صحيفة المثقف

يي يون لي: التذكار

2645 Main Yiyun Liبقلم: يي يون لي

ترجمة: صالح الرزوق


 

لاحظ الرجل الفتاة، أولا، وهي تتحرك بحذر من أمام متجر إلى الذي يليه، دون أن تأخذ ولو نظرة واحدة من نوافذ المعروضات. كانت ترتدي ثوبا أبيض، هو أقرب لمئزر، عليه نقوش نباتات وردية وبنفسجية، وذراعاها وكاحلاها الظاهران يضفيان عليها مظهرا بريئا يناسب صغار السن. كانت نحيلة وناعمة. وراقبها الرجل وهي تتخطى مقعده على الرصيف فوقف مباشرة. قال في ذهنه: أنت تذكرينني بزوجتي حينما كانت بعمرك. وارتطمت عصاه بحقيبتين على الأرض، تعودان لطالبين من الجامعة كانا بجواره على المقعد. نظرا إليه دون رضا قبل متابعة حوارهما الودي، وكانت شفتا الصبي تمسان صيوان أذن الفتاة. وحينما احتل المقعد المجاور لهما قبل دقائق، أبديا استياءهما من تطفله. لكنه لم يفكر بالمغادرة، فلديه كل الحق بالمقعد مثل هذين الشابين.

قال للفتاة الصغيرة: أنت تذكرينني بزوجتي حينما كانت بعمرك. وهذه ليست أول مرة يدخل بها في كلام مع امرأة صغيرة مثلها. ولكنه كان يعنيها تماما أكثر من المرات السابقة. فالطريقة التي ناورت بها في هذا الوقت المتأخر من المساء على طول الشارع - متنبهة، كما لو أنها تعتقد أنه يمكن لأي إنسان أو أي شيء أن يدهسها دون حتى أن ينتبه أنها موجودة -  وهكذا تذكر زوجته ليس وهي بعمر امرأة شابة حينما لاقاها لأول مرة ولكن أيضا وهي امرأة مسنة بعد مرور عدة سنوات قليلة على قرانهما. فقد كان يستغلها الأغراب  ويتخطون دورها بالطابور، وكان الزملاء يحصلون على ترقية هي من نصيبها أساسا، ثم تبع ذلك ثلاث إجهاضات، وورم في الكبد.

أضاف الرجل يقول: لكنها توفيت في النهاية قبل ستة شهور. ولم يكن لدينا أولاد.

نظرت البنت للرجل المسن، لم تقتنع أنه أرمل يغلبه الحزن. فهذه ليست أول مرة تتعرف فيها على رجال مسنين يدعون أنها تذكرهم بزوجات ميتات وبالحب الأول. لم تكن جافة مع أحد. حتى مع أستاذ الفيزياء الذي يقتنص كل الفرص الممكنة لملامسة أذرع وظهور طالباته، لم تطرف جفناها وتجفل كالبقيات. فاحتكاكات يديه لم تلحق بها الضرر، ولم تفاقم من معاناتها.

قال الرجل: هل جربت شاي الأقحوان؟. وأشار لما تعرضه نافذة الصيدلية حيث وقفت الفتاة. اعتادت زوجتي أن تقول إنه يعين على التخلص من السموم من نظام أي إنسان. تنهدت الفتاة بصوت ملحوظ. ستعلم كل صغيرة وكبيرة عن زوجته إن لم توقفه عند حده. وهي لا تعترض على إخبارها بذلك أو على مقارنتها بامرأة ميتة، ولكن عليها أن تعتني بحبيبها في هذه الأمسية بالذات. أومأت للرجل وتوجهت لباب الصيدلية، متمنية أن يغادر ويهتم بغيرها من بنات الشارع.

لكن الرجل تبعها إلى المتجر. كانت أضواء النيون تضيء المكان من السقف ومن تحت زجاج طاولات البيع. كانت هناك امرأتان بأواسط العمر، إحداهما تجلس وراء صندوق النقود والأخرى وراء منصة المعروضات بالجهة المقابلة من المتجر، وكانتا تتبادلان المعلومات عن عادات زوجيهما السيئة، وهما تشجعان وتوافقان بعضهما البعض كما لو أنهما تلعبان لعبة بينغ بونغ ألسنية. وكانت زبونة أخرى تصغي وتتأمل زوجا من الأقراط، لكنها انصرفت دون أن تشتري. وفكر الرجل بذهنه: يا لها من أمسية أخرى طويلة.

انتقلت الفتاة من طاولة لطاولة، وأبدت الاهتمام ببضائع مختلفة. لم تكن تعرف كيف توقف الرجل عن متابعتها، فهو لديه الحق بالوقوف في نفس المتجر الذي دخلت إليه، ولكن سريعا سيحل الليل وستغلق المرأة المخزن دون أن تسألها عن احتياجاتها. نظرت الفتاة للساعة المعلقة على الجدار ودب الذعر في قلبها. كل شيء كما خططت له، فالصيدلية ستفرغ من العيون المتلصصة في آخر عشر دقائق قبل الإغلاق وستتجنب الإحراج. ولم تشاهد توتر الرجل الوحيد.

قال الرجل للفتاة: هناك منصة لبيع الوانتون (*حساء خضار وسمك) على الرصيف المقابل وسأشتري لك طبقا منه. لا بد أن زوجته تحب حساء وانتون، وربما هي تجيد طهوه لأجله. فكرت الفتاة أنها كبرت بالعمر. ولم يتبق لديها عزاء تتمسك به. كانت بعمر اثنتين وعشرين سنة ووجدت أنه من الصعب عليها أن تتأقلم مع الأشياء التافهة المتوفرة في حياتها. في آخر عامين شاهدت أحداثا جسيمة لم تحسن الاستعداد لها، مثل الاحتجاجات التي تسببت بسيول من الدماء،ثم الاعتقال والتحقيق. ولا يمكن النظر لهذه المأساة على أنها حادث مؤسف شخصي ما لم تكن حينها متورطة بغرام شاب أبدى بطولة فائقة خلال الاضطرابات- ولم تكن وحدها من أعجب بجسارته أمام كاميرات الصحافيين الغربيين، ولكن بعد سنتين هي الوحيدة التي زارت شقة أبويه وشاركته السهر كل ليلة. لكن عليك أن لا ترفعي من سقف آمالك، هكذا قالت لها منذ البداية، غير أن الفتاة لم تكن مقتنعة أن التحقيق يمكنه إلحاق الهزيمة بروحه التي شاهدتها في الساحة. وقد ذهبت إلى منزل أبويه وتوسلت لهما أن يسمحا لها برؤيته. وأخيرا قبلوا وجودها بينهم. وأخبراها أن هذا الابن، المتهم رسميا بالجنون، لن يسمح له بالحصول على إذن للزواج.

ردت وأخبرت والديها أيضا: الزواج لمن لا يزال مؤمنا بالضرورة. وذهبت لتجالس الولد وتصغي لمونولوجاته الطويلة عن التاريخ والفلسفة وأذى الكائن البشري. ولاحظت تكرارا في ذلك لكنها لم تنبهه، ولم تسأله ماذا يرى في حضورها بجانبه في غرفة نومه. ربما اندمجت مع الأثاث، ولكن قطعة أثاث جيد قد تنقذ حياة إنسان من الهلاك بمعجزة. لمس وجهها وذراعيها أحيانا، بذهن شارد، كما لو أنه إنسان يفكر ويربت على هرة. وقد تركت لطافة يديه لديها الأمل بشفائه. عموما هو لم يكن يلقى المعاملة اللائقة خلال شهرين في المعتقل.  

قال الرجل المسن باندفاع غير مقصود: أدعوك لطبق حساء وانتون فقط. فقد أخجله رفض الفتاة الهادئ لعرضه. كانت زوجته تبتسم وتشكره لأنها تعلم أن الدعوة بلا نوايا خبيثة. وإذا كانت غير جاهزة لمشاركته، ترد بعذر قوي عوضا عن أن تتركه يقف وسط الشارع مثل أحمق. قال للفتاة: العالم ليس شريرا كما تحسبين. النساء اليافعات في هذه الأيام تعاملنه كأنه مسن وعديم المشاعر على شاكلة شجرة أوشكت على الهلاك. ولكنه لم يكن يحتمل أن يرى هذه الفتاة، الذي ذكرته بزوجته الراحلة للعالم الآخر، وكأنها مثل البقية. 

نظرت البنت للرجل. لم تضطرب من تصرفه المفاجئ. إنما لم يكن عليها أن تكون مسؤولة عن مشاعره، في نهاية المطاف، حتى لو أنه لم يخترع خبر زوجته.

اقتربت الفتاة من آلة النقود، وهناك وجدت في علبة زجاجية مغلقة أكياسا من الواقيات الذكرية. نظرت البنت  للصور المطبوعة على الأكياس والتي تمثل أجانب من الذكور والإناث وكانوا بشعر أشقر ونصف عراة. قالت: أريد واحدة من هذه يا رفيقة. وتمنت لو أنها لاحظت الرعشة التي انتابت صوتها.

قالت المرأة الواقفة خلف آلة النقود: هذه؟ نحن لا نبيع هنا “هذه”.

قالت البنت: أقصد الواقيات الذكرية.

أيها؟.

تلك الحزمة الوردية.

قالت المرأة: أي مقاس؟. فهي تأتي بثلاث مقاسات.

وضحكت المرأة الأخرى بصوت مسموع ملأ كل المتجر.

قالت البنت: المتوسط.

هل أنت متأكدة؟.

راقب الرجل بخجل وجه البنت ورقبتها المحروقة. وفكر: يا لها من امرأة صغيرة، وليس لديها ما يكفي من الخبرة لتعلم أن كل المتزوجين الذين لديهم عمل لائق يتلقون واقيات ذكرية شهريا ويوزعها مسؤول تحديد النسل في مقرات العمل. وتمنى لو تتحلى المرأتان باللياقة ولا تبيعان الواقيات الذكرية للبنت، وأراد أن ينبه بضرورة طلب وثيقة زواجها، ولكن قبل أن يفتح فمه، طلبت المرأة منها السعر المسجل ثم ألقت بالحزمة لها. فانزلقت على زجاج الطاولة ثم سقطت على الأرض.

قال الرجل: أيتها الشابة. هل تعلمين ماذا تفعلين بالضبط؟.

لاحظت الفتاة الرجل وهو يدوس بقدمه على صورة الزوجين العاريين. وقالت: من فضلك يا سيدي. لقد دفعت لقاء ذلك. وهي لي.

وفكر الرجل: إنها ليست مثل زوجتي. وتذكر أنه نفدت في أحد الشهور حصته من الواقيات الذكرية التي تلقاها من العمل، وتوسل لزوجته أن تطلب المزيد من ضابط تحديد النسل في وظيفتها، ولكنها صاحت قائلة إنها تفضل أن تموت على أن تطلبها من رجل. وفكر الرجل: وهو الآن مستعد للموت ليستعيدها مجددا، ولكن ما الفائدة من التمني؟. فالعناية الإلهية تركته بعدها، لأنه لو مات قبلها سيخدعها يوميا أناس من نوع النسوة الواقفات خلف طاولة البيع هنا.

قالت الفتاة: من فضلك الوقت تأخر.

لو أنها شخص آخر لاستعملت صوتا آمرا وطالبت الرجل بإعادة ما لها بقوة القانون، ولالتفتت للمرأتين الاثنتين، اللتين تستمتعان بالمشهد الذي ختم نهاية النوبة اليوم، ونبهتهن أن لا تتباهين بأنفسهن، لأنهن، في النهاية، مسنات ومتعبات وليس فيهن ما يثير الرغبة. والمرأتان ستصبان اللعنة على طيشها، وربما تحاولان التخلص منها دون أي اهتمام بكلماتها اللاسعة، وستمضيان بقية يومهما حانقتين ولن تتمكنا من هضم وجبة اليوم، وسيتحول الطعام إلى صخرة في معدتيهما حيث استقرت كلماتها السامة، وستنصرف بمتعة الانتصار، ولكن الحقيقة إنها ليست كذلك. إنها بنت جاءت لتشتري الواقيات الذكرية لأنها خططت أن تهب نفسها للصبي الذي تحبه. ومع أنها من النوع الذي لا يغشه كلام الأولاد، ومقتنعة أن حبها سيحميها ويغير من طباع حبيبها.

أبعد الكهل قدمه. كان بإمكانه أن يتابع إحراج البنت لكنه متعب. وربما من الأفضل أنه لم ينجب الأولاد. لا بد أن ينفطر قلب زوجته لو أن ابنتهما كانت مثل هذه التي أمامه.

انحنت البنت لتلتقط الواقيات الذكرية، وخطفت العلبة بقبضتها. في أحد الأيام حينما تتقدم بالعمر، ستعرض العلبة الزهرية أمام أولادها، فهي تذكار من أيام الصبا والتفاؤل. ولاحظت رعشة يدي الرجل المسن، كان على مبعدة ذراع فقط عنها، وانتبهت أن المرأتين تراقبان المشهد بسخرية، من مكانهما وراء طاولة المبيع. وتساءلت هل تفهمان مغزى الحب، وهل تقعان بالغرام رغم لأنه يفتك بالبشر.

***

........................

يي يون لي Yiyun Li - كاتبة صينية من بكين. تلقت تعليمها في ورشة الكتابة في أيوا. وحازت على جائزة فرانك أوكونور للقصة وجائزة همنغواي / فوكنر. وتعمل بالتدريس في جامعة كاليفورنيا - دافيز. من أهم مؤلفاتها رواية “ألف عام من الصلوات الخاشعة”. ورواية “المتشردون”. 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم