صحيفة المثقف

فادية سمير السيد: الولاء الأخلاقي وانعكاسه السياسي

فادية سمير السيدمفهوم الولاء من المفاهيم التي تثير في العقل البشرى معانى سياسية وأخلاقية يرجع ذلك إلى أن مفهوم الولاء مرتبط بالسلطة والحرب، كما أنه مرتبط بالأهداف العامة للسياسة العامة والقوانين الأساسية خاصة في النظم العسكرية، وأخيراً فهو مرتبط بالدولة ونظامها وسياستها.

ورغم أن الولاء هو أحد القيم الأخلاقية التي يجب على الفرد التمسك بها، فإنه دائما ما يثير مشكلات كثيرة منها ما يتعلق بماهيته، وما مدى الحاجة إليه، وما القضايا التي تتعلق به، وهل الشعور بالولاء فطرياً أما مكتسباً؟ فمع تتطور المجتمعات، وتشعب العلاقات بين الأنظمة المجتمعية، أصبح لمفهوم الولاء أهمية كبيرة لعلاقته بتماسك المجتمعات وتطورها.

فالإنسان في العصر الحاضر يعانى الحيرة والارتباك تجاه المثل العليا - ومنها الولاء- والواجبات المهمة، وانتشر الشك في الأحكام الأخلاقية،  كما زادت المطالبة بتغير القيم تغييرًا جذريًا.

وإذا كان الولاء يعنى (إيمان الفرد بقضية معينة والتفاني من أجلها) وبرغم أن مفهوم الولاء قد يبدو مفهوماً بسيطاً فإنه عميق لكونه متصلًا بقلوب وعقول الناس، كما أنه متصل بالوجدان الجمعي. فهو شعور يتنامى بداخل الفرد، ويتراكم عبر التجارب الحياتية ويزاد عمقاً وثقة على مدى العمر الإنساني.

وما نقصده بمبدأ الولاء هو حق الفرد في الولاء ولكن بدون تحطيم ولاءات الآخرين، حيث يسمح لكل مواطن مهما كان وضعه أن يحقق ولاءه، فعندما يفهم المواطنون هذا المبدأ للولاء فإنه من شانه أن يوحد بينهم ويذيب الفوارق بين الطبقات.

بالنظر إلى المجتمعات السياسية على مدى العصور نجد عوامل الفرقة والتفاوت بين الطبقات سمة من سماته ولعل ذلك يرجع إلى الاختلافات في المستويات المادية والثقافية والاجتماعية بين أفراد الطبقة الواحدة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أتساع الاختلاف بين الرجل والمرأة، فالرجل يسعى لإحكام سيطرته على المرأة ،والمرأة بدورها تسعى إلى مزيد من الحرية، فكل هذه الصراعات هي في جوهرها صراعات بين الولاءات.

يحقق الولاء الانسجام بين الأفراد وخاصة عندما يكون ولاؤهم، ولاء لقضية الولاء ذاتها. لأن من أسس القضية الجديرة بالولاء مشاركة أكبر عدد ممكن من الأفراد فيها، وخدمتها لغاية اجتماعية عامة، فبذلك يمهد الولاء الطريق لوحدة الوطنية، وهذا ما يحتاج إليه المجتمع السياسي الصحي والسليم.

فالولاء رغم كونه موضوعًا لنظرية الأخلاقية، فانه يلقى بأثره على الوضع السياسي، فإذا كانت قضايا الاقتصاد والتنمية ومشكلات البطالة ذات أهمية كبرى، فإن مشكلة الوحدة الوطنية لا تقل أهمية عن هذه المشكلات، ولن نستطيع الدخول لهذه المنطقة الساخنة من المسرح السياسي وحل ما بها من مشكلات دون أن يكون حاضرًا في عقولنا مفهوم الولاء على مستوى النظري والعلمي.

ويبدو لى إن مفهوم الولاء يجمع بين البعد الأخلاقي والبعد السياسي، فالولاء يتقاطع ويتشابك عبر مستويين جوهرين وهما: مستوى الشعور الإنساني العميق أو الباطني بإعجابه أو بحبه أو بإيمانه بقضية معينة وهذه المرحلة الأولى التي من الممكن أن تحمل الطابع الأخلاقي الباطني، وهى ما قد نطلق عليها الضمير الأخلاقي الذى يواجه سلوك الفرد ويحاسبه، إلا أن مسألة القول بهذا الضمير الأخلاقي ليس حدًا فاصلًا حيث أنها مسألة لا تخضع لتحقق، كما أننا لا نعلم مصدرهذا الضمير الأخلاقي غير أنه يمثل في ثقافتنا العربية الخوف من الله، كما أنه نسبى مختلف من فرد لآخر، كما أن وجوده ليس مسألة حتمية؛ لأن الواقع يفيض بالأفعال المشينة والمحرمة التى حرمها الله، فالضمير الأخلاقي ليس نهاية المطاف.

وهنا تأتى المرحلة الثانية وهى العمل على خروج إيمان الفرد من حيز الشعور والاحساس الكامن في الضمير الأخلاقي إلى التطبيق الفعلي الملموس، وإن كان االمستوى الأول أخلاقياً خالصاً فأن المستوى الثاني مختلف، فقد يكون سياسيا أو اجتماعيا أو دينيا، حسب موضوع الولاء. وهنا يلازمنا القول أن تحول الولاء من المفهوم الأخلاقي إلى مفهوم سياسي تتحكم فيه عوامل كثيرة منها شخصية الفرد وسلوكه وطبقته وكذلك مصلحته الخاصة والعامة.

وإذا نظرنا إلى مشكلة العلاقة بين السلطة والولاء في المجتمع سنجدها علاقة نسبية؛ فعندما تنفصل السلطة عن الشعب من خلال عدم مشاركة الفرد في القرارات السياسية المهمة، ومن ثم عدم مراعاة السلطة التنفيذية لمصالح الأفراد، يؤدى ذلك إلى شعور الفرد بالاغتراب، وتقل درجة ولائه، وتتحول السلطة بالتالي إلى قوى طبيعة لا تبالى بالإنسان في أعمالها، وهنا يسعى الفرد للتخلص منها. فإذا أتسمت منهجية القديمة فى السياسة فى بناء الكيانات السياسية بعدم حضور مفهوم الولاء، ولم تلتفت بالتالي إلى القيمة العليا للولاء التي يمكن من خلالها الانجاز والكفاءة. وعلى الرغم من أن العقود الماضية التى تم الاعتماد فيها على المؤسسات التقليدية التي أوجدت نوعًا من التنوع المحدود داخل حدود الكيانات السياسية، فأن سنوات العقدين الأخيرين شهدت نوعًا من التفريغ الشديد غير المسبوق في الكيانات السياسية. فهل يكون الولاء للدولة بصفتها الوطن، أم للسلطة السياسية، بصفتها نظام سياسي يحتمل الصواب والخطأ؟ وهل النظام السياسي يحمل ولاء حقيقياً يشبه ولاء المواطن لذاته ولوطنه؟ ومن الذى يعيش حالة الشك والقلق: هل هو  المواطن الذى يمتلك قوة ونفوذ للتغير، أم النظام السياسي الذى يملك المال والقدرات والأجهزة، ويتخذ كل القرارات التى قد تفضى إلى هلاك الدولة؟

هناك فارق يجب علينا ونحن نحاول البحث عن الإجابة أن نقف أمامه، ونعنى به الفارق بين الدولة وبين النظام السياسي بشكله القائم، فالدولة هى الكيان ذو الطابع السياسى، الذى يتكون من مجموعة من الأفراد، يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد، ويخضعون لنظام سياسي معين متفق عليه فيما بينهم. أما النظام السياسي فهو يقوم بالعديد من الادوار أو الوظائف المتعددة استنادًا إلى السلطة المخولة له، والتي يمكن أن تتبدل أو تتغير مع تغير الأحوال والأوضاع الخاص بالشعب أما بشكل سلمى أو بأشكال أخرى مثل الثورة  أو الانقلاب أو العنف الشعبي. مما يعنى أن النظام السياسي هو الأضعف فى المعادلة السياسية، ويرجع ذلك إلى خوفه من انتزاع السلطة منه بأى شكل من الاشكال المشار اليها.

فمن الأفضل أن يكون ولاء المواطنين فى دولتهم لأوطانهم ولأنفسهم ولتاريخهم؛ فكل الأنظمة التى طالبت بالولاء السياسى كشرط رئيس للحصول على المنافع والفوائد والأمن مقابل مصادرة الحرية وحقوق التمثيل الحقيقى ،فاجأها التاريخ كما حدث فى أوروبا الشرقية أو الثورات فى العالم العربي، ففي الدول الأكثر ديمقراطية أصبح الولاء هو ذلك الذى يحمله النظام السياسى لبرنامجه ولسياساته وللمواطن وللدولة بشكل مطلق.

كما أن محاولة جعل الدين مصدرًا للولاء تعد من أخطر ما يتعرض له الولاء في أى مجتمع؛ لأن الولاء الديني يميل إلى التعصب والعنف والعيش في الماضي، والتنازل عن العالم الواقعي مقابل الاكتفاء بالبحث عن العيش فى يوتوبيا مفقودة. كما أنه يرتبط بالعنصرية والفاشية وضيق الأفق، ويمهد الطريق للحروب بين أفراد المجتمع الواحد من جهة  بين والدول الأخرى من جهة أخرى. وهذا ما فعله تيار الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين) في مصر بعد الثورة.

هذا النوع من الولاء الديني يجعلنا أمام مشكلة أخرى هي: أيهما يجب علينا أن نختار: الولاء للوطن أما للدين ؟ إن مسألة تصنيف الولاء هل هو وطني أما ديني هي من أخطر المشاكل التي تهدد بقاء الولاء ذاته ؛ لأنها تعمل على تضيق المجال أمام الولاء، فالولاء الدينى يجعلنا نترك الواقع ونسعى إلى الآخرة وحسب، كما أنه ينفى الولاء للوطن، ويكفى أن نشير إلى أن الولاء الديني كان فى فترات تاريخية عديدة سببًا في الحروب الصلبية ونشأة الدولة الصهيونية، أما الولاءات الوطنية أدت إلى حربين العالميتين.

فالولاء في العصر الحديث لم يعد قاصرًا على الولاء بالمعنى الديني أو الوطني؛ لأن هذا المعنى ضيق جداً وإنما أصبح يواجه ولاءات كثيرة، ولا تقل أهمية عن الولاء التقليدي للدين أو للوطن، حيث أن حصر الولاء في المفهوم الخاطئ وضيق مفهومه وحصره فى قضايا جزئية  لا يؤدى إلا إلى مزيد من صراع الولاءات.

وكما أشار لذلك زكى نجيب محمود بقوله ".. إن الولاء يعنى تجسيد الأبدي في الافعال التي تقوم بها الذات الإنسانية " (قيم من الثراث ص 39).

فالولاء ليس مجرد الانتماء لفكرة أو مجرد الاعتقاد في شيء أبدى، وإنما هو التعبير عن هذا الاعتقاد في الحياة العملية للإنسان .

و أخيرًا يمكننا إن نقول أن الولاء هو حلقة الوصل بين الأمة وتاريخها ويحقق التواصل بين أجيالها، ويوحد بين الشعب وقادته، فبغض النظر عن القضية التي يخلص لها القائد، فالقضايا لا تموت بموت القادة؛ لأن الولاء يحافظ على وجودها وبقاءها، فالقضايا التي بدت ميؤوسًا منها وخاسرة في لحظة تاريخية معينة ،كان الاستمرار والبقاء من نصيبها في لحظة تاريخية أخرى.

فالولاء يمد القضايا بمقومات الحياة، وهذا هو المعنى الذى نحتاج إليه في مصر المعاصرة من الإيمان بالقضية بعيدًا عن بقاء القائد أو رحيله، فإيماننا بالأفكارلا الأشخاص، فالأفكار باقية والأشخاص يرحلون.

 

د. فادية سمير السيد

باحثة دكتوراة فى الفلسفة السياسية

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم