صحيفة المثقف

محمود محمد علي: الملل.. ظاهرة فلسفية

محمود محمد عليالملل حالة عاطفية يمر بها الإنسان عندما لا يجد ما يفعله وعندما لا يشعر بالاهتمام بمن ولا بما يحيط به، علاوة علي أن الملل يمثل حالة وجدانية عابرة يفقد فيها الإنسان اهتمامه بالموجودات ويصعب عليه التركيز فيما يفعله، ويوصف الملل في علم النفس الإيجابي، بأنه استجابة لتحد معتدل يواجهه شخص يمتلك من القدرات ما يمكنه من التغلب على هذا التحدي، فالملل عامل رئيسي يؤثر في مناطق مختلفة من حياة الإنسان اليومية .

ولهذا يعد الملل من المشاعر الشائعة التي تنتاب العديد من الناس، إذ يصاب الشخص بالملل عندما يفقد الرضا عن نشاط معين فلا يهتم به، وقد يحدث الملل حين تكون مفعمًا بالحيوية ولا تجد مكانًا توجه إليه طاقتك، وكذلك عندما يصعب عليك التركيز في أداء أي عمل أو مهمة. تنتشر الشكوى من الملل بين الأطفال والمراهقين، إذ يعانون الملل عندما لا يشعرون بالراحة في التعامل مع أفكارهم أو مشاعرهم.

ومن أسباب الملل:

* إذا كان الشخص ليس لديه أهداف أو أن أهدافه في الحياة صعبة جدًا، فإن عليه إعادة التفكير حول أهدافه ومنح نفسه أهدافًا مفيدة تجعله يشعر بالحماس في سبيل تحقيقها.

* عندما تكون أهداف الشخص كبيرة وصعبة وبعيدة المنال، سيجد الشخص أن مهمته في تتبعها صعبة جدًا، ويبدأ بالنظر إليها على أنها مملة وسيؤجلها، لذلك من المهم أن يضع كل شخص أهدافًا واقعية لنفسه.

* إن الكثير من الناس متورطون في المهام والأعمال المنزلية اليومية لدرجة أنهم لا يعيشون حياتهم من أجل أنفسهم، وأداء الواجبات والالتزامات دون جني أي متعة حقيقية منها هو واحد من أسباب الملل.

* إن الاستمرار بفعل نفس الأشياء القديمة وتوقع الاستمتاع بها إلى الأبد هو واحد من أسباب تسلل الملل إلى الشخص، فعلى الشخص أن يبتعد عن وضعه الحالي ويجرب أشياء مختلفة مثل رياضة جديدة أو ممارسة هواية لديه.

* يجب أن نعود أنفسنا على العيش في شتى الظروف، هذا يعتبر دافعاً لا يسمح للملل بالتسلل إلى حياتك، أما البيئة الوحيدة التي ترتاحين فيها والبقاء في إطارها وقتاً طويلاً قد يدخل الملل إلى حياتك.

* من لا يهتم ولا يبحث عن فرص جديدة سيجد نفسه يوماً عرضة لتسلل الملل إلى حياته بشكل مفاجئ أو بالتدريج، وعندها ربما يكون قد فقد العديد من الفرص الجيدة التي أتيحت له أو لها، ويبدأ الصراع من أجل التخلص من الملل وما ينجم عنه من مساوئ، وعلى رأس ذلك تحول الملل إلى اكتئاب لعين.

وتعود أول قصة تناولت المَلَل إلى حوالي أربعة آلاف سنة مضت، وقد كُتبت على ورق البردي في مصر الفرعونية، وتروي حكاية رجل ملّ من الحياة وأعبائها فقرَّر أن يقضي أيامه من دون أن يقوم بأي عمل ولا حتى أن يأتي بأي حركة منتظراً الموت، إلى أن ظهر له أحد الحكماء وشجَّعه على الاستمرار في الحياة والتمتع بها والبحث عن السعادة فيها. ومن ثم توالت الأعمال الأدبية التي تناولت المَلَل من جوانبه المختلفة حتى العصر الحديث. فكانت مثلاً، رواية "مدام بوفاري" للروائي الفرنسي غوستاف فلوبير و"الغثيان" للفيلسوف والروائي جون بول سارتر، ورواية "إسطنبول" للكاتب التركي أورهان باموق وكلها تناولت المَلَل الوجودي الذي يمس وجود الإنسان. يقول الكاتب الروائي الفرنسي الشهير فيكتور هوغو في كتابه "البؤساء" الذي نشر عام 1862: "هناك شيء أكثر فظاعة من جحيم المعاناة، وهو جحيم الملل".

وقد تحدّث الكاتب الوجودي البريطاني (كولن ولسون) - صاحب كتاب اللامنتمي! - في كل كتبه ومذكراته كثيرًا عن ظاهرة (السأم والملل) المصاحبة للحضارة!، تحدث عنها بعمق في اطارها الفلسفي والنفسي (السيكولوجي) واعتبرها من أمراض التمدن وأسباب سقوط الحضارات وأن لها ارتباط بظاهرة (القلق)، فالسأم آفة تتآكلنا أو تأكلنا من الداخل بالفعل وتنخر في أعصابنا وأنفسنا بل وأخلاقنا وتوازننا النفسي وفي أغلب الأحيان بدون أن نشعر بهذا التآكل الباطني لنفوسنا أو حتى لحضارتنا المادية!... ويرى (ولسون) أن انتشار حالة السأم والقلق بين الناس تدفع بالكثير منهم إما للإدمان على الخمور والمخدرات أو الإدمان على (الجنس) أو الإدمان على الخرافات أو ربما الانتحار!!، كنوع من الفرار من كل هذا الملل الرهيب والسأم الكئيب!... وهي ظاهرة تصيب البشر الاغنياء أو الميسورين أكثر من غيرهم وقد تصيب الفقراء.

والأسئلة التي تتوارد في خواطرنا : لماذا يشعر الإنسان بالملل؟ ولماذا يكافحه باللهو والتسلية؟ وهل اللهو واللغو يكسران حلقة الضجر والسآمة حقاً؟ بل لماذا ارتبط الشعور بالملل مع الوحدة والانفراد؟ لماذا شكلت قضية العدالة المشكلة الإنسانية العظمى حتى اليوم، واستعصت على الحل؟! ما معنى الثنائية المشحونة بالتناقض المحيرة في الإنسان؟ بين قطبي الشيطان والملاك، والموت والحياة، والحزن والحب، والشقاء والسرور، واللانهائية والعدم؟ لماذا لا يتدفق برد اليقين إلى صدر الإنسان؟ ويبقى على سطح المعلومات؟ أين ينبوع السعادة الذي يغتسل فيه الإنسان فيولد من جديد؟ مكتشفاً المعنى في الحياة؟ باختصار هل هناك حل للمشكلة الإنسانية؟ وهل استطعنا فهم الإنسان؟ أو على الأقل وضعنا قدمنا في طريق فهمه؟

وهنا نجيب فنقول بأنه لم تفلت ظاهرة المَلَل من نطاق تأملات الفلاسفة الكبار، وذلك لأنه ظاهرة متداخلة بعمق مع الحالة الإنسانية. فوفقاً للفيلسوف الوجودي آرثر شوبنهاور، فإن حياة الإنسان، وحتى الحيوان "تتأرجح مثل البندول بين الألم والملل"، إذ إنه يرى أن الألم والملل هما المكونان الرئيسان للوجود، مما قد يُعدّ فكرة تقدِّم العزاء لكل من يشعر بالعزلة والمَلَل في ظل الإغلاق التي تفرضه علينا جائحة كورونا. ويمكن القول إن شوبنهاور كان أول فيلسوف غربي أخذ المَلَل على محمل الجد باعتباره من المآسي الأساسية للبشرية، وعرّفه بوضوح بأنه "توق دفين من دون أي هدف معيَّن". ولم تختلف نظرة الفلاسفة الكبار عن هذه النظرة السلبية إلى المَلَل فأطلق عليه الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر "الضباب الصامت"، في حين وصفه الفيلسوف الدانماركي سورين كيركجارد بأنه: "جذر كل الشرور".

فالدراسات الفعلية للملل لم تنطلق إلا مع الألفية الثالثة وهي لا تزال في بداياتها. وقد كتب الكاتب والمحرر في مجلة "المفكِّر الأمريكي" جوزيف إبشتاين أن: "المَلَل هو، قبل كل شيء، جزء من الوعي. وفي ما يتعلق بالوعي، لا يزال لدى أطباء الأعصاب كثير ليطلعونا عليه أكثر مما أخبرنا به الشعراء والفلاسفة".

ولا ننسي هنا كلام إريك فروم عن الملل حيث تحدث في كتابه (حب الحياة)، وهو عبارة عن نصوص ومقالات مختارة من ترجمة الأستاذ (حميد شهيب)، عن ما وصفه بـ“الملل الحديث”، فيقول:" هناك واقعة جد مهمة في ثقافتنا، تتمثل في كون الناس ليسوا واعيين بما في الكفاية بالمضض الذي يحدثه الملل. إذا كان المرء وحيدًا، وعندما لا يستطيع لسبب من الأسباب شغل نفسه بنفسه، فإنه يشعر، عندما لا يمتلك في نفسه مصدر القيام بشيء حيوي أو وعي ذاته، بالملل كحمل ثقيل، كشلل لا يمكنه شرحه بنفسه. إن الملل هو أصعب عذاب، وهو حديث ويقضي على كل ما حوله. والإنسان الذي يكون معرضًا للملل دون مقاومة هذا الأخير لا يشعر بأنه إنسان محبط. لماذا؟ لماذا لا يعرف الكثير من الناس الشر الذي يمثله الملل، والعذاب الذي يحدثه؟

أعتقد بأن الجواب على هذا السؤال جد بسيط؛ إننا ننتج الكثير من الأشياء التي بإمكانها أن تساعدنا للقضاء على الملل. فإما أن يتناول المرء أقراصًا مهدئة أو أنه يشرب أو يذهب من حفل إلى آخر، أو أنه يتخاصم مع الزوجة أو يترك وسائل الإعلام تنسيه أو أنه يمارس الجنس لكي ينسى الملل. فالكثير من أنشطتنا هي محاولات لكي لا يصل الملل إلى وعينا. لكن لا يجب على المرء أن ينسى هذا الشعور القاتم الذي يعمنا عندما نشاهد فيلمًا سخيفًا أو عندما نريد أن نقضي على الملل بطريقة سخيفة. لا يجب أن ننسى إذًا عذابات الضمير الذي نشعر به في داخلنا، عندما نلاحظ بأن الأمر كان مملًا، وبأن المرء لم يستفد من وقته، بل إنه قتل هذا الوقت. ما يثير الانتباه في ثقافتنا إذًا هو أننا نعمل كل شيء لكي ننقذ الوقت، لكي نقتصد الوقت، وعندما ننقذه أو نقتصده، فإننا نقتله، لأننا لا نعرف ماذا يمكننا عمله بهذا الوقت.

وكتاب أنيس منصور "وداعاً أيها المَلَل" الذي تضمَّن مجموعة من المقالات حاول استكشاف المَلَل وما يُحدثه في النفوس، فقام يشرحه فلسفيا قائلا:" الملل يشبه إلي حد كبير انقطاع التيار الكهربائي .. فانقطاع النور الكهربي يجعلنا نرى الدنيا التي حولنا في حالتين متناقضتين.. فعندما نضيئ الغرفة مثلاً، نرى كل شئ بوضوح .. المكتب والمصباح والمقاعد.. كل شئ في مكانه وبلونه وبحجمه .. وعندما ينطفئ المصباح يختفى كل شئ في الظلام .. ونغرق هذه الموجودات في حالة من العدم المؤقت .. فالملل يشبه حالتنا عندما ينطفئ النور .. إن الملل ليس هو الظلام الذي يبتلع كل ما في الغرفة، ولكنه الشعور باختفاء كل ما في الغرفة .. الملل ليس هو الاختفاء نفسه، ولكنه شعورنا باختفاء شئ.. والملل يشبه أيضا انقطاع الماء الساخن ونحن نستحم .. فقبل انقطاع الماء نشعر بالدفء والانتعاش، ونحس كان الماء يقوم بتدليك عضلاتنا وأعصابنا، ويغسل متاعبنا، ويلقي بها مع الصابون في البالوعة فلا يكون لهذا كله إلا صوت غريب .. صوت الماء وهو يتمشئ في البالوعة .. وعندما ينقطع الماء نشعر بضياع الدفء، ونشعر بالبرودة .. فانقطاع الماء ليس هو الملل ولكن شعورنا بأن الدفء قد انقطع .. بأن بالوعة أخرى قد انفتحت وابتلعت شيئا حارا مريحاً كان يغمرنا، وهذا هو الملل .. وهذا الملل أيضا الذى يصيبنا يجعلنا أقل تذوقاً للدنيا .. يجعل طعمها علي اللسان غريبا .. ويجعل ألوانها في العين غريبة، وزنينها في الأذن غريباً وملمسها في اليد غريباً أيضاً.. فالملل هو الذى يجعل كل ما خولنا غريباً .. أو يجعلنا نحن غرباء في هذا العالم  .. وغرباء عنه.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.............

الهوامش

1- مهى قمر الدين: المَلَل.. بين الشكوى والفلسفة والبحث في أصوله، العربية، الأحد 4 صفر 1443 هـ - 12 سبتمبر 2021،

2- أشرف مرحلي: الملل يؤثر في حياة الإنسان اليومية، ملاحق الخليج، 19 نوفمبر 2014 03:29 صباحا.

3- أنظر مقال : هل الملل مرض نفسي أم لا؟.. 09:31 AM | الجمعه, 23 تموز 2021

4- أنظر مقال : باسكال والمسائل الفلسفية العظمى.. الاقتصادية .. الجمعة 1 مايو 2009

5- سليم نصر الرقعي: ظاهرة السأم الوجودي ومعالجتها بالتكاثر الاقتصادي!؟.. https://www.ssrcaw.org - مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي.. 2018 / 5 / 1.

6- أحمد بادغيش: إيريك فروم وكلماته عن الملل الحديث، العلوم البشرية والاجتماعية، 29 أبريل، 2017.

7- أنيس منصور : وداعا أيها الملل، دار الشروق، ط 5، القاهرة، 2003.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم