صحيفة المثقف

مصعب قاسم عزاوي: لعبة الإعلام المتسيد

يتم توطيد هيمنة الإعلام المتسيد على الوعي و المعرفة الجمعية في المجتمع في النظم الاستبدادية ببساطة ودون تعقيد عبر «نهج البسطار العسكري» الرابض فوق حلوق ورؤوس وعقول البشر الذين تتحكم تلك النظم بحيواتهم ومصائرهم، بشكل يضمن الخضوع الكلياني المطلق والاستكانة والخنوع الجمعي في المجتمع خوفاً من انفلات ذلك البسطار الجلمودي من عقاله لتهشيم كل من قد تسول له نفسه التفكر بعدم مشروعية أو أخلاقية أو أحقية أي من حركات وسكنات النظام الأمني الذي سيطر على كل مفاصل حياته وأحلامه وطموحاته عمقاً وسطحاً وعمودياً وأفقياً.

أما في النظم الاستبدادية المنمقة بلبوسات من أشكال الديموقراطية التمثيلية الشكلية في الغرب فتقتضي شروط اللعبة الديموقراطية فيها عدم اللجوء إلى تقنيات «البسطار العسكري»، وإنما إلى تقنيات أكثر حذاقة وكفاءة في تحقيق مشروع هيمنة الأقوياء الأثرياء على مفاتيح السلطة والثروة وصناعة المعرفة ممثلة بالجسد الإعلامي في المجتمع «برضى وقبول» المتشاطرين في ذلك المجتمع «طواعية وليس قسراً» من الناحية النظرية والقانونية الشكلية كحد أدنى.

وهنا يعمل الإعلام المتسيد وفق آليتين متداخلتين ومتكاملتين فيما بينهما لأجل تحقيق ذلك الهدف. الأولى هي نهج «صناعة العقل المستقيل» عبر إلهاء الجماهير التي ينظر إليها من الناحية الإعلامية على أنها «قطعان من الشياه الشاردة» جاهزة «لالتهام» كل ما يقدم لها «لإلهائها» ترفيهياً، وإبعادها عن «شبح التفكر في أس حياتها البائسة»، وذلك عبر طوفان البرامج التلفزيونية التافهة، والمسلسلات التي لا تنتهي حلقاتها، وبرامج «صراع الديوك» الحوارية التي ليس فيها من الحوار العقلاني الرشيد شيء، والأخبار التافهة التي لا تنضب عن فعاليات وفضائح الفنانين والنجوم الفنيين، والتي تصب جميعها في خانة هدف تحويل عقول المتلقين إلى «قرون استشعار خاملة» وظيفتها «الاستقبال والانفعال» لا حاجة لاشتباكها مع أي جهد عقلي فاعل قد يؤدي بمن يقوم به للسعي إلى اكتشاف حقيقة العلائق بين خوافي الأمور التي لا بد من عدم تفكره بها، وطرح أسئلة قد تؤدي به إلى استنتاجات لا بد من عدم الالتفات إليها لضمان استدامة هيمنة الفئات المسيطرة على مفاصل الحل والعقد في المجتمع دون أي تهديد فعلي لذلك.

والآلية الثانية تتمثل في «صناعة الوعي الزائف»، والتي توجه نفسها لتلك الفئات التي حظيت بفرصة أعلى من التعليم في المجتمع، وهي الفئات المناط بها القيام بدور «القائم بالأعمال التنفيذي» لإرادات الفئات المهيمنة فعلياً في المجتمع، والتي لا تستطيع دون أولئك «الوكلاء» إدارة الهيكل البيروقراطي الضروري لتسيير لذلك المجتمع. وتضم تلك الفئة رهطاً كبيراً من الطبقات الوسطى في المجتمع من فئات مهنية كالأطباء والمهندسين والمحامين والمدرسين وأساتذة الجامعات والمدراء في مؤسسات الهيكل البيروقراطي في المجتمع. وتلك الفئة لا بد من تقديم خطاب لها يضمن استبطانها لقيم وأهداف الفئات المهيمنة في المجتمع «طواعية»، بحيث تصبح تلك القيم النموذج الناظم لآلية فهمها لطبيعة علائق الأمور وصيرورتها في المجتمع، ومدخلاً لنهجها الفكري وسلوكها التنفيذي والذي لا بد أن يؤدي في نهاية المطاف إلى توطيد مفاعيل الهيمنة القائمة بالفعل، ويضمن استمرارية تحقيق مصالح الفئات المسيطرة على مفاصل الثروة والسلطة وصناعة المعرفة في المجتمع. ويتم ذلك من خلال وسائل الإعلام ذات الحيادية الظاهرية عبر تغطيتها الانتقائية للأخبار، وعبر أدوات ترشيحها لما ترتئيه من أخبار تراها «جديرة بالتغطية»، وعبر مواضيع الحوارات والمقالات المنتقاة بعناية قبل أن يتم السماح بنشرها أو تغطيتها أو بثها، بحيث يفضي ناتج العمل الإعلامي بمجمله إلى تخليق «قناعات» انتقائية بعينها، لا بد لكل أولئك «المتعلمين الحاذقين» من استبطانها، إذ أن الجميع في وسائل الإعلام «الحيادية» متفق على صحتها، و هو ما يومي بالبنان المشرئب إلى صوابها وتنزيهها عن «الخطل و الزلل»، إلا إذا كان الناظر إليها ممسوساً بضرب من «الجنون»، إذ لا يعقل أن يكون الجميع على خطأ وأن هناك عاقلاً وحيداً في هذا الكون. وتلك الآلية في تخليق «الوعي الزائف» تنتج في نهاية المطاف نموذجاً من البشر المتعلمين المنمطين عقائدياً، والذين يعتقدون بأن خياراتهم وآراءهم ونهجهم في الحياة والسلوك والعمل، هو خيارهم «الحر والطوعي» الذي لا دخل لأي تأثير خارجي في صياغته، على الرغم من أنه ناتج «تكيفي ضروري» في سياق عملية «غسيل أدمغة متأني» تعرض له كل منهم له في نسق صيرورة تشكل وعيه عن ذاته ومجتمعه الذي يعيش فيه. وفي غالب الأحوال فإن هناك نسبة قليلة من البشر قادرة على الانعتاق الفاعل من «شبكة صناعة الوعي الزائف العنكبوتية»، والتي غالباً ما تنزاح إلى حيز الانعزال الاجتماعي، لعدم تمكنها من إيصال صوتها الذي ترفضه آليات الترشيح في الإعلام المتسيد، ولصعوبة إيجاد أقران لها تمكنوا من الانعتاق والهروب من مفاعيل تلك الشبكة، نظراً لصعوبة تلاقي البشر وتفاعلهم مع بعضهم اجتماعياً في سياق مفاعيل «تذرية المجتمعات»، وتوطيد «وعي الإنسان الذاتي المنغلق» الذي يعيش لذاته وتلبية حاجاته ومتعه الأساسية فقط، دون اكتراث بأي عناصر ومفاعيل ليس لها قدرة حسية مباشرة في تحقيق ذلك. وهو مآل اجتماعي مباشر وبائس للآلية الأولى السالفة الذكر في «صناعة العقل المستقيل».

 

مصعب قاسم عزاوي

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم