صحيفة المثقف

جيل دولوز وفليكس غوتاري: المبالغة الأوديبية

2755 ديلوزبقلم: جيل دولوز وفليكس غوتاري

ترجمة: صالح الرزوق


 توجد تفسيرات عديدة سيئة الحظ تناولت نص كافكا “رسالة إلى والدي”. فهي لوحة أو صورة فوتوغرافية أقحمت على آلة من نوع مختلف تماما. الأب برأسه المحني - ليس لأنه، بذاته، مذنب فقط، ولكن أيضا لأنه يدفع ابنه للشعور بالذنب، ولا يتوقف لحظة عن مقاضاته وإطلاق الأحكام عليه. كل شيء نتيجة خطيئة الأب: إن كنت أعاني من مشاكل جنسية، إن لم أتزوج، إن لم أتمكن من النجاح بما أكتب، إن خفضت رأسي في العلن، إن توجب علي بناء عالم بديل مجدب بلا حدود.

كان يجب الانتباه أن هذه الرسالة أتت بوقت متأخر للغاية. كان كافكا يعلم جيدا أن لا شيء في عالمه حقيقي. وعدم جاهزيته للزواج، وكتاباته، وانجذابه لعالم عقيم، هي دوافع وأسباب. لقد أعلن كافكا بنفسه أكثر من ألف مرة، وتكلم لاحقا، ماكس برود، عن ضعف أي تأويل أوديبي لمشكلات كافكا، وضمنا مشاكل الطفولة (1). مع ذلك الموضوع الهام في الرسالة تجده في أثر متحرك. فقد انتقل كافكا من أوديب كلاسيكي له طابع عصابي - وفيه يكون الأب المحبوب كريها ومتهما ومدانا بخطيئة دامغة - إلى أوديب منحرف وشاذ يستسلم لفرضية براءة الأب، ولـ “قلق” يشترك به كل من الأب والابن على حد سواء. ولكن قام كافكا بهذه الخطوة من أجل أن يدخل في تهمة أخطر، وفي مقاربة لامحدودة وأقوى ولا يمكن أن تعزوها لأي شخص معين (مثل “التأجيل” في رواية “القضية”).  إنها تمر من سلسلة تأويلات تعالج عقدة الاضطهاد والتضخيم. كان كافكا يشعر من أعماقه أنه يتخيل الأب يتكلم، ويسمعه يقول: أنت تريد أن تثبت “أولا أنك غير مذنب. وثانيا أنني أنا الملام والمذنب. وثالثا لديك استعداد قوي وفطري لتغفر لي (وهذا تقريبا) يبرهن ويدفعك للإيمان - بعكس الحقيقة - أنني أنا أيضا غير مذنب”.

مثل هذه النقلة السلبية، والتي ترى في براءة الأب المفترضة تهمة أقسى، تحمل هدفا واضحا، له مفعول وتأثير، وآلية تعمل خلفه. والهدف تفجير “الصورة”، والمبالغة بها لدرجة عبثية لامجدية. سيتم إسقاط صورة الأب، المتطورة والموسعة خارج وخلف كل الحدود، على خريطة العالم السياسية والتاريخية والجغرافية، من أجل أن يبلغ مناطق واسعة منها: “أشعر كأنه بمقدوري أن أعتبر أن الحياة هي في تلك المناطق التي لا تغطيها أنت أو التي ليست بمتناولك”. بمعنى أنه يضفي صفة أوديبية على الكون بأجمعه.

ويتضمن اسم الأب كل أسماء تاريخ يهود وتشيك وألمان المدينة - المقاطعة - براغ. ولكن بعد ذلك، يعمد لتوسيع أوديب، وهي توسعة ميكروسكوبية، لدرجة تصور لنا بها الأب كما هو عليه. إنها تمنحه ثورة جزيئية، وفيها تأخذ المعركة شكلا مختلفا تماما، ولكنه منضبط. ويمكن أن تقول إنه بإسقاط صورة الأب على خريطة العالم، يفتح كافكا الممر الخاص بالصورة، ويخترع طريقة للخروج من هذا المأزق، ويربطه بشبكة متكاملة تحت الأرض، وبكل المنافذ التي تخلصه من هذه الشبكة. وكما قال كافكا ذاته، المشكلة ليست في التحرر ولكن في الهروب. ومشكلة الأب ليست حول: كيف يمكنك أن تتحرر منه (مشكلة أوديبية)، ولكن كيف تجد طريقك هناك، في نفس الموضع الذي ورط نفسه به.

إن فرضية البراءة المشتركة، والقلق الذي يتشارك به الأب والابن، هما أسوأ الافتراضات. وهنا يبدو الأب كأنه الرجل الذي عليه أن يدين رغبته الخاصة وإيمانه الشخصي، لو كان عليه أن يغادر “الغيتو الريفي” الذي ولد فيه. إنه يبدو الرجل الذي يطلب من الابن الاستسلام لأنه هو بذاته مستسلم لنظام مسيطر، ولأنه في وضع لا خلاص منه (“المسألة كلها، طبعا، ليست ظاهرة معزولة. وهذا مثل ما جرى مع شريحة كبيرة من يهود الجيل الانتقالي، الذين هاجروا من الأرياف الهادئة نسبيا إلى المدن”).

بإيجاز ليس أوديب من يقوم بالتسبب بالعصاب - ذلك أن الرغبة هي وحدها المتطلبة وهي التي تبحث عن طريقة للتعبير عن طلباتها الخاصة - وكذلك هي من يعمل على إنتاج أوديب. إن أوديب هو سعر العصاب في السوق. بالمقابل، لتمكين وتوسيع أوديب عبر الإضافة له وإلحاق البارانويا به واستعماله استعمالات شاذة وغريبة،  يعني أن تهرب من الطلب والاستسلام، وأن ترفع رأسك، وأن ترى ممرا فوق كتفي الأب. وهذه هي المشكلة طوال الوقت: إنها سياسة مجهرية (ميكرو- سياسة) شاملة للرغبة: للانسداد والهروب، وللطلب والإجابة. وفتح الانسداد،هو  نسف العائق. اختزال حدود الأرض الأوديبية في العالم عوضا عن إعادة تمكين كل شيء ضمن أوديب والعائلة. ولكن لتحقق ذلك على أوديب أن يوسع نقطة العبث والكوميديا. ومن أجل ذلك يجب إعادة كتابة “رسالة إلى الأب”. إن خطأ التحليل النفسي هو أنه يوقع نفسه في الفخ، ويوقعنا معه، بما أنه يعيش بعيدا عن سعر وقيم سوق العصاب، والذي منه يكتسب كل قيمته الفائضة. “الدراما والتراجيديات المكتوبة عن <ثورة الابن ضد الأب>، هي في الواقع مادة كوميدية” (2).

بعد سنتين من “رسالة إلى الأب” اعترف كافكا أنه “دخل في مرحلة قلق وهيجان” وحصل ذلك “بعد كل السبل التي رافقت زمنـ“ـه” وتقاليد”ه””(3). وبدا له أن أوديب هو واحد من السبل - الحديثة التي انتشرت على نحو واسع منذ عصر فرويد، مفسحة المجال لمؤثرات ساخرة عديدة. وكل ما فعلته هو الإفراط والمبالغة :”من المستغرب أن تمرر فكرة، وتربطها بالنظام، حتى تتحول إلى واقع”. لم يرفض كافكا التأثير الخارجي للأب فقط لتمرير تكوينات داخلية أو بنية جوانية تبقى أوديبية. “لا يمكنني أن أضمن أن البدايات الأولى لشقائي كان لها ضرورة من الداخل. وربما هي فعليا ضرورية ولكن ليس نحو الداخل - فهي تبتلع الذبابة مع أنه يمكن بسهولة طردها”. وهنا توجد نقطة أساسية: وراء الخارجي أو الداخلي ثورة، رقصة جزيئية، حد ارتباط شامل مع الخارج، وهو الذي سيكون مسؤولا عن التكرار بشكل أوديب مبالغ به وموجود وراء كل الحدود والخطوط. ويمكن له أن يظهر هكذا لأن للتضخيم الكوميدي جانبين اثنين.

من جهة يكتشف المرء وراء المثلث العائلي (أب - أم - طفل) مثلثات أخرى لا محدودة و أكثر نشاطا من التي تقترض منها العائلة قوتها الخاصة، دافعها الخاص لتطوير الاستسلام، وخفض الرأس وتنكيس مستواه. ولأن ليبيدو الطفل ذاك يستثمر حقا نفسه منذ البداية: بواسطة صورة العائلة، الخريطة الشاملة لعالمه. أحيانا يجد أحد شروط المثلث العائلي نفسه مستبدلا بشرط آخر يكفي لتغريب (ونزع الألفة) عن الشيء كله (وبالتالي يقدم مخزن العائلة مشهد: أب - موظف - طفل مع الحرص أن يحتل الطفل مكانه قرب أخفض الموظفين مكانة، لدرجة أنه يتمنى أن يلعق له بوطه، أو أن يأخذ الصديق الروسي مكان أحد شروط المثلث ثم يحوله إلى آلة قضائية أو إدانة). أحيانا يبدل كل المثلث شكله وشخصياته ويقدم نفسه على أنه قضائي أو اقتصادي أو بيروقراطي أو سياسي وهكذا. خذ على سبيل المثال القاضي - أحد المحامين يتهم في “القضية” حيث لا يبقى للأب وجود (أو الثلاثي عم - محامي- رجل وكل منهم يريد من “ك” أن ينظر للمحاكمة بجدية). أو الثلاثيات المتتالية - موظفو البنك، رجال الشرطة، القضاة. أو المثلث الجيوسياسي: ألمان - تشيكيون - يهود وهو إحالة واضحة تنم عن أب كافكا:”في براغ، ينظر الناس <إلى اليهود> على أنهم ليسوا تشيكيين، وفي ساتز وإيغار على أنهم ليسوا من الألمان” (4).

لهذا السبب إن فرضية براءة واضطراب الأب تشكل أسوأ إدانة، فالأب لم يفعل شيئا ولكنه أحنى رأسه، واستسلم لسلطة ليست سلطته، ودخل في مأزق، وذلك بعد خيانة أصله - يهودي تشيكي من الأرياف. وعليه إن مثلث العائلة الذي اكتمل تكوينه هو حقا طريقة لاستثمار نوع مختلف كليا، ويكتشفه الطفل باستمرار تحت أبيه، وداخل أمه، وداخل نفسه. كذلك إن القضاة، والوسطاء، والبيروقراطيين، إلى آخر هذه السلسلة، ليسوا بديلا عن الأب. ولكن الأب هو تكثيف لكل هذه السلطات التي يستسلم لها، ويحاول أن يجبر ابنه على الخضوع لها بدوره أيضا. العائلة تفتح الأبواب، والتي تقرع عليها من البداية “قوى شيطانية تستمتع بها لأنها حقيقة ستصل قريبا”(5).

إن ما أغضب أو حرض كافكا مباشرة ليس الأب أو الأنا الأعلى أو نوع من أنواع الدوال، ولكن جهاز التكنوقراط الأمريكي، أو البيروقراطية الروسية، أو ماكينة الفاشية. ولحد ما ينكسر المثلث العائلي إما في مرحلة من مراحله أو كله، ويتفكك لمصلحة تلك القوى والتي هي قوته الدافعة. ويمكننا القول إن بقية المثلثات التي تتراكم وتتطور خلفه تتضمن شيئا مرنا، تفريغيا، يتحول في نفس الوقت من مثلث لآخر، إما لأن أحد المراحل أو النقاط تبدأ بالتقدم، أو لأن أضلاع المثلث لا تتوقف عن فقدان شكلها.

وعليه في مقدمة “القضية” تتحول ثلاث شخصيات غير معروفة إلى ثلاث موظفين في المصرف، وتتحول المشكلة إلى ثلاثة مفتشين وثلاثة فضوليين يتجمعون أمام النافذة. في أول تمثيل للحكم، نكون في عالم المثلث المحدد بشكل جيد، وقوامه القاضي، وضلعان آخران، على يمينه ويساره.

ولكن لاحقا نلاحظ تقدما داخليا ينتشر مثل غزو سرطاني، عقدة لا يمكن التخلص منها وتتشكل من المكاتب والبيروقراطيين، هرمية غير محدودة ولا مفهومة، وفضاءات مشبوهة ملوثة (مع أنه يستعمل أساليب مختلفة كليا، ويمكن للمرء أن يجد الموازي لذلك عند بروست حيث أن اتحاد الشخصيات والأشكال المكونة تفتح الطريق لكوكبة سائلة، متعمقة، ومتوسعة).

وبالمثل وراء الأب، تجد كل غموض اليهود وإبهامهم، ولا سيما من غادر بيئته الشيكية في الريف لينتقل إلى البلدات الألمانية، حتى لو أن هذا يعني أنهم تعرضوا للهجوم من جهتين - من جهات مثلث التحول. وكل الأطفال يمكنهم استيعاب هذا. الجميع لديهم خريطة سياسية وجغرافية مع خط حدود متحركة ومفرغة. وهذا فقط بسبب الممرضات المرافقات، والخدم، وموظفي الأب، وهكذا. ولو احتفظ الأب بحب ابنه والإعجاب به، هذا لأنه طفل، كان الأب يواجه بعض القوى الشيطانية، بغض النظر عن أن هذا قد يعني خسارته أمامها.

ومع أن التوسيع الساخر لأوديب يسمح للمرء برؤية المثلثات القمعية الأخرى بعدسة المجهر، يبدو هناك بنفس الوقت وجود احتمال بالهروب، خط للهروب. بالنسبة للقوى اللاإنسانية “الشيطانية”، يوجد رد واحد عليها. أن تصير حيوانا: أن تصبح خنفساء، أن تكون كلبا، أن تكون قردا، “بسرعة وعزلة”، عوضا عن أن تحني رأسك وتكون بيروقراطيا للأبد أو مفتشا، قاضيا، أو محكوما. وكل الأطفال يجهزون أو يشعرون بأنواع الهرب هذه، أو الأفعال هذه التي تحولك لحيوان. والحيوان، باعتبار أنه صيرورة، لا علاقة له بالبديل عن الأب أو بالنمط البدئي (الأركيتايب). لأن الأب، يهودي يغادر البلد ليستقر في المدينة، ويسقط، بلا شك، في آلية إلغاء أرضه - الوطنية - الحقيقية. ولكنه لا يتوقف أبدا عن إعادة تحديد أرضه: بعائلته، وبعمله، وبنظام خضوعه ومسؤولياته.                    

بالنسبة للنمط البدئي هذه هي آليات إعادة تحديد أرضه الروحية (6). والصيرورة الحيوانية هي ضد ذلك بالضبط. هذه الصيرورة هي نزع حدود الأرض الوطنية بمعنى مطلق، على الأقل من ناحية المبدأ، وهي تنفذ عميقا في عالم صحراوي استثمره كافكا. “لا تزال جاذبية عالمي قوية أيضا. من أحبني أحبني، بالتأكيد كما أشعر، لأنني “مغفور له ” ليس بسبب مبدأ فراغ ويس *Weissian vacuum، ولكن لإحساسهم أنه في اللحظات السعيدة أستمتع بحرية الحركة بمستوى آخر لا أجده هنا في أي مكان” (7).

لتكون حيوانا يعني أن تشارك في الحركة، أن تجد مخرجا للهرب الإيجابي، أن تعبر العتبة، أن تصل لتدرجات في الشدة والتي لها قيمة بحد ذاتها فقط، أن تجد عالما من شدات نقية حيث كل الأشكال تذوب وتضمحل، كما يحصل في الدلالة والدوال والمدلولات، ولمصلحة مادة ليس لها شكل وقوامها تيار إلغاء الأرض، في الإشارات الضعيفة وغير الهامة.

حيوان كافكا لا يحيل أبدا إلى ميثولوجيا أو نمط بدئي، ولكنه يتوازى جوهريا مع مستويات جديدة، ومناطق شدات محررة، حيث أن المضامين تحرر نفسها من أشكالها، وكذلك من تعابيرها، من الدال الذي منحها الشكل - الصورة. لم يعد لأي شيء وجود سوى الحركة، والاهتزازات عتبات في مادة مهجورة: حيوانات، فئران، كلاب، قردة، صراصير يمكن التعرف عليها بهذه العتبة أو تلك، هذا الاهتزاز أو ذاك، في نفق أرضي معين للرايزوم -الجذمور - أو الحفرة. هذه الأنفاق هي شدات تحت الأرض. والفأر الذي سيظهر لنا، هو صفير يجر الموسيقا والمعنى من الكلمات. وفي القرد الذي سيتطور، هناك سعال “له نبرة خطيرة ولكنه لا يعني شيئا” (أن تكون قردا مصابا بالتدرن الرئوي). وفي الحشرة التي ستتحول، يوجد أنين كالتعزية يحمل معه صوت وصخب جرس الكلمات. إن غريغور سيتحول لصرصار ولكن لا ليهرب من والده وإنما ليجد مهربا، في حين أن والده لا يجد مهربا مثله. وليهرب من المدير، والعمل، والبيروقراطيين، وليصل لتلك المنطقة حيث الصوت لا يفعل شيئا سوى الهمهمة: ”هل تسمعه؟. إنه صوت حيوان، قال رئيس الموظفين”.

حقا إن نصوص حيوانات كافكا أكثر تعقيدا، كما يمكن أن تفهم من كلامنا. أو على العكس تماما هي أكثر بساطة. على سبيل المثال في “تقرير إلى الأكاديمية” المشكلة ليس في التحول إلى حيوان إنساني، ولكن أن تكون إنسانا قرديا. هذه الصيرورة تمثل بشكل محاكاة بسيطة، وهي مسألة تتعلق بالبحث عن مهرب (المهرب ليس “التحرر”). هذا المهرب لا يتضمنه فعل الهروب - العكس بالضبط. الهروب يفقد جدواه حينما يكون حركة غير مفيدة ضمن الفضاء، حركة حرية مزيفة.

بالمقابل الهروب يثبت حين يكون محطة هروبية، هروب له شدة (“لا، ليس الحرية هي ما أردته. فقط المخرج. لليمين أو اليسار. أو بأي اتجاه. أنا لا أطلب شيئا آخر”).

من ناحية أخرى المحاكاة سطحية فقط، ما دامت لا تهم إنتاج الأشكال وإنما انتاج الشدات المتدرجة للتطور المتوازي وغير المتجانس، حيث أن الإنسان يتحول إلى قرد، مثلما تحول القرد إلى إنسان. إن فعل الصيرورة هو قيمة - مضافة، واستحواذية وقابضة. ولكنه ليس تكاثرا انتاجيا ولا محاكاة. “لا أجد شيئا يجذبني في محاكاة الكائنات البشرية، وأنا أقلدها لأنني بحاجة لمخرج، وليس لأي سبب آخر”.

في الحقيقة الحيوان الذي يقبض عليه الإنسان يجد نفسه خارج حدود موطنه، وفقدان الأرض الخاصة يتسبب بها القوة البشرية. وهذه الفكرة هي ما تخبرنا به بداية قصة “تقرير”. ولكن بالمقابل إن سلطة الحيوان فيما يتعلق بإلغاء الأرض تكثف وتضاعف من أثر إلغاء الأرض التي تفرضها السلطة البشرية العاملة على نزع الأرض الخاصة (لو صحت العبارة). “إن طبيعتي القردية قد هربت مني، بسرعة فائقة وبعيدا قدر الإمكان، ولذلك إن معلمي الأول ذاته تحول إلى قرد بسببها، وسرعان ما تخلى عن دوره التعليمي وتم إبعاده إلى مصحة عقلية” (8).

وعليه هناك، قانونيا، جسر يربط تدفق الأرض الملغاة، وهو ما يغرق المحاكاة، مع أنها دائما ظاهرة مساحية (أرض خاصة). وبهذه الطريقة مع أن البستان يبدو أنه ينتج صورة للنحلة، هو بطريقة خفية وعميقة يلغي الأرض. وفي نفس الوقت النحلة بدورها تلغي الأرض الخاصة بالالتئام مع البستان: القبض على  جزء من الرمز، وليس إكثار الصورة بإعادة إنتاجها عددا من المرات. (في “تحريات كلب” نستبعد كل فكرة تشابه بكل قوانا. وكافكا يهاجم “الإغراءات المشبوهة للتشابه التي افترضها الخيال”. ومن خلال عزلة الكلب، الفارق الأهم، الفارق الفصامي، هو الذي يحاول أن يستوعبه ويفهمه). لذلك نحن لدينا أثران من آثار التطور أو التوسيع الساخر لأوديب: اكتشاف تناقضات المثلثات الأخرى العاملة تحت المثلث العائلي، والعاملة فيه. وحدود ممرات هروب اليتيم الذي يتعرض للتحول إلى حيوان.

ولا يوجد نص يبرز بشكل أفضل الارتباط بين الجانبين أكثر من “المسخ”. فالمثلث الأوديبي يشكل نفسه باستمرار. أولا، المدير الذي أصبح خطرا متطلبا. ثم الأب الذي تابع عمله في البنك والذي ينام ببذته، ليرمز للسلطة الخارجية التي لا يزال مستسلما لها. حتى وهو في بيته يكون “فقط تحت تصرف رؤسائه”. وأخيرا وبلحظة واحدة تطفل النزلاء البيروقراطيين الثلاثة الذين يقتحمون العائلة نفسها، ويحتلون أدوارها، ويجلسون “حيث كان يجلس غريغور وأبوه وأمه لتناول وجبات طعامهم”.

وكعلاقة تجمع كل هذه النقاط كان غريغور المتحول لحيوان، إلى خنفساء، خنفساء صيفية، خنفساء الروث، صرصار، يتبع خطا مشدودا يعبر عن الهرب وعلاقته مع المثلث العائلي، وبالأخص مع المثلث البيروقراطي والتجاري. ولكن في نفس اللحظة لماذا حينما يبدو أننا نفهم العلاقة بين “ما بعد” و“ما قبل” أوديب نصبح آباء وليس مخرج نجاة. لماذا نبقى في طريق مسدود؟. ذلك لأنه هناك دائما خطر العودة لسلطة أوديبية. والاستعمال المضخم والعكسي لا يكفي للحراسة من أي إغلاق، وكل تشريع مكرر للمثلث العائلي الذي يتسلط على بقية المثلثات مثل الخطوط الحيوانية.

بهذا المعنى “المسخ” قصة - نموذج لإعادة تمكين أوديب. ويمكن أن نقول إن آلية نزع حدود مساحة غريغور بتحوله لحيوان تجد نفسها متوقفة للحظة من الوقت. هل هو خطأ غريغور الذي لم يجرؤ على المتابعة للنهاية؟. لقد عمدت أخته، من أجل إسعاده، لتفريغ كل الغرفة. ولكن غريغور رفض التخلي عن لوحة السيدة ذات الفراء. ووقف مع اللوحة وكأنها صورة أرض وطنية أخيرة. وفي الحقيقة هذا ما لم تتمكن الأخت من تحمله. قبلت غريغور. ومثله قبلت زنا المحارم الفصامي، وهو زنا بعلاقات متينة، زنا محارم مع الأخت وهذا يتعارض مع زنا أوديب، فهو زنا يقدم دليلا لجنسانية غير إنسانية ، كما هو الحال في التحول لحيوان. ولكن بسبب غيرتها من اللوحة بدأت تمقت غريغور وتدينه.

من تلك النقطة وما بعد يتخلى غريغور عن أرضه ويفشل في التحول إلى حيوان. ويعيد تمكين أرضه في عقدة أوديب بواسطة تفاحة ألقيت نحوه ولم يبق أمامها سوى الموت. فالتفاحة تدفن في ظهره. وهكذا إن نزع أرض العائلة بمثلثات أكثر تعقيدا وشيطانية ليس أمامها مجال لتتطور. فالأب يطارد النزلاء البيروقراطيين الثلاثة، وهذه عودة لمبدأ الأبوة في مثلث أوديب، ثم تتوحد العائلة بسعادة وفرح غامرين مع نفسها.

أضف لذلك ليس من المؤكد أن غريغور كان مخطئا. أليس تلك الأفعال التي تحوله لحيوان لا تتبع مبادئها وفق الطريق المحدد لها - وأنها تحتفظ بقدر معين من الإبهام الذي يقود لعجزها و يكتب عليها الفشل؟.

أليست تلك الحيوانات لا تزال متشكلة جدا، وذات مدلول فائض، وبأرض وطنية محددة جدا؟. أليس كل التحول لحيوان يتأرجح بين مهرب فصامي وعائق أوديبي؟.  وغالبا ما كان يشير كافكا للكلب، وهو حيوان أوديبي بامتياز، في مذكراته ورسائله، ويعتبره وحشا فصاميا، مثل الكلاب الموسيقية في “التحريات”. أو الكلب الشيطاني في “إغراء القرية”. في الحقيقة إن قصص الحيوانات الأساسية عند كافكا مكتوبة فقط قبل “القضية” أو بنفس الوقت، كأنها نقطة مضادة تعارض الرواية التي تحرر نفسها من الاهتمامات الحيوانية ولمصلحة اهتمامات أعلى وأرقى.

 

.................

هوامش المؤلف:

 1- ماكس برود. فرانز كافكا: بيوغرافيا (نيويورك: شوكين بوكس، 1960). 20: "كافكا على علم بهذه النظريات <الفرويدية> على نحو جيد ويعتبرها دائما تفسيرات فظة وجاهزة و لكنها تظلم التفاصيل، أو لدقات القلب الحقيقية الناجمة عن المشكلة". (مع ذلك يبدو أن برود يعتقد أن الخبرة الأوديبية يمكن تطبيقها على الطفل و لاحقا فقط تجد نفسها تعمل كوظيفة من وظائف التجربة والخبرة الإلهية. ص: 32-33). وفي رسالة إلى برود (كافكا، رسائل، تشرين الثاني 1917، 167) يقول كافكا عن كتاب في علم النفس  أنه "يشترك في صفات كتب أخرى بعلم النفس، ومنذ اللحظات الأولى تبدو أطروحته مرضية على نحو مدهش، ولكن سريعا ما يشعر الإنسان بنفس الجوع القديم".

2- غوستاف يانوش، حوارات مع كافكا (لندن: أندريه دويتشي، 1971). 68.

3- كافكا. اليوميات. 24 كانون الأول. 1922. 210.

4- تيودور هرتزل. اقتباس في ويجينباخ. فرانز كافكا. أيام الصبا. (باريس: ميركوري. 1967). 69.

5- رسائل إلى برود. في ويجنباخ. فرانز كافكا. 156: "القوى الشيطانية، مهما كانت رسالتها، تحتك بالأبواب وتبتهج بفكرة أنها ستصل سريعا".

6- ملاحظة. على سبيل المثال. تحمل كافكا لقدر الصهيونية (على أنها إعادة توطين فيزيائية وروحية): ويجنباخ. فرانز كافكا. 164- 67.

7- كافكا. المفكرات. 29 كانون الثاني. 1922. ترجمة مارتن غرينبيرغ (نيويورك: شوكين بوكس: 1949). 2:215.

8- توجد نسخة أخرى من نفس النص وفيه تبدو المسألة لها علاقة بالمصحة: قارن، سعال القرد.

.........................

هوامش المترجم:

 * نسبة للدكتور إرنست ويس صديق كافكا.

*هذه هي ترجمة الفصل الثاني من كتاب :نحو أدب هامشي لدولوز وغوتاري.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم