صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: ما بعد الصحافة.. كيف يقود الاقتصاد الاعلام الواسع؟

حاتم حميد محسنان الأعضاء من القراء لايدفعون النقود لأجل الحصول على الأخبار لأنفسهم لأنهم يعرفون تلك الأخبار سلفا. هم يحتاجون الى غرف أخبار تعمل بالقيم وليس بالأخبار، هذا أجبر تدريجيا الصحافة لتتحول الى ما بعد الصحافة postjournalism – بروبوغندا ذات تمويل جماعي .

الصحافة الكلاسيكية تظاهرت بالموضوعية، كافحت لوصف العالم كما هو. اما ما بعد الصحافة فهي معيارية ، تفرض الكلمة كما يجب ان تكون. (اندريه مير، ما بعد الصحافة، ص7،264)(1).

كتاب ما بعد الصحافة لاندريه مير يقدّم سردا قويا وكاسحا لكيفية تطور أخبار الميديا عبر القرون. الاطار الذي اعتمده مير هو ان تكنلوجيا الاعلام تقرر الكيفية التي تُدعم بها الصحافة ماليا، وان اولئك الذين يموّلون اخبار الميديا هم بدورهم يصوغون محتواها. في القرن الواحد والعشرين، خسر قطاع الصحافة عائدات الاعلان الى شركات الانترنيت بدءأ من كريغلست وحتى غوغل. جائحة كورونا قلّصت إعلانات الصحف الى مدى أبعد. القليل من الصحف أنقذت نفسها عبر توليد اشتراكات مدفوعة عبر الانترنيت. يجادل المؤلف ان هذا غيّر الكيفية التي تصف بها الميديا حياتنا. "الميديا التي تعتمد على عوائد الاعلان تجعل العالم يبدو سارا، اما الميديا المعتمدة على عائدات القرّاء تجعل العالم كئيبا"(ص8). المعلنون يريدون الوصول الى الجمهور الذي هو في سلام نسبي. ولهذا، فان عصر الميديا المدعومة بالاعلان كان من النوع الذي لايغذّي الجدل والكراهية. لكن القصص الهادئة نسبيا لا تحفز الناس لدفع اجور الاشتراكات. اليوم، يمكن للناس الحصول على الأخبار مجانا. هم يستطيعون الحصول على المباريات الرياضية والمعلومات المالية والتسلية بدون الذهاب الى الصحف. يرى مير ان الناس هذه الايام يدفعون للصحف لتأكيد مصداقية وجهات نظرهم . الصحف تقوم بهذا بفاعلية عبر إبراز قصص حول الأفعال المخزية لخصومهم من السياسيين المشتركين .

يرى المؤلف ان الاشتراكات الحالية عبر الانترنيت هي في جزئها الاكبر عبارة عن تبرعات. الكاتب يسمي هذا "الاشتراك التبرعي"، "الاشتراك بمصدر اعلامي مفضل يشبه مساعدة فريقك الرياضي المفضل او الكلية التي تخرجت منها. المشتركون المتبرعون لا يهتمون حقا في اكتساب المعلومات ..". المشتركون يريدون رفع مكانة قصصهم المفضلة. "الدعوة الى الاشتراك كتبرع يجعل الميديا تسيّس وتثوّر وتستقطب البرامج، وتساهم في الانقسام العام في المجتمع" (ص13).

2920 الصحافةفي الحقيقة، من الصعب على أي صحيفة ان تكون قادرة على تنفيذ نموذج الاشتراك التبرعي بنجاح. يقارن مير الصحافة المطبوعة عام 2002 مع اشتراكاتها الرقمية عام 2019. وفق هذا القياس، الواشنطن بوست و نيويورك تايمز ضاعفتا جمهورهما من القراء. لكن صحفا اخرى مثل لوس انجلس تايمز و صحيفة سان فرانسسكو، واجها هبوطا في جمهورهما بنسبة اكثر من 80%. الكاتب يرى ان حضور دونالد ترمب في المسرح السياسي كان عاملا رئيسيا بتعجيل النزعة نحو ما بعد الصحافة. قبل عام 2015، حاول التيار الرئيسي للميديا الحفاظ على ممارسات الصحافة الموضوعية التي تأسست خلال العصر المدعوم بالاعلانات. وفي السنوات الخمس اللاحقة، اتجهت تلك الصحافة نحو النشاط والمبالغة، ناشرة ادّعاءات تواطؤ ترامب مع روسيا كمثال على ذلك. ومع هزيمة ترامب، يتنبأ المؤلف بهبوط هام في الاشتراكات المدفوعة. يرى مير ان ما نعتقده كصحافة موضوعية "تقليدية" ليس هو العقيدة التاريخية. قبل اواخر القرن التاسع عشر، كانت الميديا المطبوعة ثمينة جدا. كانت النخب هي فقط منْ يدفع للصحف وكانت تنال الاهتمام من تلك النخب. ومنذ عام 1800، أدّت الاختراعات الى هبوط دراماتيكي في كلفة الطباعة. ومع ارتفاع نسبة الأبجدية، قاد هذا الى تحوّل في صناعة الصحف. ومنذ ذلك الوقت،اعتمد تأثيرها السياسي والتجاري ليس على الناس المتعلمين للقراءة، وانما على كلفتها للجمهور. مختلف نماذج التمويل اصبحت ممكنة مثل، التمويل السياسي، تجارة الصحف، بيع الاعلانات ومختلف التراكيب من بين تلك (ص51).

واجه الإعلام الواسع تكاليف ثابتة عالية وتكاليف حدية قليلة مع منافسة محدودة وأرباح مضمونة نسبيا. الصحف أمتعت الجماهير بالكاريكاتير والرياضة. اما التلفزيون فقد أمتعهم بالمسلسلات الكوميدية. هذه التسلية رافقتها تقارير الاخبار الموضوعية التي خدمت مصالح المعلنين عبر عدم دعم اي وجهة نظر سياسية معينة. يكتب مير: "الاخبار ذاتها سلعة شديدة التناقض . انها دائما "تحتاج" لتُقرأ، هي دائما تشكل نوعا من الطلب من الأسفل. ولكن هناك دائما شخص ما من الأعلى يريد ان يدفع لأخبار معينة لكي تُسلّم للعامة. واولئك الذين في الأعلى – الذين هم في السلطة او المعلنين – يريدون ان يدفعوا لتسليم الاخبار الملائمة اكثر من اولئك الذين في الاسفل الذين يرغبون وقادرون على الدفع لإستلام الصحف (ص55). بكلمة اخرى، "محتوى الصحف سوف يُدفع له دائما .. من جانب اولئك الذين يريدون تسليمه وليس من قبل اولئك الذين يريدون استلامه" (ص137).

باختصار، اولئك الذين يوفرون الدعم المالي لميديا الاخبار سوف يحددون ما يُعرض على الجمهور. ومع تراجع اعلانات السوق الواسع من الصحف، والتحول الى الاشتراكات عبر الانترنيت، فان الاخبار اللطيفة المفضلة من جانب المعلنين تتلائم مع الرؤية المفضلة من جانب المتبرعين المشتركين.

ان وفرة الأخبار في المواقع الالكترونية والتواصل الاجتماعي يخلق الميول بعيدا عن الموضوعية في الصحف. التقارير المباشرة بواسطة الصحف التقليدية تضيف نسبيا القليل لما يعرفه الناس سلفا. "في سنوات الـ 2010، ومع الانتشار الواسع للانترنيت والتواصل الاجتماعي، اصبحت الصحافة تميل لتكون مفضلة للآراء. التقارير استسلمت للتعليقات (ص100).

يؤكد المؤلف على ان حرية الكلام هي تحت النار لأن الوصول الى الميديا اصبح ديمقراطيا. قبل الانترنيت، كان الكلام يُنقّى بفاعلية عبر كلفة الحصول على قدرة استعمال الاعلام الواسع. ولكن الان: "اصبحت حرية الكلام مضمونة تقنيا لكل شخص وبالتالي فقدت قيمتها العالمية الهامة، كذلك، الانتاج المفرط للكلام الحر ادّى الى ضرورة ان يجد المجتمع آليات تنقية اخرى ...(ص280).

مع افتراض ان الغالبية حقا يخشون من الكلام الحر. فنحن لدينا الرغبة المترفة في مناصرة الكلام الحر طالما اولئك الذين يزعجوننا لديهم امكانية قليلة في الوصول للجمهور الواسع. ولكن مع توفر مكبر الصوت megaphone لأي شخص، اصبحنا ندرك اننا نريد تقييد محتوى ما يقوله الناس الآخرون.

في الحقيقة، يجادل الكاتب ان العديد من قيمنا الليبرالية التنويرية هي نتاج عصر الميديا الذي بدأ قبل خمسة قرون وانه ربما ينتهي الان."الصحف او مقالات المجلات كانت آخر نص للحداثة، آخر نص لعصر الابجدية، آخر نص لغوتنبرغ وبالحقيقة، آخر نص".

كيف نستطيع الدفاع عن الليبرالية ضد ما بعد الصحافة بالذات والتأثير الما بعد حداثوي للميديا المعاصرة بشكل أعم؟

"الحقيقة الرقمية اصبحت بيئة طبيعية للناس . لا حاجة هناك لتعليم أي شخص كيف يستعمل التواصل الاجتماعي او الانترنيت، تماما مثل عدم الحاجة لتعليم الناس كيف يتنفسون. هذه المهارات تأتي طبيعيا. تعليم الميديا يجب ان يركز على مقاومة سلطة القوى الطبيعية. تقنيات السيطرة على شيء رقمي يجب ان تعلّم المستخدمين على كيفية عدم التنفس (ص374). ومع أهمية تعليم الميديا فان رسالة مير يجب ان تُقرأ وتعاد قرائتها.

 

حاتم حميد محسن

...............................

How Economics Drives News media, The Library of Economics and Liberty, July, 2021

(1) كتاب اندريه مير (ما بعد الصحافة وموت الصحف،الميديا بعد ترامب: صناعة الغضب والاستقطاب) صدر في اغسطس 2020 في 388 صفحة.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم