صحيفة المثقف

محمود محمد علي: الحس الموسيقي عند فؤاد زكريا

محمود محمد عليبين ضجيج السائد من الأفكار وصخب جوقة الأغنيات، تبدو الموسيقى الآلية مفردة نخبوية لا تستسيغها الذائقة الفنية للفكر العربي الجمعي، ربما بسبب ارتباط العاطفة العربية بالنص المكتوب والشعر، وعدم اهتمام الموسيقيين العرب بالتأليف الموسيقي الآلي، وإن كانت بعض محاولات عمد الموسيقى العربية قد حققت نجاحا مهما من المفترض أنه قد أفسح الجال لأسلافهم لاتخاذ خطوة؛ كذلك فإن الذوق العام يميل دائم إلي المباشرة في الطرح بعيدا عن التعقيد فالموسيقى تُمَثِّل انعكاس الفكر المركب الذي يخلق بالضرورة عاطفة متطورة ترى الأشياء بشكل مختلف بعيداً عن أي تأويلات مسبقة، وهذا ما يستبني في السيمفونية الخامسة للعظيم بيتهوفن، عندما استطاع أن يلملم أجزاء الحكاية ليثير انفعالات مدهشة تتراقص داخل النفس، وليرسم صوراً مكتملة العناصر. لقد قولب بيتهوفن الموسيقى في إطار فلسفي مُثير يفقد المرء شعوره بالتوازن، كأنه يقرأ رواية لجوته أو يستمتع بقصيدة جلون كيتس (1).

ولما كان ليس بوسعنا أن تضمن هذه المحاولة المتعلقة بمقاربة علاقة الفلسفة بالموسيقا قدراً من الطرافة، وبعضاً من الجدة، إلا إذا ما قلبنا النظر فيها على غير الوجه الذي تواترت به في تاريخ الفلسفة، حيث الاستغراق الفلسفي لهذا الضرب من الفن ضمن الأفق الأستاطيقي أين يتنزل موضوعاً للجماليات، شأنه في ذلك شأن غيره من الفنون، سعياً إلي الإطاحة بمعقوليته الجمالية، وذلك من جهة اضطلاعه بتجسد الحقيقة كما حددت الفلسفة معالمها وشروط إمكانها قبلياً، ولا يتسنى لنا ذلك، إلا لمعاينة الطابع الحدثي لهذه العلاقة، حيث يكف فن الموسيقا، بمقتضى ذلك، عن أن يكون مجرد مجال من المجالات الممكنة للانشغال الفلسفي ليصبح نَمُوذَجًا يؤسس شروط إمكان التفلسف علي نحو آخر، وبذلك تكون علاقة فن الموسيقا بالفلسفة، فى تقدير بعض الباحثين، حدثا بالمعني الذي نشهد فيه قطيعة فكرية، وانعطافاً تاريخياً (2).

وقد كان أستاذنا الدكتور "فؤاد زكريا" نموذجاً للمفكر العربي الذي استطاع مزج الفلسفة بالموسيقي في اسلوب حداثي، وذلك من خلال ثلاثة كتب مهمة له فى الموسيقى؛ الأول صدر فى سلسلة المكتبة الثقافية سنة 1971 ميلادية عنوانه «التعبير الموسيقى»، والثاني «ريتشارد فاجنر» وقد صدر فى السلسلة نفسها، والثالث عنوانه «مع الموسيقى: ذكريات ودراسات»، وقد صدرت طبعته الأولى سنة 2000 ميلادية، كما ترجم إلى العربية كتاب «الفيلسوف وفن الموسيقى» لجوليوس بورنوي؛ ففي هذه الكتب كشف لنا أستاذنا فؤاد زكريا علي ليس أستاذا أكاديميا هاويا في عشق الموسيقى، بل كان محترفا في خصوصية الصلة بين الموسيقا والفلسفة .

علاوة علي أن فؤاد زكريا (مع حفظ الألقاب) ينتمي إلى فئة من المفكرين يثيرون في النفس إعجابا ممزوجاً بالحسد؛ فهم مقربون من الموسيقي: يتقنون لغتها التي أجهلها وينالون من عطاياها – وهي –كثيرة – ما تضن به على . ومن هؤلاء السعداء فلاسفة سير إليهم أستاذنا فؤاد زكريا، مثل: فيثاغورث، أفلاطون، وشوبنهور، وللموسيقى كما يقول فؤاد زكريا مكانه خاصة أدى المفكرين والفلاسفة؛ من أمثال: نيتشه الذي كان (يجيد العزف علي البيانو، وله مؤلفات موسيقية )، وأبو نصر الفارابي الذي يقال أنه كان (موسيقيا ماهراً،وله عدة مؤلفات في الموسيقى)، وتيدور أدرنو في القرن العشرين (درس الموسيقي دراسة تخصص وله فيها كتابات نظرية مهمة) (3) .

وكان فؤاد زكريا يرى أن لدينا موسيقى ناقصة، منفردة وليست متعددة الأصوات، وأغلبها مصاحب للكلام المغنَّى، حيث ليس لدينا الموسيقى البحتة أو المجردة أو الخالصة مثل الموسيقى العالمية، والتي- مع الأسف- ليست جزءا أصيلا من ثقافتنا، وعلينا أن نبحث كيفية تطوير موسيقانا، التي لن تتقدم إذا لم يتقدم المستمعون إليها، ويتغير ذوقهم، وطريقة تلقيهم لها، وللثقافة بشكل عام (4) .

لقد شكّل اهتمام فؤاد زكريا بالموسيقى واحداً من محاور تكوينه الشخصي والفكري. فهو لم يكن مفكراً أو كاتباً أو قارئاً متذوقاً للفلسفة فحسب، وإنما كتب أيضا عن علم الآثار الموسيقية وعن الموسيقى الشعبية (5)؛ وأتصور أن أفلاطون كفيلسوف كبير قد أثر في فؤاد زكريا، وكان سبباً لاهتمامه بالموسيقى، حيث كان يستشهد أستاذنا فؤاد زكريا بقول أفلاطون القائل: "الموسيقى هي القانون الأخلاقي، تعطى الكون روحًا، وتعطى العقل أجنحة، وتجعلك تحلق برحلة إلى الخيال، إنها تمنح الحياة لكل شئ".. كما كان يستشهد أيضاً بقوله:" "عندما تترك الكلمات تبدأ الموسيقى. الحقيقة هي العنصر الأكثر أهمية بكل ما تفعله فى الموسيقى. الموسيقى هي الفن، وحالماً تصبح فناناً عليك أن تتعلم كيف تتقبل النقد. لو لم أكن فيزيائيا من المحتمل أن أصبح موسيقيا.. غالباً ما أفكر بالموسيقى.. أحلام اليقظة لدىّ موسيقى وأنظر إلى حياتي بدلالة الموسيقى، أجمل أوقاتي هي تلك التي أقضيها بالعزف على الكمان. يجب أن تشعل الموسيقى النار في قلوب الرجال وتجعل عيون النساء تدمع. مثل الموسيقى والفن.. حب الطبيعة هي لغة مشتركة يمكن أن تتجاوز الحدود السياسية أو الاجتماعية" (6) .

وكان فؤاد زكريا يعتبر أن وجوده في نيويورك لفترة، منذ عام 1950 وحتى عام 1962، أهم وأخصب فترات حياته، ويذكر العديد من أعلام الموسيقى الأميركية؛ كتب فؤاد زكريا رأيه بوضوح في الموسيقى الشرقية ورموزها الكبار في القرن الماضي، أمثال: زكريا أحمد، محمد القصبجي، رياض السنباطي. كما أشار إلى تجربة الموسيقار محمد عبد الوهاب إذ وعلى الرغم من اقتباساته من الموسيقى الغربية، اعتبره المجدد الأساسي في الموسيقى الشرقية (7) .

وإذا كان أستاذنا فؤاد زكريا قد قال:"ليسَ لَدَيْنا في الشرقِ فنٌّ موسيقى بالمَعْنى اَلصَّحِيح! "..، إلا أنه لا يُمكِنُ للدكتور "فؤاد زكريا" — وهو الفيلسوف الْمُفَكِّر- أنْ يَنْعزلَ عن مجتمعِه؛ فهو الذي يُناقشُ مشاكِلَه، وَيُحَلِّل حاضرَه، ويَسعى لخَلْقِ مستقبلٍ أفضلَ له، ولا ينسى ضِمْنَ ذلكَ كُلّه ولَعَهُ بالموسيقى؛ خاصَّةً حينَما تكونُ جزءًا من مشروعِه الفكري، فيَطرَحُ سؤالَ الحداثةِ والأصالة، وكيف أنَّ الموسيقى الشرقيةَ قد أفْلسَت وَتَخَلَّفْت عن الموسيقى الغربيَّة. وعلي الرغمِ من حاجةِ الموسيقى إلى التطويرِ، فَإِنَّ حالةً مِنَ الجدلِ ما زالَتْ قائمةً بينَنا في الشرقِ حولَ العلاقةِ بينَ اَلْفَنّ وغايتِه، وَهَلْ للفنانِ مُطلَقُ الحريةِ في إبداعِه، أمْ أَنَّهُ خاضِعٌ لأهدافٍ اِجْتِمَاعِيَّة؟

وهنا نجد فؤاد زكريا يتحدث مقرراً أن الموسيقى الشرقية لم تصل بعد إلى حد الاكتفاء الذاتي، فـ"لازالت فنا للأغاني"، وهو طور “تجاوزته الموسيقى الغربية منذ أربعة قرون"، أما الدلالة التي يستخرجها زكريا، فهي أن الموسيقى الشرقية بذلك لا تستمد المعنى من ذاتها بل من الكلمات، لتخلو الموسيقى نفسها من أي معنى (8) .

يأبى صاحب “التفكير العلمي” المغرم بالموسيقى الغربية أن تتمايز نظيرتها الشرقية بأية ميزة، فهو يرفض أن يكون تعدد السلالم في الثانية موضع تفاخر على الأولى، بما أنها لا تضم غير سلمين رئيسيين: الكبير والصغير، فالعبرة لديه بالمقطوعات المؤلفة لا بكثرة السلالم، التي هي برأيه في مقام حروف أي لغة، لا يعني تعددها وكتابتها بخط جميل تفوق آدابها على آداب اللغات الأخرى (9).

ويرى الدكتور فؤاد أن الإيقاع الشرقي "ظاهر صريح" بينما الغربي “ضمني باطن”، أما لماذا اعتبر فيلسوفنا صفة البروز أو بتعبيره "استقلال الإيقاع الشرقي بمعنى ما عن اللحن" (وإن تماهى معه) نقصا؟

لأن تطور الموسيقى بصفة عامة انطلق من تسيد الإيقاع، كما في الموسيقى الإفريقية البدائية، بل كان منها ما هو إيقاع صرف، ثم تطورت الموسيقى نحو مزيد من إدماج الإيقاع ضمن بقية العناصر الموسيقية، مثلما هو عليه الحال في الموسيقى الغربية، حيث لا يحتاج الموسيقار للتنبيه إلى الإيقاع، ومعظم الضربات الإيقاعية تكون خافتة، لا تستطيع الأذن تمييزها بسهولة، لـ" تُترك مهمة الكشف عن الوزن الإيقاعي إلى الحن ذاته في مساراته وانعطافاته" (10)... فتحية طيبة لأستاذنا فؤاد زكريا الغائب الحاضر..

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.......................

1- خليل الحاسي: الموسيقى بين التجريد وعمق الفلسفة، مجلة تفكر، جامعة بنغازي، العدد الأول، 2015، ص 12.

2-المنصف لوسلاتي: الفلسفى والموسيقى، يتفكرون، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، العدد التاسع، 2016، ص218.

3- عبدالرشيد الصادق محمودي: فؤاد زكريا وحب الموسيقى، أوراق فلسفية، أوراق فلسفية، العدد 30، 2010، ص 93.

4-لوتس عبد الكريم: فؤاد زكريا الفيلسوف حين يذهب إلى الموسيقى (2) .. مقال منسور بالمصري اليوم بتاريخ الخميس 22-12-2016 21:22.

5-عبدالإله عبد القادر: الموسيقي فؤاد زكريا، صحيفة البيان، وقد نشر في 24 أبريل 2015.

6- لوتس عبد الكريم: المرجع نفسه، ص 219.

7- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

8- محمد السيد الطناوي وأحمد بيكا: فؤاد زكريا.. موسيقي لم يكتشفه أحد، مقال منشور بتاريخ سبتمبر 2, 2020.

9- المرجع نفسه.

10- المرجع نفسه.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم