صحيفة المثقف

جودت العاني: ضياع في مدينة العويل!

كان قد قرر السير نحو منعطف الطريق ليلتقي بظله هناك على جدار وسط مدينة لا ظلال لها، وشبابيكها مغلقة وابوابها موصدة يتسرب من شقوقها العفن. وحين وصل الى حانة المدينة المخمورة بالأوهام واللآمبالات لم يسمع شيئاً سبق واعتاد على سماعه من قبل، حيث غرفته المكسوة بجدران الصمت، فيما كان الضجيج في اعلى نوبات جنونه في الخارج يبتلع الايقاع الجميل دائماً حتى وهو في غرفته الخالية إلا من باب وشباك تصله الآن منه بالكاد خيوط الشمس الفاقعة.

وصل المنعطف، فشعر بأنه يريد ان يستعيد شيئاً فقده، واعتقد بأنه ربما فقده في الطريق بين موجات الضوضاء وحشرجات اللآمبالات التي تحيط بالناس في كل مكان.. اخذ يفتش ويسأل المارة عن شيء لا يعرفونه.. وكانت بعض الوجوه ترتسم عليها علامات الاستغراب، وبعضها يكتم ضحكته ويتمتم: إنه احمق لا يدري كيف ومتى اضاع ما يفتش عنه، إنه احمق، فيما يشعر الاخرون بأنه مسكين سوف يعاني من مشكلات ربما لن تتغير، إنه لن يجد ما يبحث عنه.

قال له احدهم " متى بدأت تبحث عن ذلك الشيء الذي قد لا تجده او تجده معلقاً كما تصفه كالظل على الجدار؟

أجابه بسرعة: في الزحمة وفي ظل الضوضاء التي اجتاحت جدران غرفتي الخالية إلا من باب موصدة وشباك، شباك كان يستقبل نور الشمس طوال النهار، أما الآن فلم يعد الضوء مناسباً، انه عقيم ولا جدوى من وجوده.

صمتَ الرجل واطرق رأسه الى الارض وتفحص ملامح وجهه الذي ارتسم عليه الشرود،

اقول لك: لماذا لا تفجر الآن جدران غرفتك اللعينة هذه ؟ ان فيها مسٌ يتسبب في كل هذه الضوضاء، ولكن الا ترى ان السموم تلتصق على الجدران والباب وبلاط الغرفة المحشوة بروائح تهب من نافذة مسكونة بشياطين اللعنات القادمة من كهوف العالم السفلي ؟ لماذا لا تغلق الشياك لتتخلص من العفن وتستريح؟ لا شمس تشرق ولا رعد يبرق إنما هناك في كل مكان إنسان يملئ الشوارع بالبصاق؟

ابتسم له وقال: يبدو انك شاعر، يعرف كيف يستخدم القوافي في دروب العويل، دعك من كل هذا، هل تريد ان تقول لي شيئاً وانت كما اراك متردد او انك تكتم ما تريد قوله؟

اجابه: كلا، يمكنك ان تفتش في مكان آخر عسى ان تعثر على ما تريد، ولو اني على يقين بأنك لن تجد شيئاً ما دام النحيب يضج في كل الأوقات والمواسم، لا فرق بين صيف وشتاء أو بين عواء وصراخ على السواء.!!

تابع طريقه الصعب وهو يتمتم: لقد اضعته ولا ادري إن كان في الغرفة او على قارعة الطريق، وربما سرقه احدهم او قذف به في القمامة.. وسأل نفسه في الحال، إذا كان الأمر هكذا كما تهمس نفسك، فكيف تستطيع ان تفتش عنه؟ إنك كمن يفتش عن أبرة في كومة قش. انها مهمة شاقة وربما أبدية، تظل تبحث وتبحث حتى تنتهي كل شوارع وأزقة العالم ومدنه ولن تجد ضالتك الضائعه. هل فتشت غرفتك الآن جيداً؟ هذه المليئة بالفوضى والصديد، ثم من أين جاءت قطرات الدم على بلاط الغرفة، كما وصفتها، الم تلاحظ ذلك؟

لا ادري، ربما تسربت من السقف.. انني اسمع صراخاً في الاعلى وخلف النافذة، واحياناً ارى ظلالاً تتأرجح متدلية من السقف ويقطر منها دماً قانياً، إنها تتسرب الى غرفتي مع الضجيج والعويل.. نعم، أنا أؤكد على أن الصراخ والعويل لا ينقطع طوال الوقت، والظلال المتدلية من السقف لا تكف عن الحركة، ونقاط الدم تتسرب قطرة قطرة نحو بلاط الغرفة المسكونة بالعفن.

وهو في طريق العودة سأله احدهم بعد ان رأه متعباً يتوكئ على الجدار ويترنح ذهنياً ولا يميز بين الزقاق والشارع: إلى اين تريد ان تذهب يارجل، تمهل سأدلك على الطريق.؟

اجابه بحكاية جارته التي تؤكد ان ابنها الصغير خرج من الباب ولم يعد منذ سنين.. وانها سمعت ان جارتها كانت تفتش عن جدوى لبقائها تبحث عن طعام في القمامة.. وخلصت إنها تبحث عن ولدها وجارتها تبحث عن طعام حتى لو كان في المزبلة، وتسائلت لماذا يبحث الجميع عن كل شيء؟ هذا ما قالته جارتي، وسأظل ابحث عن ولدي حتى اذا ابتلعته العاصفة الصفراء الملعونة التي لا تملك قدرها في ثبات الجدوى، انه الخواء ألا ترى ذلك ؟

أجابه: سأفتش في مكان آخر خارج الجدران، حيث نور الشمس الذي لا يعكس الظلال التي تتأرجح ويقطر منها الدم ليل نهار، ولا تنساح منها روائح تزكم الأنوف وهي تهب كلما يضج العويل.. ورغم التعب ياصاحبي لم اجد في البحث مجالا للراحة، إنها مهمة شاقة وابدية لا تنتهي، ومع كل ذلك سأظل أبحث عن الجدوى التي يريد ان يبتلعها العويل.!!

***

د. جودت صالح

03/09/2021

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم