صحيفة المثقف

خالد جودة أحمد: رواية "بني حرام": قشرة حبة الدواء الحلوة والرواية البوليسية

خالد جودة احمديمكن تصنيف رواية "بني حرام" للروائي "محمد الحريري" أنها رواية بوليسية لا شك، لكن عند الغوص في المتن الروائي، والتبصر بمراميه، نجد أن جوهر الرواية في الحقيقة تمحص مواضعات اجتماعية حول مخاطر تهدد الأبناء والغواية والتحرش والابتزاز العاطفي والفقر والقهر الوظيفي واغتيال الأحلام البسيطة.. إلى آخره. وما الجانب البوليسي إلا قشرة ظاهرية مثل غلاف السكر حول حبة الدواء. والدواء عظة تضم الرواية للأدب المثالي أو الأدب الموجه للقيم حول أن الهفوة الأولي هي القاصمة وأن الهاوية منحدر يسلم من سلامة إلى هلاك محقق، ولا سبيل للنجاة حينها.

تستهل الرواية ذاتها بموقف عصيب يتعرض له طفل، ولحظة الخطر تلك من البدء الروائي الموفق، لأنه تجذب القارئ ليتسائل عن حقيقة ما يجري في حلبة الحدث الروائي وما قصصه الخلفية التي أنتجت هذه اللحظة الخطرة. ويستأنف الروائي التصعيد ليتضح أنه حادث سير، ترتب عليه نزف مهدد للحياة، ولها ما بعده. وإذا كانت المقاربات الموفقة للآثار الأدبية ترنو إلي تقديم خيوط الحكي الرئيسة، وموضع الأحدوثة حتي يتبصر القارئ بالمتن الروائي "الحكاية" الذي يستسيغة من خلال المبني الروائي "كيف ُتحكي الحكاية؟"، فقد لا يكون هذا الأمر صحيحا بالتمام في شأن الرواية البوليسية حتى لا تفسد المقاربة متعة القارئ في إستجلاء مفاجأت الأحداث الروائية بذاته. لذلك يجرى الإكتفاء بالإلماح إلي الموضوع الروائي بعامة وتفسيره والقيم الموحية في رحابه، وبالاساس بالانشغال بالتقنيات الروائية المستعملة للبناء الروائي الماثل بين أيدي القراء.

حضر عنوان الرواية لأول مرة صفحة 16 ليتضح أنها معلم مكاني، إذ أنها قرية مجاورة للطريق، لكنه في نفس الوقت يسير للجانب المعنوي حول مآل درب الحرام، وما يفضي إليه من خسارة وحسرات. كما يشير أن الظلم الفردي يقود إلي ظلمات تسود المجتمع جميعه، بتأثير الفراشة المعروف، بمعني أن الفعل الخاص لصاحب أعمال مع مرؤسيه أو ظلم شخصي يصب عبر متحكم متسلط علي رأس مسحوق ساقته أقداره ليسقط في حبائل هذا الطاغية، يمكن أن يؤدي لدرب بني حرام الحزين.

وملاحظة عامة أن الأحداث الروائية واضحة ومرتبة وغير مرتبكة، لا غموض فبها، واللغة جيدة في بيانها، كما كانت الوقفات المثيرة في نهاية كل كتلة سردية، تمثل موقفًا عصيبا، أو أحد الإلغاز التي تحتاج للتفكيك والتفسير، ثم تأجيل الإفصاح عن المآل والحلول بعد سرد كتلة سردية أو أكثر في مسار آخر، أو من خلال ما حدث للشخصيات الأخرى، نتابع من خلالها جانبا آخر من خطوط السرد، مما اضفي التشويق في عدد من المسارات الروائية المتقاطعة، توضع بداية، ثم تفترق، لتلتقي من جديد، مع تحقيق إزاحة الزمن الروائي، بين الآني ورحلة التذكر لأصل الصراع وبواعثه النفسية لدي الشخصيات الروائية. كما كان عالم الجريمة وتدوير الأموال عبر شركات تمثل واجهة فقط للنشاط الإجرامي المخبوء، وقسوة العصابة وعتوها، وصدام الطامع والفاسد، ومآل الحرام في درب "بني حرام" من بواعث التشويق الروائي في ثوبها البوليسي القائم على التربيط بين المسارات والمفاجأت المعروفة في سرد "من فعلها؟".

وكما سبق البيان أن بالرواية إشارات جيدة لمواضعات اجتماعية حسنة وأخرى فاسدة:

أما مظاهر القهر الاجتماعي والتي تمارسها الجموع في شأن جلي في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، شأن ما اسميه (محرقة المرأة الوحيدة)، تقول الرواية ص 165: "أشباه رجال يحومون من حولها كالضباع الجائعة في انتظار الفريسة لتلتهما حية". فهي متاعب مجتمع مريض يعتبر الأنثي سلعة محتملة المنال.

أيضا التعسف المهني الذي تجلي منذ فجر الرواية وفي سمت شخصها الرئيس "مصطفي" الذي يعاني أشد المعاناة رغم حياته الأسرية الدافئة والتي استحالت جحيما، بباعث الحصول علي المفقود من المادة التي بدونها يفر الحب من الشباك والباب معا، وهنا موطن الحبكة الرئيس، وسر التصعيد الدرامي الروائي، وما نجم عن الظلم المهني، ونهب العامل، وسحق تقديره، وتوجش بعض رجال الأعمال من دواهي ومآسي مهلكة.

أيضا تلك القيم السلبية من طغيان النظرة المادية في المجتمع وهياج الذئبية، مثلها القول الروائي ص 168: "الاختيار بين أن تظل خائفًا مرتعدًا كالفأر، أم تكون أسدًا تهابك وتخشاك الضباع"، لنعرف عماء السخط، وألم الحقد، وإمتلاء الأرواح بالغضب، والذي ينذر بتسونامي يكتسح الوداد بين البشر، ويغذي شراهة الطموح المدمر ... وغير ذلك من قيم سلبية ومخاطر جمة تنبع من نفي القناعة ورغبة الصعود علي جثث المشاعر إلى قاع القاع.

ولم تتركنا الرواية دون بيان جوانب خيرة حول النفس الإنسانية، حيث توهج القوس العاطفي للشخصية الروائية -في مقابل الشر الصاعد لمن انحدر من قمة صفائه إلى قاع أطماعه- برحلة التطهير الذاتي بالمحبة، ونفي الغضب، ودور المرأة الحنون في البعث الجديد و"يقظة القلب" بتعبير الرواية، يقول المتحول للمرأة المبهجة: "أنت توبتي وحياتي". ومن ناحية أخرى هذا الشرح الرومانسي للبيت السعيد –قبل أن تدهسه غائلة الطمع- المتحقق بمظلة الأب الظليلة، وحنان الأم، فتحققت فورة السعادة.

وكان من الطبيعي في رواية تبحر في نوازع نفسية، وتجاذب حول الأهواء والمصالح وأشواق الأرواح، أن تقدم عبارات من الخلاصات الحكيمة في عبارات موفقة نقتبس منها: "الهراء أن يعيش الإنسان في حلم إنسان آخر" / "الحياة لا ُتقاس بعدد الأيام والسنين، بل ُتقاس بعدد الآلام والأحزان ... وبعدد الخبرات التي يمر بها الإنسان بحلوها ومرها".

والرواية ببنائها ومحتواها ترسل صيحة تحذير من ظلمة الطمع، وشدة التنمر الاجتماعي، ونهب العمال، وطغيان قيم المادة، وظاهرة التحرش، اختار لها الروائي الثوب التشويقي، وهو جهد روائي مقدر ننتظر المزيد من حرفيته وموهبته معا.

 

خالد جودة أحمد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم