صحيفة المثقف

جودت صالح: الصدفة..!!

أيقن أنه يستطيع أن يكف عن التفكير، ويترك نفسه في خارج اطار أية فكرة، وأبدا استعداده لكسر تلك الأطر إذا ما تزاحمت أمامه، والتي سرعان ما تحيط الفكرة العقل باطار سميك قد يكون على شكل مجموعة من الأسئلة، التي يتوجب الأجابة عليها.. وحالما يبدي استعداده للإجابة على إحدى هذه الأسئلة التي تطرحها الفكرة.. ينساق إلى الدخول في حوار ذاتي، ثم تبرز تفرعات وتشعبات قد لا تنتهي باجابة واحدة.. نعم، أن الفكرة تتناسل، وهي عجيبة وغريبة في تناسلها، والمهم في الأمر أنه بات يدرك هذه الحقيقة، وقد قرر أن يتلافى الأفكار التي تحلق حول رأسه أحياناً بإصرار عنيد، واحياناً تبدو بعضها سخيفة وبعذها الآخر مقرفاً وسوداوياً .

هل ترون.. أنه حتى هذه اللحظة التي يتحدث فيها عن عزمه على إبعاد الفكرة وإطارها، تحول حديثه ذاته إلى فكرة تشتمل على ضرورة استبعادها وتهشيم إطارها وإفراغ مضمونها، والمهم كيفية الوصول إلى هذه النتيجة، التي تستدعي التفكير بأساليب غير تقليدية تطمر الفكرة في مهدها ولا تفسح لها مجالاً لكي تستحوذ على تفكيره من جديد، طالما هو قد أدرك هذا الأسلوب، على ما يبدو، لأنه فتش عن حلول، وحين أغمض عينيه لحظة وهو مستلقي في مقهى ارستقرطي فخم تابع لأحد الفنادق الكبيرة الراقية في اسطنبول .

عصر ذلك اليوم البارد المشمس، ظهرت على شاشة تفكيره فكرة مقلقة سوداوية.. حاول أن يتجاهلها ولم يتمكن، فقد كانت تلح عليه.. أخرج دفتر مذكراته وتصفح ما كتبه مساء اليوم الماضي.. فرأى الفكرة تطفح من بين السطور بإلحاح.. قلَبَ الصفحات، فأخذت الفكرة تتقافز بين السطور كسمك السلمون على سطح الماء.. وفكر كيف سيعالج الأمر؟ ومن أين يبدأ ؟ ركز بامعان شديد على البديل أو نقيض الفكرة.. البديل الذي يكسر الفكرة، ويستمر في الطرق عليها والتركيز على البديل.. عندها وجد نفسه قد استطاع ان يبعد الفكرة السوداوية عن تفكيره ويحل بديلها.. لقد تمكن من ان يدخل شيئاً من الارتياح الى نفسه .

الفكرة السوداوية التي هاجمته جاءت بشكل تراتيبي مستفز:

إن زوجته لم تتصل به لحد الآن.. وهذا شيء غريب حقاً.. ربما هنالك ما يمنع من اتصالها.. فهو يعرفها جيداً، كم هي حريصة على ذلك.. ولكن لماذا لم تتصل لحد الآن؟ هل أن ثمة مكروهاً حل بها.. لماذا لا تجيب على الهاتف.. وكذلك الأولاد، كل هواتفهم مقفلة.. عجيب، من المستحيل أن يكون اقفالها صدفة.. إذن، هنالك مانع قاهر.

طبعاً.. هذا مسلسل الفكرة قد اشاع القلق حقاً وسيطر على تفكيره بالكامل وبلغ به حافة الشلل الفكري.. عالج فيها الموقف، فقد بدأ يفكر في نقيض الفكرة، في البديل، وهو أن شبكة الهاتف معطلة فنياً، الأمر الذي يجعل الهواتف الجوالة مقفلة وإن عدم اتصالها قد يكون مرجعه هذا الاحتمال أو أن هاتفها قد تعطل أو تحطم أو ضاع.. وربما هي مشغولة بأمور تمنعها من الإتصال، والحالة تستوجب التريث حتى الصباح.

كان هذا الحل يبعث على الراحة النفسية والهدوء ويدفع باتجاه الأمل .

وفي أقل من ثلاث أو أربع ساعات شعر بالحاجة إلى الإتصال.. وظهر الصوت في الطرف الآخر.

– لقد فزعت من عدم اتصالك، لقد تملكني الخوف .

– وجاءت ضحكتها تهز ارجاء العالم كله.. لقد اوقفوا شبكة الاتصالات لاسباب تعرفها منذ مساء أمس.. كما أني لم اتصل بك لأن رصيدي قد نفد أولاً، كما أن شحن البطارية قد نفد هو الآخر بسبب عطل في الكهرباء.. لقد انفجرت محولة المنطقة نتيجة الزخم الهائل عليها دونما تخطيط.!!

إذن.. كان بديل الفكرة السوداوية حاضراً، استطاع ان يكسر التراتيبية في الحالة السوداوية، التي هاجمت تفكيره وعكرت مزاجه ساعات وساعات من الإختناق والشعور بعدم الأرتياح.!!

كان عليه أن يتخطى ذلك الشعور الذي يراوده كلما أمعن في النظر في تلك المقولة، التي تتحدث عن الصدفة، وفي ما إذا كانت محكومة بقوى خارجية.. بمعنى الأحداث والأفعال ومساراتها في الخارج قد يكون لها دخل في ايقاع الصدفة في المكان والزمان المعينين.. أو أن الفعل او الحدث لا تحكمه الصدفة أبداً وهو محدد ومقنن مسبقاً لا يحيد عن نهايته المرسومة بقدر.. تلك هي اللمحة الغيبية التي تراود تفكيره والتي سرعان ما حاول ان يستبعدها عن ذهنه المرهق، لأنه لم يجد لها جواباً قاطعاً.. كيف تحدث الصدفة ولماذا؟

في هذه اللحظة.. كان قد عاف مقعده وغادر المقهى ومشى على الرصيف، ثم استقل حافلة كانت مزدحمة بالأجساد البشرية.. وعند منعطف الشارع المحاذي للبحر الذي تجاوز السور الحجري، كانت مآذن الجامع الأزرق تطل من بعيد .

توقفت الحافلة.. أفرغت ما في جوفها دفعة واحدة ولم يبق فيها احد.. نزل إلى الشارع الذي كان مكتظاً بالناس.. رأى جمهرة تتحلق بشكل دائري.. وحين اقترب منها رأى رجلا ممددأً على الأرض ينزف صدمته سيارة أجرة حين كان يهم بالعبور.

– ياأألله.. ما هذا الحادث المروع؟ وكيف حدث ذلك لهذا المسكين.. لقد كان واثقاً بأنه سيعود إلى بيته بعد هذا المشوار.. ولكنه لم يكن يتوقع، وفي هذا المكان من التقاطع المزدحم أن تكون نهايته المفجعة.. ثم لماذا كان السائق مسرعاً إلى تلك الدرجة.. ربما كان يطارده أحد وانه يريد أن يختفي عن الأنظار بين تلك الشوارع الضيقة المزدحمة.. كل تلك الأسئلة دارت في ذهنه، ولكن جدالاً بين احد المارة وشرطي المرور صاحب الدراجة الذي كان يطارده، اسفر عن ان السائق كان في حالة من الخوف بعد تجاوزه الإشارة الضوئية، وهو يعلم أن مثل هذه المخالفة ستحرمه وفقاً للقانون من استخدام اجازة السوق لمدة ستة أشهر مع غرامة كبيرة.. لقد طار صوابه حين طارده شرطي المرور بدراجته، لأن جريمته في هذا الشأن مضاعفة.. لقد كان مذعوراً، ولكن كان عليه أن يتوقف.. هذا الحوار وضعه تماماً أمام موضوع الصدفة .

السائق مطارد ومسرع ومذعور.. والضحية مسترخي يريد أن يعبر الطريق، ولكن أين هو الخطأ ؟ فهو لم يكن يأخذ الأمر على أساس الخطأ.. كلاهما كان مخطئاً.. ولكن كيف شاءت الصدفة أن يأتي في هذا المكان وذاك التوقيت ليعبر الشارع، وفي الوقت ذاته يقع الحادث ؟ لماذا هذا وليس غيره؟ ربما لو كان قد تأخر ثوان معدودات لكان قد عاد إلى بيته.. لو كان قد تأخر دقيقة واحدة، ربما لكان هنالك ضحية أخرى غيره، وربما لا ضحية على الأطلاق.. لأن الناس ربما في تلك الثانية قد كفوا عن العبور.. وربما قد تمكن السائق المذعور من الهرب.. وربما راكب الدراجة الشرطي قد عمل حادثاً آخر بدلاً منه.. لو كان قد قرر أن لا يخرج من البيت لبقي حياً .!!

يقول الشاعر العربي الكبير محمود درويش عن الصدفة :

لو لم أكن أو أكون..

نجوت مصادفة

كنت اصغر من هدف عسكري

واكبر من نحلة تتنقل بين زهور السياج

كان يمكن ان لا احب الفتاة التي سالتني كم الساعة الان

لو لم اكن في طريقي الى السينما،

كان يمكن ان تكون خلاسية مثلما..

هي او خاطراً مبهما..

كان يمكن ان تسقط الطائرة بي صباحاً..

ومن حسن حظي اني نؤوم الضحى

فتأخرت عن موعد الطائرة..

كان يمكن ان لا ارى الشام والقاهرة..

ولا متحف اللوفر والمدن الساحرة..

كان يمكن لو كنت ابطأ في المشي

ان تقطع البندقية ظلي

مع الأرزة الساهرة..

كان يمكن لو كنت اسرع في المشي

ان اتشظى

واصبح خاطرة عابرة..

كان يمكن لو كنت أسرف في الحلم

ان افقد الذاكرة..!!

عاد مهموماً..ولم تفلح مداخلاته في التوصل الى نتيجة، فقرر العودة الى البديل لتكسير الحادث المأساوي الذي ظل عالقاً في ذهنه، حين دخل الى مكتب الحجوزات في الميناء لحجز مقعد في (عبارة) تقله الى مدينة (يلوا) الساحلية لقضاء يوم أو يومين، ولم توقفه حزمة الأسئلة التي طرحها على نفسه حول الضحية.. ومنها على وجه التحديد.. لو لم يخرج من البيت فهل كان قد مات ؟، إنه ربما سيؤجل موته، ولكنه لا يعرف متى وكيف؟!

***

 

د. جودت صالح

01/09/2019        

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم