائل الجامعية، ليس فقط في جامعة السوربون الكبرى ذائعة الشهرة والصيت، ولكن في العديد من الجامعات الأخرى .

ولم يكن (إيتامبل) إذن على خطأ بوقوفه ضد إساءة استغلال هذه الدراسات المصنوعة على حساب أعمال أخرى، والتي توشك أن تكون في سهولة إعداد القوائم والفهارس .

ولكننا لا نستطيع أن نهاجم هذه الدراسات من حيث المبدأ والفكرة، بحجة أنها غالبًا قد تم إجراؤها بواسطة باحثين تنقصهم الدربة أو الدراية إلى درجة كبيرة، إذ توجد في الواقع مؤلفات أساسية في هذا الميدان تصل إلى الحديث عن (المبادلات الأدبية بين الأمم)، وعلم نفس الشعوب، و تكوين الأساطير، وتجديد فكرة كاتب، أو تجديد قوى الأفكار وفاعليتها في أدب ما .

ونذكر هنا كأمثلة: مؤلفات (ج . كوهين) عن الفرنسيين في هولندا، ومؤلفات (ج . ماري . كاريه) عن الفرنسيين في مصر، وعن (ميشليه) في إيطاليا، ومؤلف (ج . أرهارد) الذي تابع فيه (مونتسكيو) في إيطاليا.

ومع الشرق، الأدنى والأقصى، توجد علاقات للغرب منذ أزمنة موغلة في القدم : يكفي أن نذكر حملة الأسكندر المقدوني، تكوين فن إغريقي بوذي، الحروب الصليبية وأثرها، الاهتمام الذي أولاه الباحثون لشخصية القسيس / جان الأسطورية، وطريق تجارة الحرير، ورحلة (ماركو بولو) وكتابه (استيلاء الترك على القسطنطينية)، وطردهم حملة الثقافة الهيلينية إلى إيطاليا .

ونذكر (فرانسوا كسافير) ورحلته وحديثه عن الهند، تلك التي ستدخل عالم الشعر العظيم بظهور ملحمة (لونراد) للشاعر البرتغالي (كامونيس)، وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر تروض أوربا الغربية نفسها على معرفة الإسلام بطريقة علمية، ثم تعقبه بمعرفة الهند والصين، اللتين ستدخلان بمزيد من القوة في القرون التالية.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم