صحيفة المثقف

منى زيتون: هل العقاب خطأ تربوي؟

منى زيتوناختلف الفلاسفة والمفكرون حول فلسفة العقاب، فمنهم من قال إن العقوبة تُطبق لأجل تحقيق العدالة، فلا يعنينا إن كان المُعاقَب سيتعظ أم لا، أو سيكون عبرة لغيره أو لا يكون، فهو يُعاقب لأنه من العدل أن يُعاقب على خطئه، وهذه الفلسفة هي التي تقف وراء تطبيق العقوبات الكبيرة كالإعدام أو السجن مدى الحياة، وتعد أقدم الفلسفات التي تفسر العقاب.

وهناك فلسفتان أخريتان تفسران العقاب؛ إحداهما هي فلسفة الردع؛ بمعنى أن العقوبة تكون لأجل ردع من وقعت عليه عن أن يعيد ويكرر الفعل الذي أدى به إلى العقاب، أو لأجل ردع باقي أفراد المجتمع أن يفعلوا ما فعل كي لا يلقوا المصير ذاته، وتظهر فلسفة الردع العام هذه في تنفيذ بعض العقوبات أمام جمع غفير من الناس.

وهناك فلسفة الإصلاح وتعديل السلوك، وهي فلسفة تُستخدم بالأساس في مجال التربية، وإن كانت الدول تستخدمها أيضًا مع من كانت عقوبتهم السجن وسيخرجون إلى المجتمع بعد انقضاء فترة عقوبتهم التي يقضونها بعيدًا عن المجتمع.

وفي مقال "تعديل السلوك ما بين السلوكية والمعرفية" تطرقنا إلى مفاهيم التعزيز والعقاب، وفهمنا أن التعزيز هو أي إجراء يُستخدم بهدف زيادة احتمال تكرار الاستجابة السلوكية الجيدة التي صدرت عن الفرد، وأنه قد يكون موجبًا (تعزيز تقديم) أو سالبًا (تعزيز إزالة)، كما عرفنا أن العقاب –على العكس من التعزيز- هو أي إجراء يُستخدم بهدف كبح وإضعاف السلوك السيء الذي صدر عن الفرد، وأنه قد ‏يكون موجبًا (عقاب تقديم) أو سالبًا (عقاب إزالة).

ومفهوم العقاب الموجب الذي يتم فيه تعريض الشخص الذي يتم عقابه إلى مثير منفر كريه بالنسبة إليه –كالضرب البدني أو التوبيخ- بعد أن يقوم بالسلوك الإجرائي السلبي يعتبر من أكثر المفاهيم التي تلقى معارضة وانتقادات من التربويين في العقود الأخيرة، إلى درجة دفعت نسبة لا بأس بها من الآباء إلى الاعتقاد بأنه خطأ تربوي يُحظر الاقتراب منه أو اللجوء إليه. وهذا على الرغم مما أظهرته نتائج دراسات علماء مدرسة الإشراط الكلاسيكي من أن ربط التعرض لمثيرات منفرة بارتكاب السلوك السلبي يعتبر من أفضل الطرق لتعديل السلوكيات السلبية، حتى أن هناك مصحات نفسية في دول الاتحاد السوفييتي القديم لا زالت تستخدم الجلد ضمن إجراءات التنفير للعلاج من إدمان الكحوليات.

ومن المنظور الإسلامي فإن الضرب غير المبرح لا يُجرَّم تمامًا ويستخدم كعقوبة عادلة، حتى وإن لم يكن علاجًا لما يمكن إصلاحه. ويُقال إن الضرب للأب واحدة وللمعلم عشرًا، ويُروى كذلك أن سيدنا علي كان قد ترك الحسن والحسين ضمن قوة ممن يقفون أمام دار الخلافة لحماية سيدنا عثمان من الثائرين عليه، ولكن هؤلاء –وكانوا كُثر- تسلقوا الحيطان ودخلوا الدار من موضع آخر، وقُتل الخليفة، فما كان من سيدنا علي لما عاد من المسجد ووجد هذا إلا أن ضرب الحسن ولطم الحسين.

ولكن وفقًا للمفاهيم التربوية الحديثة فعقاب التقديم الموجب –خاصة إن تضمن العقوبة البدنية- لا يُستخدم سوى في الظروف الحادة والحرجة، التي تم تجريب كل أنواع تعديل السلوك الأخرى والعلاج معها، ولم تُجدِ نفعًا، وعندما يكون السلوك المراد إصلاحه وتعديله شديد الخطورة على الفرد والآخرين المحيطين به.

ويتعدى حديث التربويين عن العقاب الموجب إلى الحديث الدؤوب عن تأثيراته الانفعالية السلبية على الفرد، ومحاولته تفاديه، خاصة عندما تكون العقوبة شديدة، مثل عقوبة السجن، والتي تدفع الشخص الذي قُررت في حقه العقوبة إلى محاولة تفاديه بكل السُبل، بدلًا من الإقرار بذنبه، وتقبل العقوبة. بينما المفترض ألا يكون العقاب إذلالًا؛ فبنو آدم مكرمون.

وهنا لا بد من إثارة تساؤل هام أرى أنه لا بد منه، وهو عن عقوبة العمل للصالح العام، ولماذا نفتقدها في بلداننا العربية عندما يكون الجُرم بسيطًا ويحدث لأول مرة. أليس أفيد للمجتمع أن يقدم الفرد خدمات مجانية كتنظيف الشوارع وطلاء الحوائط من أن يُسجن أسبوعًا أو شهرًا كعقوبة على خطأ بسيط يحدث منه للمرة الأولى! وهذا الشكل من العقاب مطبق في كل دول العالم المتحضر، وفي منطقتنا يوجد في تركيا وفيما يسمى دولة إسرائيل.

حقيقة الأمر إننا نحيا في مجتمع لا يشجع الإنسان على الاعتراف بخطئه، بل إن الاعتراف بالخطأ قد يعتبر تدميرًا للذات، لأنه حتى بعض الأخطاء الصغيرة ‏قد تكون عقوبتها مدمرة لأحلامه إن كان طالب علم أو لمكانته الاجتماعية إن كان راشدًا.‏

وفي إحدى التجارب النفسية تم تقسيم مجموعة من الراغبين في العمل في مجال الإطفاء إلى فريقين؛ أحدهما تلقى محاضرات تركز على الخطوات الصحيحة لأداء مهام رجل الإطفاء، والفريق الآخر تركز الشرح على أشهر الأخطاء التي يقع فيها جنود الإطفاء أثناء عملهم على إطفاء الحرائق، ثم تم اختبار الفريقين، فوجدوا أن الفريق الثاني الذين تركز الشرح لهم على ذكر الأخطاء كانوا أكثر كفاءة وأبعد عن الوقوع في الأخطاء أثناء أداء مهمة الإطفاء من أفراد الفريق الآخر الذين تركز الشرح لهم على الخطوات الصحيحة.

ومن هنا استنتج الباحثون أن الإنسان يتذكر الأخطاء ولديه دافع فطري لتجنب الوقوع فيها، خاصة تلك التي تتسبب في لوم أصحابها أو توقيع عقوبة قاسية عليهم.

ومن منظور آخر، يمكن القول إن أغلب الناس يميلون إلى تذكر الخطأ بأكثر مما يتذكرون الصواب، وأن أكوامًا من المعروف قد تُنسى أمام خطأ واحد، وهو ما يمكن وصفه أحيانًا باللؤم، وتوجد مقولة منسوبة للإمام علي بن أبي طالب تقول إنه يأتي على الناس زمان تكون العافية في عشر تسع منها في اعتزال الناس والعاشرة في الصمت. ويبدو أننا قد بلغنا هذا الزمان.

 

د. منى زيتون

الثلاثاء 19 أكتوبر 2021

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم