صحيفة المثقف

منى زيتون: التغيير

منى زيتونمن خلال خبراتي في الحياة ومع البشر يمكنني تقسيم البشر من حيث القدرة على التغيير إلى ثلاثة أنواع؛ فنوع مقاوم للتغيير شديد الثبات والتشبث بأي وضع قائم، ويمكن أن ينهار عليه هذا الوضع المتهالك الآيل للسقوط قبل أن يتقبل ضرورة تركه، وأن يبدأ بدايات جديدة في حياته. وهناك نوع منهم قادر على صنع وخلق التغيير والبدء فيه، ونوع ثالث من البشر يمكنهم التكيف بنجاح مع التغيير إن حدث، ولكنهم لا يصنعونه بإرادتهم.

وفي مصر والبلاد العربية يسود النوع مقاوم التغيير؛ فالتربية التي يتلقاها أغلبنا منذ الصغر تعلمه أن يصطف مع زملائه ليكون واحدًا منهم، وقد أشار د.جمال حمدان إلى هذا المعنى في كتابه "شخصية مصر"؛ إذ ذكر إن الاعتدال هو آفة الشخصية المصرية؛ فهي تجعل المصري شخصية غير مقتحمة وغير ثورية على الإطلاق، فمصر شديدة الاعتدال لدرجة تجعلها بيئة طاردة لأبنائها الممتازين، والرضا الشديد بالواقع لدى المصريين يساوي في حقيقته العجز عن تغييره.

والتغيير الذي أعنيه في هذا المقال هو التغيير بمعناه العام وليس تغييرًا خاصًا محددًا، فالتغيير الذي يمكن أن يحدث للإنسان يتنوع؛ فقد يكون تغييرًا ماديًا في البيئة، أو تغييرًا فكريًا، وقد يكون تغييرًا يمس روحه وخلقه أو تغييرًا انفعاليًا تجاه ما يحب وما يكره.

والتغيير –أي تغيير- بحاجة إلى قوة نفسية لدى الفرد تمكنه من إحداثه والتكيف معه، أو على الأقل للتكيف معه إن حدث، وتجاوز ما مضى، وهذه القوة تتفاوت من فرد لآخر، وكلما زادت لديك زادت قدرتك على النجاح في الحياة.

التغيير في نفسك

ولا يسعنا الحديث عن التغيير في البيئة المادية الخارجية للفرد دون العروج أولًا على التغيير الداخلي في النفس، والذي يصنعه الإنسان في نفسه بتغيير خلقه إلى الأفضل، ولا يقتصر كما يظن أغلبنا على تنمية المهارات والقدرات. وأفضل استثمار هو ما تستثمره في نفسك، وهو نافع لك ولا شك في الدنيا والآخرة.

يقول صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ونحن نلمس التراجع في أخلاقيات المجتمع ككل، ونسبة لا بأس بها من البشر الفاسدين في المجتمع هم نتاج تنشئة نوعية من الآباء والأمهات يتصورون أن التربية والحرية نقيضان! فلا يعملون على رياضة نفوسهم ونفوس أبنائهم لتتغير للأفضل.

ولو سألني سائل عن ضربة البداية في تغيير الخُلق نحو الأفضل فالإجابة عندي هي أن يتحرى الصدق والكلام المباشر، وهناك حديث شريف لا يُقال كثيرًا رغم نفعه، ربما لأن أغلب مشايخنا مشغولون بتعليم العبادات وليس المعاملات. يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه الإمام أحمد في مسنده (13071): "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"، فالصدق طريق الاستقامة، والقول والقرار الصائب أخلاقيًا وإنسانيًا يبقى صائبًا مهما كانت عواقبه وخسائره الظاهرة، فعوِّد نفسك على أن تقول وتفعل الصواب ولا تلتفت.

والاستقامة لا تكون في ذكر الحقيقة فقط بل تتمثل أيضًا في ذكرها دون مواربة والكف عن اللف والدوران، وقد قلتها مرارًا في مقالاتي عن التواصل أن التواصل المباشر أرجى من التواصل غير المباشر في إيصال رسالة المتحدث كما أرادها، وهو الأرجى في جذب انتباه المستمع، والانتباه هو أولى العمليات العقلية التي يقوم بها المخ عند عرض المثيرات البيئية أمامه، وعندما ينتبه لها يدركها، أما لو لم ينتبه لها لأن طريقة عرض المثيرات لم تكن واضحة فلن ينتقل العقل إلى العملية العقلية التالية وهي الإدراك!

ولا ننسى أيضًا أن الله تعالى خلق البشر ليقوموا بالقسط، والغرض الأسمى لرسالة محمد هو إقامة العدل، فالعدل هو القيمة العظمى، وليتذكر كل منا أنه بعيد عن الإسلام بعده عن العدل والإنصاف.

ويبقى الكبر جذرًا لكل الشرور وأولى عتبات الفشل، وسبب التوهان والانصراف عن تحقيق الهدف رغم وضوحه أمام الفرد، وتبقى القدرة على الاعتذار أهم ما يميز المؤمنين.

والمتفهم لمعنى التدين الحقيقي يعلم أنه يخلق في نفس المؤمن شعورًا دائمًا بالتقصير نحو ربه؛ ذلك أنه عرف ربه وحقه العظيم، وعليه فقد أدرك عظم تقصيره، وهو لأجل ذلك يمضي في حياته كالطالب المجتهد أثناء أدائه الامتحان؛ يبقى يقرأ إجاباته ويضيف إلى ورقة إجابته حتى لحظة نزعها من بين يديه، وذلك على النقيض تمامًا من زميله الفاشل المعجب بنفسه والمكتفي بما كتب فيها على قلته، والذي يشغل نفسه طوال فترة الامتحان في مراقبة الناس وترصد القاصي والداني، بدلًا عن أن يُحسن من إجاباته.

ومن أشد ما يضحكني يوم الامتحان أثناء مروري بين اللجان أن أسأل أحد الملاحظين عن شيء فيسارع أحد الطلبة الخائبين إلى إعطائي الجواب، فهو يعرف من مر من الأساتذة في الممر ومن ركن سيارته منهم منذ قليل، وربما لو سألته عما كان يلبس الملاحظ الذي كان يقف في الامتحان السابق لوصفه تمام الوصف، أما المجتهد فربما انفجرت قنبلة في المبنى وهو غير منتبه لها!

التكيف مع الزوج والمجتمع الغريب

في الآونة الأخيرة انتشرت قنوات على موقع اليوتيوب تعرض يوميات عائلية، ولأنها تحقق مشاهدات عالية في مصر فإن بعضها يظهر لي ضمن قائمة اقتراحات اليوتيوب الجانبية، والحقيقة أنني لم أرغب في متابعة أي منها يومًا، ولا أفهم ما هي الفائدة التي تعود على متابعيها، ولكن حديثي عنها الآن ليس لنقدها، وإنما لألفت النظر إلى شيء آخر يتعلق بالقدرة على إحداث التغيير والتكيف معه.

لاحظت أن من بين هذه القنوات لليوميات العائلية قنوات لعائلة تتكون من زوجة مصرية وزوج هندي، ويعيشون في الهند، وعائلة لزوج مصري وزوجة جزائرية ويعيشون في الجزائر، وعائلة لزوجة مغربية وزوج باكستاني، وغير ذلك من التشكيلات الثقافية الكثير.

والحقيقة أنني أجد أمثال هؤلاء البشر خارقين، فأن تعيش في مجتمع غريب وتتكيف معه هو أمر صعب بلا شك، ومع ذلك فإن مما يمكن أن يخفف عنك وطأة وصعوبة الحياة في الغربة أن يكون رفيق حياتك في غربتك من بلدك وله الثقافة نفسها، ولا يكفي أن يكون عربيًا أو مسلمًا فقط، فالثقافة شيء أكثر خصوصية من العروبة ومن الدين، بل إن هناك ثقافات فرعية في كل دولة.

وقد كنت كلما ذُكرت قصة السيدة هاجر أم إسماعيل عليهما السلام أتعجب أشد العجب من قدرتها الخارقة للعادة على تقبل التغيير البيئي والتكيف له. ذكر كثير من المفسرين أن السيدة هاجر كانت أميرة مصرية أصبحت جارية بعد ذهاب دولة آبائها على أيدي الغزاة –ويُعتقد أن ذلك حدث في عصر الهكسوس- وهذا أول تغيير جوهري حدث في حياتها، فكيف لأميرة أن تتحول إلى جارية في يوم وليلة! وبعدها دخل سيدنا إبراهيم مصر، ولم يدخل للدعوة إلى الله، ويبدو أنه لم يدخل إلا ليخرج بهاجر، والتي كانت اختيار الله له فتزوجها، فانتقلت بذلك حياتها من أكبر دولة حضرية على ظهر الأرض وقتها إلى عيشة أقرب إلى عيشة البدو مع زوج غريب عنها وليست له عاداتها ولا عيشته كعيشتها ولا يتكلم لغتها، ووسط قوم لم تعرفهم ولا تعرف لغتهم، ولكنها تكيفت وتأقلمت مرة ثانية مع حياتها الجديدة، وبعد أن أنجبت ابنها جاءها تغيير ثالث عندما نقلها هذا الزوج إلى بلد غريب آخر ليست فيه أي مقومات للحياة ليتركها تكمل حياتها فيه هي وابنها وحدهم، ولتجاور أقوامًا جددًا وتتعلم لغة جديدة! فأي قوة نفسية كانت لدى تلك المرأة وأي قدرة على التكيف كانت لديها على كل تلك التغييرات العظيمة المتتالية التي حدثت في حياتها! وقد خلد الله سبحانه سعي وكفاح هذه المرأة العظيمة في أن جعل السعي بين الصفا والمروة -وهو أحد مناسك الحج- تذكيرًا بعملها.

ومن وجهة نظري إن زواج المرأة من شخص من بلد وثقافة مختلفة حتى وإن لم تنتقل من بلدها وعاش معها فيها هو أمر أصعب على المرأة عن الحياة في الغربة مع زوج من بلدها وثقافتها نفسها. لذا فإنه بمقارنة ما حدث للسيدة هاجر بما حدث للسيدة سارة من نُقلة وتغيير في الحياة فإن قدرة هاجر على تقبل التغيير والتكيف معه كانت أعظم، فخليل الرحمن كان ابن عم سارة ومن بيئتها وثقافتها ويتكلم لغتها، وتكيفها كان فقط مع البيئة الخارجية الجديدة التي انتقلا إليها، أما هاجر فإن كل ما ومن حولها قد تغير، وتبدلت حياتها مرات تبدلًا تامًا.

تغيير المهنة shift career

دلتني خبرات الحياة على أن الإنسان الذي يمتلك مقومات النجاح المهني قادر على النجاح في أي موقع يُسند إليه، ليس لأنه يمتلك جميع معارف وخبرات الحياة، ولكن لأن الناجح يمتلك درجة مرتفعة من الذكاء الشخصي؛ وهو القدرة على امتلاك الفهم لنفسك، ومعرفة من أنت، وماذا يمكنك عمله، وماذا تريد أن تفعل، ‏وكيف تتفاعل مع الأشياء، وأي الأشياء تتجنب، وأي الأشياء تنجذب إليها، وتعرف المتشابهات ‏والاختلافات في نفسك عن الآخرين، وأن تكون متلائمًا مع المشاعر الداخلية والقيم والمعتقدات ‏وعمليات التفكير، وتستخدم تلك المعلومات لضبط حياتك واتخاذ قرارات. إنه الذكاء ‏الذي يُمكِّن الأفراد أن يُكوِّنوا نموذجًا عقليًا عن أنفسهم يتفهمون من خلاله مشاعرهم ودوافعهم ‏الذاتية، ويعتمدون عليه في كل ما يخص حياتهم.

وبالنسبة للنجاح المهني فإن الصورة المثالية للشخص الناجح في مصر هو أن يتخرج من الجامعة ويأتيه تعيينه وترسيمه في مصلحة حكومية أو شركة فيتسلم مكتبًا وكرسيًا، ويبقى ما يزيد عن الثلاثين سنة يعمل في المكان نفسه ويترقى فيه، إلى أن يحين موعد تقاعده عند بلوغه سن الستين، فيعد له زملاؤه حفلًا للاحتفاء به، ويسلمهم المكتب والكرسي ويرحل!

أما من يعرف في نفسه مواهبًا أكبر من الحجم الذي تفرضه عليه هذه الوظيفة، ويحاول ويسعى لخلق تغيير مهني بحيث يترقى في حياته للأفضل، لثقته أنه ليس شجرة، فإنه يلقى تثبيطًا في عزيمته ممن حوله محاولين إثنائه عن عزمه، مذكرين إياه بالمعاش التقاعدي والأمان الوظيفي، والميري –أصلها الأميري وتعني الحكومي- والتمرغ في ترابه. بل إن بعض أمثال هؤلاء المثبطين -ممن كان دفعهم له للثبات وعدم اتخاذ قرار جاد بالتغيير حسدًا- ربما يقتلهم نجاحه عندما يتحقق إلى درجة التحامق ومحاولة إشعاره أنه فقد شيئًا ثمينًا عندما رحل!

ومن أعجب ما حُكي لي في ذلك قصة عن د.أحمد زويل العالم المصري الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء، والذي كان قبل سفره لأمريكا ضمن معاوني هيئة التدريس بكلية العلوم بجامعة الإسكندرية. ويُحكى أنه عندما زار مصر بعد حصوله على الجائزة التقى ببعض زملائه القدامى، وإذا بأحدهم –وكان يحمل غلًا وحقدًا دفينًا قديمًا له- يقول له إنه كان يتمنى لو لم تنهي كلية علوم الإسكندرية خدمته لانقطاعه عن العمل!

يقول أبو القاسم الشابي:

إذا ما طمحتُ إلى غاية *** ركبت المُنى ونسيت الحذر

ومن يتهيب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحُفر

إن أحد الشروط الهامة لتتمكن من خلق تغيير إيجابي حقيقي في حياتك هو أن تثق في نفسك وفي مواهبك طالما تعرف عن نفسك أنك شخص مميز لست مثل غيرك ممن يناسبهم السير في أمان بجوار الحائط، ثم ألا تهتم لكلام الناس ممن يريدون أن يثبتوك في الصف ذاته مثلهم، فلا تتميز وتعلو عليهم، وتذكر أن الشجرة كي تطول وترتفع لا بد أن يتم قصها من الجوانب؛ أي إنك لن تعلو إلا عندما تتوقف عن النظر حولك والالتفات إلى كلام الناس.

ومن أشهر من غيروا مهنتهم في عصرنا الحديث رغم المكانة الاجتماعية الرفيعة التي كانت للمهنة الأولى في المجتمع، الكاتب الكبير توفيق الحكيم الذي ترك العمل في النيابة العامة، والتي كانت العتبة الأولى للترقي بعدها للعمل في القضاء، وتفرغ للكتابة، وكتب تحفته الأنثروبولوجية "يوميات نائب في الأرياف" ليخلد فيها بعضًا من الصور التي رآها في تلك الرحلة المهنية الشاقة.

ومن أشهرهم أيضًا د.جمال حمدان، والذي ترك العمل كأستاذ في الجامعة، وتفرغ للبحث العلمي والكتابة العلمية الحرة، لأنه لم يتوافق مع معايير لجان الترقيات في الجامعات المصرية التي كانت تهتم بالأقدمية بين الأساتذة في الترقيات وترى الجغرافيا مجرد خرائط وحدود! وهو كان يراها علاقة بين الإنسان والمكان؛ فكتب كتابه الشهير "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان"، وغيره من الكتب.

وضمن سياق الحديث عن التغيير وقدرة المبدعين عليه، بعيدًا عن أولئك الذين يتحركون في حياتهم على قضبان القطار، فأنا أزعم أن هناك كتبًا في العلوم الاجتماعية في المكتبة العربية لم تلق عناية من العرب كونهم اعتادوا أساليبًا معينة في السرد، ولكنها الكتب الأهم من تلك التي سردت المحتوى بالمنهجية الجامدة المتعارف عليها، ولهذا لقيت هذه الإبداعات المختلفة عناية خاصة من المستشرقين.

ومن هذه الكتب "مقدمة ابن خلدون" والتي وضع فيها خلاصة آرائه وخبراته من قراءته للتاريخ، وهي أهم مما كتبه في كتابه ذاته من سرد مفصل للحوادث، وكتاب "الفخري في الآداب السلطانية" لابن الطقطقا والذي وضعه للتدبر وإفهام قارئه كيف تُساس الدول، وعرض رأيه وتقييمه للدول الإسلامية ولعهد كل خليفة من الخلفاء، ولم يسرد الحوادث التي حدثت في زمن كل منهم سردًا آليًا، و"معجم البلدان" لياقوت الحموي هو الآخر فريد من نوعه، يمر فيه ياقوت على كل بلد من البلاد التي يعرفها في زمانه، وقد يكتفي بكتابة اسمه وضبط نطقه وبيان مكانه، وقد يضيف عنه مزيجًا من الوصف للبلد والأكابر الذين كانوا منه، وقليل من الحوادث الهامة التي حدثت به دون تفصيل. وكتاب "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" لابن بطوطة من أهم الكتب العربية، ولعله أقدم كتب أدب الرحلات في العالم.

أما في العصر الحديث فهناك كتاب آخر فريد بخلاف كتب د. جمال حمدان بعنوان "إقليم البحيرة" للأديب محمد محمود زيتون، والحاصل على جائزة الدولة سنة 1948 في التأليف المسرحي والشعر والخطابة، وغيرها من الجوائز الثقافية. والكتاب عن تاريخ الإقليم، ولكنه نوع من التأريخ لن تجد مثيله في المكتبة العربية. وكتب الشيخ محمد الغزالي أيضًا تختلف عن النمط السائد من الكتب الدينية التي تُحشى بالنقول والأسانيد وتكاد تخلو من الاستخلاصات والآراء التي تخص المؤلف، وهي أقرب لكتب المفكرين منها إلى كتب المشايخ.

خاتمة

إن قيمتك في الحياة تتحدد بقدرتك على إحداث التغيير في حياتك وحياة من حولك، فهناك تغيير يمس الفرد وهناك تغيير للجماعة، وهناك من يتعذر عليه أن يحدث تغييرًا في نفسه ولكنه يستطيع خلقه في حياة أبنائه أو بعض من حوله، ومن هنا احترم البشر عبر العصور المكافحين والعصاميين والمصلحين والأنبياء؛ هؤلاء الذين لم يعبروا في الحياة ليتركوها مثلما كانت قبلهم.

والتغيير عادة يستلزم ويتطلب وقتًا طويلًا، خاصة عندما يتصل بالمجتمعات وليس الأفراد، ولكنه أيضًا قد يأتي سريعًا في صورة ثورة، ولأن التقلب السريع لا تتقبله طبيعة البشر فغالبًا ما تحدث سلبيات من الثورات تفوق ما أرادت تصحيحه، ولكنها في النهاية قد تمثل ضرورة عندما تتفاقم الأوضاع السلبية. وفي أصداء السيرة الذاتية كتب نجيب محفوظ: "سألت الشيخ عبد ربه التائه: متى يصلح حال البلد؟ فأجاب: عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة".

وترتبط القدرة على إحداث التغيير بوضوح الأهداف، والتخطيط الجيد لها، والمثابرة وبذل الجهد في تنفيذها. وهناك أشخاص ناجحون غاية النجاح في التنظير، ولا يضاهي نجاحهم هذا إلا فشلهم عندما تُوكل إليهم مهام ومسئوليات يضعون فيها خبراتهم ومعارفهم النظرية موضع التنفيذ لأجل إحداث التغيير المنشود. وأثناء عملي في إحدى الجامعات السعودية زاملت أستاذة جامعية مصرية في تخصص التخطيط التربوي، وكانت سمعتها جيدة جدًا بين الطالبات والأستاذات كأستاذة متميزة في تخصصها، وهي الآن ضمن الفريق التربوي الذي يعمل مع د.طارق شوقي وزير التربية والتعليم، ولا أريد أن أزيد فقد رأت مصر كلها تخطيطها التربوي على أرض الواقع، ويالهول ما رأت!

وفي ختام حديثنا عن التغيير، أود التعريف بأمر يخفى على كثيرين بخصوص تغيير رسم الجهات الأصلية، وكان ذلك على الأرجح بدءًا من عصر النهضة في أوروبا. فقد كان العرب في العصر العباسي يرسمون الخرائط الجغرافية والفلكية بحيث يكون اتجاه الشرق جهة اليد اليسرى واتجاه الغرب هو اليد اليمنى، ومن ثم فالجنوب إلى الأعلى والشمال إلى الأسفل، وهو ما يعني أن ما نراه من تحديد لرسم الاتجاهات في عالمنا المعاصر هو قلب للشمال ليكون في الأعلى، صاحبه بالضرورة تبدل ما بين الشرق والغرب نتيجة للتدوير الحادث في الخرائط! فكان هذا التغيير البسيط رمزًا للتغيير الذي حدث على المستوى الحضاري؛ فتقدمت أوروبا ودخلنا في عصورنا المظلمة!

 

د. منى زيتون

السبت 6 نوفمبر 2021

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم