صحيفة المثقف

علي محمد اليوسف: البوذية الصوفية والهام الطبيعة

علي محمد اليوسفتمهيد: ما يعرف كمسلمة يتبناها العلمانيون أن الاديان خاصة المذاهب الصوفية المنبثقة عنها تقوم على ركيزة إعدام حياة الارض بالزهد في ملذاتها وإطفاء رغائب النفس البيولوجية والغريزية من اجل حياة ثواب وحساب أخرى تعقب حياة الموت والفناء الارضي. لكن الشيء الغريب أن ليس جميع الاديان اليوم التي تعيش فوق كوكب الارض من غير العلمانيين يؤمنون بهذا التصور. "اذ تعتمد الديانة البوذية مثلا بالمعرفة الحدسية دونما الغاء أو محاولة الاصطراع مع إعتماد المعرفة العقلية التي قامت عليها نهضة اليابان العصرية"1 . علما أن البوذية ديانة وثنية غير توحيدية.

اليابانيون اليوم يحق لهم دينيا الجمع بين مذهبي البوذية والشنتوية معا. بمعنى لا غرابة ولا حرج أن يكون البوذي شنتويا يؤمن بالهية الامبراطور الياباني بنفس وقت هو بوذي يؤمن بإلهية بوذا. لكنما الشيء الغريب حقا أن الشعب الياباني اليوم نسبة 70 بالمئة من مجموعه هم لا دينيون ولا يؤمنون بالدين يصنع الحياة العملانية التي يحتاجها الشعب الياباني غير المتدّين الذي يجد إهدار الوقت بطقوس التديّن مضيعة وقت بناء الحياة ومتطلباتها السيرورية الدائمية في تامين الاحتياجات التي لا تتوقف في مسابقتها الزمن.

البوذية أول ظهورها كان في الهند هاجرت بعدها للصين ومن هناك عبرت الكوريتين – التي كانت موحدة -  لتستقر في اليابان. مثل باقي الاديان عالميا البوذية إنبثق عنها مذهب تصوفي يسمى "الزن " وهي الاهم والاكثر شهرة في ميدان التصوف البوذي، وتتقاطع صوفية الزن جوهريا مع كل من التصوف الاسلامي ومع التصوف المسيحي الغربي. وتعتمد البوذية اللغتين السنسكريتية (اصلها هندي) والباليّة "التي هي لغة الاسفار البوذية المقدسة الابنشاد "2.

أهم ملامح إختلاف صوفية "الزن" البوذية عن غيرها من المذاهب الصوفية في غيرها من الاديان يمكن تاشير بعضها  بالتالي:

- البوذية كديانة وثنية تحتوي صوفية الزن هي ديانة مسالمة منكفئة على نفسها يمكنها التعايش مع غيرها من مذاهب دينية بسلام وإنعزال. ولا تكن هي البادئة في إستعمال القوة والعنف في الدفاع عن نفسها. ولا تكون البادئة في إختلاق القضايا الخلافية الدينية التي تصل حد الإحتراب مع غيرها. ولها مواقف عدائية من الاقليات المسلمة بدوافع سياسية خارجية مرسومة لها وليست دينية خاصة بها في الصين والفلبين وغيرهما. والبوذيون من سكان التيبت في الصين مارسوا هذه العنصرية ضد الاقلية المسلمة وحصل مثل ذلك في الفيلبين وغيرها.

- صوفية الزن والابنشاد تقاطع بالصميم نزعة الحلول العرفاني في الوصول حافات وتخوم أطراف الاله الخالق كما تنشده الصوفية الاسلامية والمسيحية. صوفية الزن بمقدار ما هي نزعة تمجد النزعة الروحانية الى حد ما يعرف الوصول مرحلة النرفانا التي هي بالمعنى البايولوجي إنطفاء الروح وخمود النفس في التلاشي اللانفسي . حيث لا يعد يبقى بعدها لدى الصوفي البوذي علاقة حسّية ولا غير حسيّة تربطه بالعالم الخارجي الذي نعيشه.

إلا أن هذا الانطفاء النفسي المتحقق صوفيا لا تكون محصلته الانجذاب الاتصالي اللاشعوري بأي شكل أو محتوى من الحلول أو الاندماج مع الاله بوذا. البوذية تؤمن بفناء الانسان الارضي فناءا تاما لا رجعة ولا حياة تعقبه تليه في الانبعاث ثانية. فهي ملحدة في نكرانها إله السماء لكنها مؤمنة على صعيد الارض في تأليه معبودها بوذا.

- المفارقة الغريبة بقدر تحرر النفس في صوفية الزن البوذية من كل روابطها بالعالم الخارجي المادي ونزعاتها الغريزية الدنيوية إلا أنها لا تؤمن بالحلول الصوفي حتى بالاله المعبود الارضي بوذا علما أن مجانسة الماهية النوعية الجامعة بين العابد والمعبود في البوذية تسمح بهذا التمرير.

- الصوفية البوذية تصل بالنرفانا مرحلة وذروة الانجذاب الروحي في الوصول الى إماتة وإعدام النفس (ذاتيا) عن وعي قصدي فيما يطلق عليه إنطفاء الروح أو النفس لا من أجل حياة أخرى يجري فيها البعث والحساب والعقاب بل من أجل الوصول بالنفس والجسد مرحلة التطهير الذاتي من كل الشرور وبلوغ الصفاء النفسي المتعالي على الحياة في إنطفاء وجودها في الحاضر و في المستقبل بعد الفناء النفسي البوذي.

-  الفرق الآخر البوذية الدينية لا تؤمن كما في بقية الاديان الابراهيمية في معجزات خوارق الطبيعة التي جرت على أيدي الرسل والانبياء. وبوذا نفسه الاله المعبود لا يجترح المعجزات التي تخرق قوانين الطبيعة. وتعاليمه الدينية تتمحور حول مركزية السلوك الانساني بحب الخير يعم الحياة ونشر قيم المحبة والسلام. لكن هذه التعاليم البوذية تجعل من العلاقة الانفرادية مع الخالق هي أسمى من العلاقة التي تربط الفرد بالاخر. لذا يكون تغييب عملانية الاصلاح في نشر قيم الخير والمحبة مكبّلة بمحبّة المعبود بخالقه في إنفرادية الانصراف عن هموم المجموع الى الاهتمام بخلاص نفسه بقواه الذاتية تلبية لتوصية بوذا " إبحث عن خلاصك بنفسك "..

- على خلاف الصوفية البوذية مع صوفية الاديان التوحيدية فالزن الطريقة الصوفية تعدم لغة التجربة الصوفية بالكلمات الصوتية الناطقة ويتم ذلك بالصمت المتواري خلفه التفكير المادي ليحل محله التفكير المتعالي روحيا في التجربة ما فوق إحساسات الوجود بالعالم الخارجي ولجم نزعات الاحاسيس التي تصدرها أجهزة الجسم الداخلية وما تحتويه من رغائب مادية وغريزية يلجمها البوذي في طقس العبادة المتناغمة فيها أحاسيس النفس بحركات الجسم اليوغا في تدريب تسامي الروح فوق رغائب الجسد.

في حين نجد التجربة الصوفية في الاديان التوحيدية تعمد في وعي قصدي مسبق إعدام الافصاح اللغوي التعبيري عن وصف التجربة الصوفية لئلا تفقد ألقها الروحاني الشخصي عندما تكون لغة التجربة الصوفية الانفرادية متداولة على ألسنة الجميع عندها لا تبقى قدسية للتجربة الصوفية تحمل فرادة روحانية يؤخذ بها.. هنا نجد إعدام لغة التعبير الافصاحي عن التجربة الصوفية ليست خاصية مذهب تصوفي ديني معيّن بل يشمل الجميع لكن الفرق في إعدام اللغة يتوقف على (نوع) التجربة الصوفية ونوع الدين المنبثقة عنه.

- البوذية الصوفية تتسم بحركات جسمانية روحانية مثل (اليوغا) لا تشابهها الحركات البسيطة التي يمارسها الشخص المتدين أثناء الصلاة في طقوس الاديان الابراهيمية التي تكون حركات الجسم فيها حسيّة انشادية. في جميع الاديان يتخلل الطقس التعبدي المقدس حركات جسمانية معينة معبّرة عن تناغم روحي جسمي ترافق اقامة الطقوس والشعائر الدينية. وحركات الجسم في الطقوس الدينية هي لغة تعبّد أو هي جزء من طقس ممارسة المقدس التعبّدي. والحركات الجسدية في طقوس العبادات الدينية التوحيدية قد لا تحمل تلك الروحانية الجسدية التي تعبر عنها حركات الجسم في الصوفية البوذية التي يرافقها الصمت المطبق في التركيز الذهني خارج محسوسات العالم الخارجي.. الطقوس العبادية في الاديان التوحيدية تعتمد الاحساس المباشر بوعي الوجود النفسي والحركي الجسماني البسيط الذي يفتقد نزعة التسامي الروحي وخصوصا في حالة تأدية الاناشيد الدينية في مراسيم وطقوس بعض الديانات فهي أدعية تصاحبها البخور لا تحمل معها الصفة الروحانية بل الصفة الطقسية الانشادية الاعتيادية..

صمت اللغة الصوفية

لماذا يكون الصمت الصوفي أبلغ من البوح اللغوي التعبيري عنها؟

أهم انواع التعبير اللغوي التي يمتزج فيها الادراك العقلي مع اللاشعور المتسامي نحو المثال والحلول في الذات الالهية، هي لغة الخيال التصوفي العابر الذاكرة التخييلية، فالمتصوف أو العرفاني ينطلق بحسب رأيي من منطلق أن أسهل انواع العاطفة والوجدان هو ما تستطيع اللغة التعبير عنه وأستيعابه..والعواطف والوجدانات العميقة الّثرّة المتسامية نفسيا تعجز اللغة التعبير عنها.وهو ما عبّر عنه أحد الفلاسفة قوله أن ما تعجز اللغة التعبير عنه هو الاكثر أهمية وجمالا من المعبّرعنه. وهو إفتراض لا يمكن التحقق منه كما لا يمكن نكرانه. فالصمت هو لغة تفكير تأملي انفرادية لا تدرك من غير صاحبها وعلى فرق هذه الخاصية تعرف حقيقة صدقها من زيفها..

من هذا المنطلق يعتبر تعطيل فاعلية اللغة التواصلية مع الآخر قاصرة تماما في حال مرور المتصوف بتجربة الكشف الاستبطاني وحالة التسامي الذي يّشل الحواس والادراك الشعوري الواعي للعقل، اللغة الصوفية تأتي على شكل تداعيات ومرموزات وشطحات لغوية فكرية تخييلية منجذبة نحو التعالي على/ فوق الواقع الحسي والتعالي على العقل أيضا في تغليب الوجدانات العاطفية التي تعجز اللغة عنها. لغة المتصوف غائبة تماما عن مجريات الحياة والمحيط والوجود الانساني الاجتماعي للآخر بجميع اشتمالاته المادية، ما عدا الشحن الوجداني العاطفي اللاشعوري المرتبط بأمعان ورغبة التدرج في معارج الكشف نحو بلوغ المثال المتسامي ونشدان الوصول الى مراتب متقدمة من صفات الخالق والذات الالهية على صعيد صوفية الفرد الواحد فقط.

لغة التصوّف ترتبط بحالة اللاشعور في تغييب الوعي والحس المادي لتلتقي بهذاءات المرضى العصابيين الى حد ما مع فارق أنه في بعض الحالات التصوفية كما هي عند ابن عربي والحلاج والنفري وابن الفارض والسهروردي وابن حزم وابن الرومي وغيرهم، (لغة) التصوف لديهم تحمل مدلولات تواصلية فلسفية مع الآخر يتداخل الوعي الشعوري والادراكي بتسجيل التجربة الصوفية بشكل مرموزات اشارية ملغزّة لكنما يبقى الغموض التاويلي فيها سيّد الموقف في امتلاكها نمط اسلوبي لغوي قيمي وحكمي يحتاج إعمال التفكير المتأمل فيه. .

في حين تكون مثل هذه الفعالية التواصلية بقدرات اللغة والتعبير معدومة تماما في هلوسة وهذيان الانفصامي العصابي، وهذا ينطبق أيضا على الكثير من التجارب الصوفية غير الناضجة في عجزها اللغوي التعبيرالزائف لتجربة صوفية لم تحدث أصلا. كما ومن المهم الادعاء أن الصوفي لا يمكنه التحدث لغويا عما يمر به اثناء التجربة الانجذابية في الطقس التعبدي المنفرد. التعبير اللغوي عن التجربة الصوفية لا يتم اثناء القيام بالتجربة الصوفية بل يتم بعد الانتهاء منها في محاولة تذكرها وفي وصف بعض حالاتها.

كلا التعبيرين اللغويين لغة التصوف وهذاءات مرضى العصاب يتقاسمان صفة لغة الخيال اللاشعوري غير المنتج انطولوجيا - سيسيولوجيا في تغييب الوجود الواقعي العقلاني للفرد والمجتمع،وإعدام فرص التواصل بالآخر...أمام الاندفاع في خلاص الفرد صاحب التجربة الصوفية قبل كل شيء.. فالصوفية ترجع الى إصولها القارة إنها تجربة دينية في علاقة مميزة تربط الخالق بالمخلوق وهو جوهر ديني لا خلاف عليه.. قبل إستحواذ السياسة وسلطة الحاكم عليه.

لغة التصوف تلغي الفاعالية الواقعية العقلانية في جانبين: تلغي فاعلية الوجدان المنتج – ماعدا استثناءات تجارب صوفية ناضجة غير مبالغ بها ولا مفتعلة مجال اشتغالها التعبيري الشطحات الصوفية اللغوية على شكل ومضات حكمية وأقوال ملغزّة باطنية وفي مجال قول الشعر الملغّزالغامض أيضا، وإعدام رقابة العقل الشعوري على اللغة المنطوقة تصّوفيا،يتجلى ذلك في عدم قدرة المتصوف ضبط تداعيات اللغة التعبيرية المنطوقة عنده، بمنطق لغوي نسقي منظّم يستطيع التواصل مع الآخر بعيدا عن شطحات التفكيراللغوي وتداعيات اللاشعور في توصيل التجربة الذاتية من خلال صعوبة أمكانية المتلقي فك مرموزات اللغة الاشارية، بما يخدم تجربة المتصوف والمتلقي معا.أن محاولة الطلب من صاحب التجربة الصوفية نقلها الى واقع لغوي تواصلي مع الآخرين هو ضرب من الاجهاز على حقيقة التجربة الذاتية الصرف..

الجانب الثاني من الألغاء في لغة المتصّوف يتمثل في تخريب الاخصاب التخييلي المنتج ماديا وليس التخصيب المتسامي روحيا،في عجز التعبير التصوفي، وفي اللقاء مع هذاءات العصابي الانفصامي في عجزهما المشترك أن يكون تعبيرهما اللغوي لغة تواصل يعّتد الأخذ بها،فقط باستثناءات تجارب صوفية متقدمة يمكن أن يكون التواصل التصوفي مع المجتمع متحققا فيها أشرنا لها سابقا.

المعنى المفهومي الصوفي في اللغة،سائبا وسائلا غير منظما ولا منضبطا سطحيا وانفعاليا هستيريا، لغة غبر مفهومة ولا متسّقة تعبيريا،طلاسم لاشعورية مغلقة على عوالم خيالية مرضية أنفصامية لا رابط لها مع الاخرين والواقع أو المحيط.

بوذا الاله والطبيعة

من المعروف جيدا أن الطبيعة لعبت دورا كبيرا في محورية مواضيع الفلسفة والدين كما هو الوجود والانسان. في مرحلة متأخرة من تاريخ الفلسفة جرى تأليه الطبيعة في منحيين حمل لوائهما اثنين من عمالقة الفلسفة. الاول باروخ اسبينوزا الذي جعل من الطبيعة جوهرا قائما بدلالة جوهر الخالق غير المدرك.

اسبينوزا في تقديسه الطبيعة نزع نحو صوفية عقلية روحانية التي بدلالتها نعي الجوهر الايماني الخالق لها. اسبينوزا اراد الطبيعة جوهرا استدلاليا للايمان بخالق نجده على الارض في تجليّاتها ومظاهرها ونظامها الاعجازي وليس البحث عن الخالق في السماء. بهذا المعنى دافع اسبينوزا عن نظريته المذهبية الفلسفية الصوفية في وحدة الوجود قائلا إني حاولت رفع الطبيعة نحو مقام الخالق المتعالي عليها ولم أعمد إنزال عظمة الخالق الى مرتبة الطبيعة. وبذا دفع اسبينوزا عنه تهمة الالحاد المستترة خلف هذا التعبير. وإدانة اسبينوزا بالهرطقة والتجديف جاء بسبب إنكاره المعجزات الدينية التي تخرق القوانين الطبيعية وليس بسبب آرائه الفلسفية في مذهب وحدة الوجود في تاكيده على أن الجوهر الالهي الازلي للخالق غير المدرك هو الدلالة التي نفهم بها وجودنا في الطبيعة..

من بعده جاء فيورباخ ذلك الفيلسوف المادي بغير حدود الذي وجد في الطبيعة حقيقة الدين والاله مجتمعة معا. وفي إحدى رسائله الى صديق له قال بالحرف الواحد اني أحب وأعشق الطبيعة حد الايمان الصوفي الديني الانخراط بها كجزء متداخل فيها لو تمكنت ذلك . وفعلا هذا الحب للطبيعة سحب فيورباخ نحو مادية تأملية صوفية أراد مزجها بنشأة الدين عند الانسان، وإعتبر فيورباخ الطبيعة هي مصدر معرفتنا حقيقة الانسان والطبيعة والاله. حيث وصل التطرف به القول أن الانسان والطبيعة والاله دلالة لمعنى واحد مرتكزهم الانسان وحده فقط. هذه المادية في تفسير فيورباخ الطبيعة أفقدت زميله ماركس صوابه ما جعله يرد هو وانجلز عليه بما سمي طروحات نقدية فلسفية ضد صوفية فيورباخ الدينية وليست المادية..

من هذه المسحة الوجيزة التي مررنا عليها أين نضع الصوفية البوذية؟ هل نضع مرجعيتها مع اسبينوزا الصوفي الروحاني، أم مرجعيتها مع فيورباخ الصوفي العقلي المادي؟ أم مرجعية خصوصية استقلالية تبعدها عن التبعية لأي من الاديان التوحيدية أو الملحدة.؟ رغم تقديس البوذية الطبيعة بلا حدود.

أرى مفترق الاجابة في تفكيك هذا الاشكال التداخلي يتم عن تساؤل يضعنا أمام حقيقة ما هو الاله؟ اله البوذية هو الاله الارضي الذي يتمتع بكامل القدرات التي يتمتع بها إله السماوات كما في كتب الاديان التوحيدية حيث تؤكد الصوفية البوذية هذا المعنى "أن لفظة بوذا تعني صاحب النور اللامحدود، ومالك الحياة اللامتناهية، قد خلق بتعاطفه ورحمته التي لا حد لها ارضا يستطيع كل انسان بلوغها بفضل رحمته ونعمته. فالتضرع البسيط لاسمه مقرونا بالايمان بفاعلية يضمن للمؤمن الميلاد من جديد في الارض الطاهرة " 3.

الالتباس في نهاية العبارة بالتضرع البسيط يضمن للمؤمن الميلاد من جديد في الارض الطاهرة التباس جوهري لا تستطيع حله كلمات في مقال.. نتسائل بضوء عبارة البوذية:

- مساواة بوذا بقدرات وإمكانات لا يتوفر عليها غير الإله الميتافيزيقي بالسماء يجعل من البوذية مذهبا إلحاديا صرفا يجد في تحقق الذات في نبتة برية.

- أين وكيف ومتى يكون الميلاد الجديد؟ هل في التغيير الروحي للانسان على الارض؟ أم هو في عالم يصله البوذي الصوفي ليجد فناءه الارضي لا شيء يعقبه.

- مالمقصود بالارض الطاهرة هل هي فضاء نوراني لا يدركه العقل غير متعيّن؟ النرفانا الصوفية البوذية في إعدامها عن وعي قصدي مسبق حياة الارض بالانطفاء النفسي التام في تأكيد قول معظم الفلاسفة عالمنا الذي نعيشه هو العالم الزائف غير الحقيقي دونما التلميح كيف نجد عالمنا الحقيقي المنشود والذي هو بلا ملامح ؟ أم هي أرض أخرى طاهرة ليس بمعنى الارض المادة غير هذه الارض التي يعيشها الانسان مليئة بالشرور والآثام التي ايضا لا نعرف اين هي ولا كيفية الوصول لها في نكران البوذية وجود حياة أخرى نبعث فيها ليوم الحساب والعقاب.؟

أجد الاجابة عن التساؤلين يضعنا في تضاد محرج يرفضه العقل.. فاذا نحن فسرنا التغيير الروحي يتم على هذه الارض، فهذا ينفي ضمنا أهمية الايمان بإله غير ارضي لا يكون غير بوذا وحده على الارض.

وكيف تتجدد الحياة بالانطفاء النفسي التام في وعد يتحقق على ارض طاهرة أخرى غير هذه الارض لا نعرف اين هي ولا كيفية بلوغها؟. إرباك وعظي غير عملاني أبدا. هنا ميزة الصوفية البوذية الدينية أنها لا تعطي بديلا عن الخلاص من بؤس حياة الارض كما تدعي بخلافها الاديان التوحيدية التي تعطي الامل البديل في حياة تأتي بعد وفاة الانسان وفنائه بهذه الحياة لكنها غير المسؤولة عن تحققه من عدمه،ولا وجوده من عدم وجوده..

شعر الهايكو والطبيعة

بدءا يجب الاقرار ان تقديس الطبيعة في شعر الهايكو الياباني الذي اسسه رائده الاول الشاعر الياباني (ماتيسو باشيو) هو أحد ملامح الصوفية البوذية غير الدينية. ويشير دارسو الهايكو الشعري أنه نوع من الشعر الياباني قبل تداول ممارسة النظم الشعري عالميا على منواله. إنه يتالف من "17" مقطعا أو ابيات تتوزع في ثلاثة اقسام 5/7/ 5 في الهايكو الشعري العربي جرى إختزاله الى ثلاثة مقاط شعرية فقط بدلا من سبعة كما في هايكو اليابانية. ولا يجب أن تخلو خاتمة المقطع الاخير من شعر الهايكو عن تمجيد مظهر من مظاهر وموجودات الطبيعة والا خرج الشعر عن خاصيّة الهايكو.

ما يهمنا في هذا المجال ليس دراسة شعر الهايكو ادبيا، بل تركيزنا على أهمية تقديس وحضور الطبيعة في الاديان الشرقية والاديان الغربية غير الماخوذة عن الشرق. فالشرقي وخاصة شعوب جنوب شرق اسيا الذين يدين غالبيتهم بالبوذية فنجدهم يحترمون الطبيعة احتراما استثنائيا مقدسا، فنجد البوذي يحترم نبتة برية ويحتضنها بيديه متبركا بها يناجيها روحيا ولا يقطعها. كما أن الشرقي البوذي يتأمل جمال الطبيعة الاعجازي ليس في بعدها الايحائي الديني فقط بل في بعدها الوجودي بالطبيعة.

" ونجد الشرقي الصوفي يتأمل هذا الحب والقداسة الطبيعية بصمت دفين – يحمل الكثير العميق من ذخائر النفس الدفينة – صمت حكيم لا يشي بالبكم أو فقدان القدرة على الكلام، صمت فيه من الفصاحة التعبيرية الصامتة ما تفتقده فصاحة الكلام"4 .

أما الغرب أو الشعوب الغربية فهي مولعة بحب ما هو مادي واقعي التحقق ويفضله على ما هو روحاني ميتافيزيقي يتسم برومانسية حالمة. أي أن الغرب يبتعد عن العاطفة الجيّاشة المغرمة بالانفعالات في تغييبها وصية العقل وحاكميته الصلدة.

من جهة موازية فالغرب يعمل على تشيييء الكلام، وبخاصة في تشيييء الجسد على مستوى الفنون والرسومات ذات المسحة الدينية التي لا تخلو من خيالات تحتجب خلف رسومات الجسد الحسية الطاغية. "تجسيد جسدي مفاتني حسي يصل الى عتبات الانفضاح الشهواني"5  الذي يحرك الغرائز النفسية على حساب ماتوحي به وتريده الرسومات الدينية من تسامي روحاني يناغم الايمان الديني وهو ما ينطبق على جميع منحوتات ورسومات عصر النهضة الاوربية بدءا من ليوناردوا دافنشي ومايكل انجلو وليس انتهاءا بمونيه وماتيس وغويا  وغيرهم.

المذهل في شاعرية ماتيسوباشو في الهايكو هو أنه يستنطق لغة الطبيعة في الخضرة والازهار والانهار والجداول والمناظر الخلابة محاولا الدخول في نسيجها وتقمص صمتها الاسطوري الذي يجعل الانسان كائنا ينتسب الى الطبيعة بجمالها لا أن تنتسب هي له في فتاحة العبث بعذريتها وشفافيتها ذات المسحة الالهية. التي تقول في صمتها ما تدخره بنفسها من الهام روحاني لا يتوفر عليه الانسان خارج تعالقه الذي لا انفكاك منه بالطبيعة.

إدراك الذات إدراكا حقيقيا في صوفية الزن هو الحلول النفسي في موجودات الطبيعة، فمثلا اذا ما كنت ترغب معرفة حقيقة الذات – الموضوع، عليك أن تجعل من إدراك الذات لموضوعها هي الذات التي تموضعت في داخل موضوعها في تاكيد مزدوج هو معرفة الذات بدلالة الموضوع ليس تخارجيا ولا جدليا إنما يتم ذلك في (الموضعة ) الذاتية في ابسط الاشياء من موجودات الطبيعة. الموضعة هي تجريد تصوري فكري يتبع الشيء في وجوده وليس جزءا من تكوين ذلك الشيء.

فمثلا حين تريد معرفة حقيقة زهرة في صوفية الزن عليك أن تكون أنت الزهرة، وهذا الحلول التموضعي بالاشياء أفضع من ناحية القدرة الاستيعابية لنا بالقياس محاولة جعل تشيييء الصوفية غير البوذية التسامي الروحي الحلولي في الذات الالهية ميتافيزيقيا ممكنا.

هنا في الصوفية البوذية يصبح حلول الذات موضعة مادية في الطبيعة، وهذه الطريقة البوذية لا تلتقي مذهب وحدة الوجود من حيث ادراك الوجود خارجيا معدوما في توكيد الذات، كذلك موضعة الادراك بالموجود الطبيعي يجعل من الادراك الذاتي معدوما ايضا.

موضعة الادراك التجريدي بمكونات الطبيعة هو مرادف التقمص الصوفي البوذي فيها. بما ترغبه النفس والارادة الذاتية أن تكون عليه من مخلوقات أو كائنات فالانسان البوذي يمكن أن يكون زهرة اذا رغب ذلك أو يكون نمرا أوشجرة أي شيء موجود في الطبيعة يريد الانسان أن يكونه في تجريد تاملي تشييئي تقوده الارادة الطوعية وليست القسرية..

ورغم طغيان الخاصيّة الروحية في جميع مذاهب الصوفية الدينية إلا أننا نجد البوذية تشذ عن هذا المعنى التجريدي حينما يكون تموضعها التجريدي بالاشياء (ماديا) وليس روحيا. ربما يبدو للبعض أن في هذا التعبير تناقض تعبيري عن حقيقة فلسفية من السهل الاستشهاد المادي لفيورباخ تاكيدها في صوفيته التاملية العقلية حينما وجد فيورباخ الانسان هو صانع معبوده وهو الذي يخلق الهه الذي يرغبه. في نفس وقت جعل من التكيّف الانساني مع الطبيعة علاقة مادية وليست روحية.

 

علي محمد اليوسف /الموصل

.............................

الهوامش

1- د. ت. سوزوكي /التصوف البوذي والتحليل النفسي/ ت: ثائر ديب، تقديم وفيق خنسة ص2 من هامش المقدمة

2-  نفسه ص 12

3- نفسه ص 28 هامش المقدمة

4-  نفسه ص 30

5- نفسه نفس الصفحة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم