صحيفة المثقف

محمود محمد علي: أبو الوفا التفتازاني: شيخ مشايخ الروحية الإسلامية (2)

محمود محمد علييحتل أستاذنا الدكتور أبو الوفـا التفتازاني مكانـة ممتازة فـي حياتنـا الفكرية والاجتماعية. ليس بوصـفة أستاذا جامعيا قـديرا أثرى المكتبة العربية والإسلامية بمؤلفات جادة تكشف عن خصوبة في الفكر وسلامة في المنهج وإنمـا بحكم مشاركته أيضا في الحياة العامة والتحامه بقضايا الـوطن وشئونه المتعددة، فضرب بذلك مثلا للأستاذ الجامعي وللمثقف الواعي بدوره في قضايا أمته والتحامه بمشكلاتها. فـإذا أضفنا إلى ذلك أن أستاذنا الدكتور التفتازاني يمثل قيمة روحية بوصفه شيخا لمشايخ الطرق الصوفية في مصر، ورئيسا للمجلس الصوفي الأعلـى أمكننا أن نتبـين حجم الارتباط الروحي بينه وبين الملايـين من الملمين المنتمين للطرق الصوفية داخل مصر، وليس هذا بكثير عليه فهو يمثـل نموذجا فريدا، ومثلا أعلـى للصوفي المحقق عقيـدة وسلوكا؛  واذا وضعنا في الاعتبار أن للطرق الصوفية وجودهـا وثقلهـا وحجمهـا الهائل في مصر، بل وفي كثير من المجتمعات الإسلامية المعاصرة شرقا وغربا، أمكننا أن نتبين قيمة للدكتور التفتازاني بوصفة صوفيا ظل حتي أخر لحظة من حياته حريصا على أن تكون هذه الطرق صورة صحيحة للإسلام عقيدة وسلوكا، وذلك من منطلق إيمانه الراسخ بأن هـذه الطرق إن كانت قد أدت في الماضي دورها في خدمة الإسلام ونشره وترسيخ أخلاقياته ومثله، فإن ذلك من دلائل عظمة مؤسسيها وقدرتهم علي القيادة الروحية للجماهير (11).

وإذا كان أستاذنا الدكتور التفتازاني قد بذل الكثر من أجل هـذه المهمة النبيلة خدمة للإسلام، وتصحيحا لصورة التصوف الصحيح الذي لا ينفك عنه عقيدة وشريعة، فإن ذلك يضاعف من أهمية دراسة هذه الشخصية الفريدة بسلوكها، وتسليط الأضواء على أراءها مادام التصوف مكونا من أهم مكوناتها، وما دامت لها هـذه المكانـة الروحية في قلـوب الملايين المسلمين في مصر وخارجها. وفضلا عن هذا كله، فإن أستاذنا التفتازاني بحكم تخصصه الأكاديمي في الفلسفة الإسلامية والتصوف علي وجه التحديد قد أضاف الكثيـر إلى هذا التخصص، بـل لا نبالغ إذا قلنا أنه واحد من ألمع المشتغلين به في عالمنا العربي والإسلامي؛ لكل هذه الاعتبارات كان ضروريا أن يكون أستاذنا التفتازاني مجالا للدراسة والبحث من قبل الباحثين والمنصفين. ونظرا لتعـدد جوانب هذه الشخصية وتراثهـا الفكـري في أكثر من مجـال، ومن ثـم فقـد أردنا أن نكشف في هذا عـن مفهـوم التصوف ومنهج دراسته عند التفتازني. (12).

كما يعد شيخنا الدكتور التفتازاني شيخ باحثي التصوف، وإمام الدراسات الصوفية الإسلامية. وهو – ومعه المرحوم الدكتور أبو العلا عفيفي، الرائد الأول، والمرحوم الدكتور محمد مصطفي حلمي خريج الدفعة الأولي من الجامعة المصرية، والمرحوم الدكتور محمد علي أبو ريان من أهم علماء التصوف من المسلمين المعاصرين الذين كما قلنا من قبل حددوا، ورتبوا موضوعاته، وكشفوا النقاب عن شخصياته، وبالجملة صاغوا الأطر النظرية في هذا المجال لما يأتي بعدهم في درس التصوف، والكشف عن أبعاده، والتعريف بالتجربة الصوفية وخصائصها، والأهم من ذلك وضع المنهج العلمي لهذا الدرس، ومن بين هؤلاء العلماء الرواد ينفرد شيخنا التفتازاني بتحديد مكانة التصوف بين علوم الفكر الإسلامي متابعا من القدماء كلا من: القشيري، والطوسي، والكلاباذي، والغزالي . ومن المحدثين كل من الشيخ مصطفي عبد الرازق، ومحمد مصطفي حلمي، وكل من إبراهيم مدكور وتوفيق الطويل، حيث يحدد لنا الفكر الإسلامي في مجال العلوم الشرعية، فالفكر الإسلامي، أو الفلسفة الإسلامية عنده هي تلك الفلسفة التي نشأت وتطورت في ظل الإسلام وحضارته، وارتبطت به بأنواع مختلفة من الارتباط . إما بالدفاع عن عقائده، أو بالفهم الدقيق لأحكامه الشرعية العملية الفرعية واستنباطها عن أدلتها وأصولها، أو العناية بجانب التذوق الروحي لأحكامه وأخلاقه، أو بالملائمة والتقريب بينه وبين فلسفات أخرى وافدة إلي المسلمين (13).

وشيخنا الدكتور التفتازاني يحدد للتصوف خمس خصائص نفسية وأخلاقية وأبستمولوجية هي: الترقي الأخلاقي، الفناء في الحقيقة المطلقة، العرفان الذوقي المباشر، الطمأنينة أو السعادة، والرمزية في التعبير (14).

وبناء علي ذلك يقدم لنا تعريفا للتصوف يعد من وجهة نظر الدكتور التفتازاني أشمل من غيره وهو: التصوف فلسفة حياة وتهدف إلي الترقي بالنفس الإنسانية أخلاقياً وتتحقق بواسطة رياضيات عملية معينة تؤدي إلي الشعور في بعض الأحيان بالفناء في الحقيقة الأسمي، والعرفان بها ذوقا لا عقلا، وثمرتها السعادة الروحية ن ويصعب التعبير عنها بألفاظ اللغة العادية لأنها وجدانية الطابع وذاتية (15).

وينظر الشيخ الأستاذ الدكتور التفتازاني إلى التصوف الإسلامي علي أنه قسم مـن أقسام الفلسـفة الإسلامية، وأصالته ترتد عنده إلي مفهومه عن الفلسـفة الإسلامية ذاتهـا، فهي التي نشأت وتطـورت في ظـل الإسلام وحضارته، وارتبطـت به بوجـه من وجـوه الارتبـاط، إمـا بالدفاع عـن عقائـده، أو بالفهم الدقيق لأحكامه العملية الشـرعية واستنباطها من أدلتهـا الأصولية، أو العناية بجانب التذوق الروحي لأحكامه وأخلاقه، أو بالملائمة والتقريـب بينه وبين فلسفات أخـري وافـدة للمسلين (16).

وانطلاقا من مفهوم الدكتور التفتازاني للفلسـفة الإسلامية من ناحية ومفهومه للتصوف ووضعه فـي دائـرة العلـوم الشرعية المعبـرة عـن الفكـر الفلسـفي الأصـيل فـي الإسلام مـن ناحية أخري، يميز بين زاويتين متكاملتين في التصوف؛ أحداهما تتمثل في التصوف المعتدل الذي يعبر عن المثل الديني الأعلى، وهو التصوف الذي أشار إليه القشيري في رسالته والذي بني على قواعد وأصول صحيحة في التوحيد الذي صان به الصوفية عقائدهم من البدع ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فیه تمثيل ولا تعطيل . وعرفوا ما هو حق القدم  وتحققوا بما هو نعت الموجود عن العدم تحقيقا لقول الجنيد سيد الطائفة : " التوحيد إفراد القدم عن الحدوث" (17).

وأما الفرع الثاني من التصوف فهو المعروف بالتصوف الفلسفي الذي داخلته عناصر من الثقافات الأجنبية كالفارسية واليونانية فهو هذا النوع من التصوف الذي حفل بالمصطلحات الفلسفية والصوفية والكلامية في مزيج جعل منه مرحلة أخرى من مراحل التصوف بدأت أولى حلقاتها في القرن الثالث الهجري في الفلسفة الإلهية التي تأثرت بالأفلاطونية المحدثة، كما برهن على ذلك الأستاذ نيكلسون في بحثه المنشور بجامعة كمبردج سنة 1898 م على حد تعبير أستاذنا المغفور له بإذن الله تعالى (18)

وهنا ينظر شيخنا الدكتور التفتازاني إلي التصوف علي أنه خبرة باطنية، وليس شيئا مشتركا بين الناس جميعا، وهذه الخبرة الباطنية لا يمكن بالتالي الوقوف علي كثير من جوانبها، لأنها تتعلق بالحياة الباطنية أكثر مما تتعلق بالمظهر الخارجي للإنسان، ولهذا يري شيخنا أن مجتمعاتنا اليوم بحاجة ماسة إلي فلسفة إنسانية، تهتم بالإنسان، وتعني به وتعلي من قيمته، وتساعده علي تطوره، ذلك أن كان وما يزال هو محور العالم ومركز ذلك الكون .. أما هذه الفلسفة فهي التصوف الإسلامي والذي يمثل فلسفة حياة متكاملة يطبقها الصوفي في شتي مناحي الحياة بما فيها الحياة الاجتماعية وعلاقات الناس مع بعضهم البعض (19).

ومن هنا ونظرا لهذ الترابط بين الحياة التعبدية للصوفي وبين مجتمعه، فإن شيخنا الدكتور التفتازاني ينفي التهمة الموجهة إلي الصوفية بأنهم سلبيون، ومن ثم فإنهم يصرفون الناس عن الكون المادي وعلومه إلي الإغراق في العبادة والانعزال عن المجتمع (20).

كذلك يهتم  شيخنا الدكتور التفتازاني بالإسلام الأخلاقي، ويري أن أهم ما يجب علي الإنسان أن يقوم به، هو أن يصوب أخلاقه وفق المثل الأعلي الذي جاءت به الشريعة الإسلامية، وبذلك تكون كل الميادين التي يخوضها الإنسان متوقفه علي نجاحه في أن يغير من أخلاقياته، وذلك انطلاقا من قول الرسول صلي الله عليه وسلم " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فالتصوف الحقيقي كما يقول شيخنا الدكتور التفتازاني، ليس نظريات نفسية أو أخلاقية أو ميتافيزيقية بقدر ما هو طريقة في الحياة ورياضة عملية تمارس من أجل هدف معين هو تحقيق الكمال الأخلاقي الذي دعا إليه الإسلام (21).

وفي رأي شيخنا الدكتور التفتازاني أنه ينبغي علي دارس التصوف أن يتتبع نظرياته المتنوعة في تطبيقاتها العملية، الأمر الذي يساعده علي فهمها أولاً، كما يتيح له أن يحكم علي مدي فعاليتها وحيويتها ثانياً . ويسوق بهذا الصدد أمثلة من واقع حياة المتصوفة يشير فيها إلي أن كبار شيوخ التصوف لم يكتب لها البقاء في العالم الإسلامي إلا من خلال الطرق العملية التي أسسوها  من خلال الطرق الصوفية، والتي انتشرت فيها انتشارا واسعاً ؛ ولكي ندرك مساهمة الطرق الصوفية في الـاثير في الحياة الاجتماعية، يدعونا شيخنا المفدى الدكتور التفتازاني إلى أن نلقي نظرة موجزة علي نشأة هذه الطرق وانتشارها في العالم الإسلامي . ويذكر بهذا الصدد أنه عندما ظهر الشيخ عبد القادر الجيلاني مؤسس الطريقة القادرية، والشيخ أحمد الرفاعي مؤسس الطرقة الرفاعية، توالي شيوخ التصوف الكبار في الظهور في عدة أقطار إسلامية، والتف حولهم الأتباع والمريدون، واستمرت الطرق الصوفية في الظهور والانتشار منذ القرن السادس الهجري إلي يومنا هذا، وتشعبت في جميع الاتجاهات من السنغال في غرب إفريقيا إلي بلاد الصين شرقا في أسيا الصغرى، وقامت في كثير من البلدان الإفريقية والأسيوية بنشر دعوة الإسلام، كما قاومت في كثير من الأحيان الاستعمار الأوربي (22).

وبهذا المفهوم الـدقيق يصبح التصوف عند الدكتور التفتازاني وسيلة فعالة في ضبط الحياة الإنسانية وكمالها واتزانها ويصبح وسيلة أيضا لكمال الفرد وصلاحه المجتمع ومثل هـذا التصوف يجنب الفرد شرورا كثيرة كالغرور بنفسه وعلمه ومكانته وهو بالتالي يصبح مطلبا لتحقيق التوازن بين مطالب المادة والروح خاصة إزاء الفلسفات المادية التي تسيطر علي حضارتنا المعاصرة . (23).

وخلاصة القول أن مفهوم التصوف الحقيقي عند شيخنا الدكتور التفتازاني هو بعينـه فلسفة الحياة الروحية كمـا ينشدها الإسلام ؛ من حيث إنه تحقيق كامل للحياة الصحيحة كما يطلبها دين الإسلام، أو لنقـل هو العبـادة الكاملة الله ظاهراً وباطناً من ناحية، وهـو الكمال في الخلق مع الحق والخلق ظـاهراً وباطنـاً مـن ناحية أخري (24).

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

الهوامش

11- أحمد الجزار: منهج التفتازانى فى دراسة التصوف، مجلة أوراق فلسفية، العدد 48، 2016، ص 127.

12- المرجع نفسه، ص 128.

13- عطية، أحمد عبدالحليم: أبو الوفا التفتازاني ودراسات التصوف الإسلامي، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، الجمعية الفلسفية المصرية، مج 3، ع 3، 1994، ص 7.

14- أبو الوفا التفتازاني: مدخل إلي التصوف الإسلامي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط3، القاهرة، 1991، ص 8.

15-  أبو الوفا التفتازاني: المصدر نفسه، ص 8.؛ وأنظر عطية، أحمد عبدالحليم: المرجع نفسه، ص 8-9.

16- أحمد الجزار: المرجع نفسه، ص 129.

17- إبراهيم إبراهيم ياسين: أبو الوفا التفتازانى الصوفى المجدد، مجلة أوراق فلسفية، العدد 45، 2016، 218.

18- المرجع نفسه، ص 220-221.

19- زاهد خلف الروسان: التصوف عند أبي الوفا التفتازاني مفهومه ودوره في حياة المجتمع،مؤتة للبحوث والدراسات - سلسلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة مؤتة، مج 16 ,ع 3، 2001ـ ص 95

20- المرجع نفسه، ص 96.

21-أبو الوفا التفتازاني: المصدر نفسه، ص 54،

22- زاهد خلف الروسان: المرجع نفسه، ص 98.

23- أحمد الجزار: المرجع نفسه، ص 148.

24- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم