صحيفة المثقف

محمود محمد علي: محمد حسين هيكل.. سادن الاستنارة في الفكر المصري المعاصر (1)

محمود محمد عليالتنوير هو لب حياتنا المعاصرة، ومن دونه لا يوجد علم ولا فكر ولا أدب أي إنجاز مفيد ونافع. وبالتنوير تتواصل الأمم والشعوب، وتتلاقح الحضارات، وتسمو المدنية، وتنشط الإنسانية. بهذا التوصيف حول التنوير ودوره في حياة العصر، يستهل الدكتور إسماعيل عبدالفتاح كتاب "التنوير ورواده في العالم العربي"، وهو كتاب تشارك فيه نخبة من مفكري مصر ومثقفيها، يعرضون فيه صفحات من حياة الرواد التنويريين في التاريخ المصري المعاصر.

ويعد محمد حسين هيكل أحد رواد الفكر التنويرى فى مصر، الذين فتحوا لأصحاب القلم والبيان كتابة التاريخ الإسلامي على نحو جديد يجمع إلى جانب العمق والتحليل العرض الجميل، والأسلوب الشائق، والربط المحكم بين أحداث التاريخ؛ كما كان من أهم وأشهر أدبائنا المعاصرين الذين نادوا بأن تكون مصر للمصريين،  وأحد الذين حملوا مبكراً لواء الدعوة إلى التطوير الأدبي والثورة على الكتابة الأدبية وأنساقها.. كان رصين الفكر قوي الموقف يلتقي لديه المنحى النظري بالممارسة على نحو من التآزر والانسجام .. وكان إلى ذلك كله يضرب في النقد الأدبي بسهم وله رصيد من تجربة النقد الفرنسي التي أحسن استيعابها، ومن تضلعه من الأدب العربي واللغة العربية والتاريخ الذي أحاط بهما، ومن ذوق سليم يهديه إلى مواطن الأصالة، وعناصر القوة في الأثر الأدبي، وأول ما يبدو للدارس من نقده أنه نأى عن القدح وإعلان المثالب مما كان يغلب على ما يكتب في الصحافة الأدبية في الثلث الأول من القرن العشرين، واقترب من الوقوف عند النص وبيان ما ينطوي عليه.

ويجمع كثير من المعاصرين للدكتور محمد حسين هيكل على أنه كان وديع النفس، جم الأدب، يميل إلى الدعابة في مجالسه، حاضر البديهة والمنطق الأدبي السليم، مثالاً للتواضع، لم تغير المناصب شيئًا من أخلاقه؛ علاوة على أنه كان منسجما سلوكه مع فكره، رصين البنيان لا تذهب به الزعازع جريئا في قول ما يراه صواباً يقول عنه توفيق الحكم في (عودة الوعي) وهو في سياق بيان ما أنشأته ثورة يوليو من (محكمة) تحكم رجال العهد السابق لزعزعة منزلتهم لدى الناس فكان منهم من اضطرب، واختل، وزلت قدمة وكان منهم – وهم قلة – من قال كلمة صدق وشجاعة كـ (السياسي الأديب الدكتور محمد حسين هيكل؛ سألته المحكمة : لماذا لم يقف في وجه طغيان فاروق وهو زعيم حزب؟ فردّ على ضباط المحكمة بهدوء لأن فاروق كان يخيفنا بكم أنتم يا رجال جيشه ! ألم يكن فاروق هو القائد الأعلى للجيش وأنتم رجاله؟.

وينفرد " محمد حسين هيكل" بين أبناء جيله في عالم الأدب والفكر بأشياء حاز بها السبق والريادة، فسبق غيره في تأليف أول رواية عربية بقصته الشهيرة زينب، وفتح لأصحاب القلم والبيان كتابة التاريخ الإسلامي على نحو جديد يجمع إلى جانب العمق والتحليل العرض الجميل، والأسلوب الشائق، والربط المحكم بين أحداث التاريخ، وكتب أيضًا أدب الرحلة، وسجل خواطره وما يجول في نفسه في كتابه الرائع في منزل الوحي، ودوَّن مذكراته السياسية، وما شاهده وشارك فيه من أحداث في كتابه مذكرات في السياسة المصرية، وحاز هذا السبق وهو غير متفرغ للعمل الأدبي، فقضى حياته كلها إما رئيسًا لتحرير جريدة أو وزيرًا في وزارة، أو زعيمًا لحزب، أو رئيسًا لمجلس الشيوخ، أو محاميًا في قاعات المحاكم.

كما انفرد هيكل بين أبناء جيله بأشياء حاز بها السبق والريادة، فسبق غيره في تأليف أول رواية عربية بقصته المعروفة "زَيّنَبْ"، وفتح لأصحاب القلم والبيان كتابة التاريخ الإسلامي، وكتب أيضًا أدب الرحلة، وسجَّل خواطره وما يجول في نفسه في كتابه الرائع في منزل الوحي، وقضى حياته كلها إما رئيسًا لتحرير جريدة أو وزيرًا في وزارة، أو زعيمًا لحزب، أو رئيسًا لمجلس الشيوخ، أو محاميًا في قاعات المحاكم.

اتصل هيكل بأحمد لطفي السيد وتأثر بأفكاره، كما تأثر بالشيخ محمد عبده وقاسم أمين وغيرهما، وشارك في وضع أول دستور صدر في مصر عام 1923، ولما أنشأ حزب الأحرار الدستوريين جريدة "السياسة الأسبوعية" عُيِّن هيكل في رئاسة تحريرها سنة 1926، واختير وزيراً للثقافة مرات عديدة، وتولى رئاسة حزب الأحرار الدستوريين، كما تولى رئاسة البرلمان، وكان ناشطاً في السياسة كما كان كاتباً بارزاً، وأديباً رفيع القدر جم الإنتاج، وأشاد معاصروه برجاحة عقله، ورزانته وتواضعه، وقد انضم هيكل إلى كثير من الهيئات العلمية، فكان عضواً في الجمعية المصرية للقانون الدولي والجمعية المصرية للدراسات التاريخية، واختير عضواً في مجمع اللغة العربية سنة 1940 فكان من الرعيل الأول لأعضاء المجمع، ويذكر له اقتراحه على المجمع بوضع "معجم خاص لألفاظ القرآن الكريم"، فوافق المجمع على اقتراحه، وكان من أعضاء اللجنة التي تألفت لوضع منهجه.

وتمر السنين والأعوام ويمضي بنا الزمان.. وتبقى الأعمال خالده.. فبالرغم من مرور 78 عام على رحيل محمد حسين هيكل، والملقب بأبو الرواية العربية، إلا أن أعماله وأفكاره مازالت معروفة ومتداولة ومحفورة بالكتب التى تدرس للطلاب والتلاميذ بالمراحل التعليمية المختلفة ليس فقط بمصر بل في العالم كله.

ولد محمد حسين هيكل فى قرية إحدى قرى مركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية، وذلك في العشرين من أغسطس من عام 1888م، ونشأ في أسرة على جانب من الجاه والثراء، والتحق بكتاب القرية، حيث حفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة. التحق بمدرسة الجمالية الابتدائية بالقاهرة، وظلَّ بها حتى أتم دراسته بها، ثم انتقل إلى المدرسة الخديوية، وأتم دراسته بها، ثم التحق بمدرسة الحقوق الخديوية، اهتم بقراءة الأدب العربي القديم، في أمهاته المعروفة كالأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والبيان والتبيين للجاحظ، وطالع عيون كتب الأدب الإنجليزي، وبعد تخرجه في مدرسة الحقوق سنة 1909 سافر على نفقته الخاصة إلى باريس؛ ليتم دراسته في الحقوق، ويحصل على إجازة الدكتوراه. واغتنم هيكل فرصة وجوده في فرنسا، فالتحق بمدرسة العلوم الاجتماعية العالية، وحصل فيها على دراسات مختلفة، وظلَّ هيكل في باريس ثلاث سنوات حصل في نهايتها على درجة الدكتوراه في الحقوق من جامعة باريس 1912 عن دَيّن مصر العام. عاد هيكل من باريس، واشتغل بالمحاماة في مدينة المنصورة فترة قصيرة، ثم تركها بعد اختياره للتدريس في الجامعة سنة 1917، ولم ينقطع طوال عمله عن ممارسة العمل الصحفي، وكتابة المقالات السياسية والفصول الأدبية في جريدة الأهرام، وجريدة الجريدة صحيفة حزب، ثم تخلص هيكل من قيد الوظيفة واستقال من الجامعة سنة 1922 وتفرَّغ للعمل السياسي، وترأس تحرير جريدة السياسة، ثم تولى رئاسة تحرير جريدة "السياسة الأسبوعية" سنة 1926. وقع عليه الاختيار ليعمل وزيرًا للمعارف في الوزارة التي شكلَّها محمد محمود باشا سنة 1938، لكن حياتها كانت قصيرة فاستقالت في السنة التالية، ثم عاد وزيرًا للمعارف للمرة الثانية سنة 1940 في وزارة حسين سري، وظلَّ بها حتى سنة 1942، ثم عاد وتولى هذا المنصب مرة ثالثة في سنة 1944، وأضيفت إليه وزارة الشؤون الاجتماعية سنة 1945. اختير سنة 1941 نائبًا لرئيس حزب الأحرار الدستوريين، ثم تولى رئاسة الحزب سنة 1943، وتولى رئاسة مجلس الشيوخ 1945 وظل يمارس رئاسة هذا المجلس التشريعي أكثر من خمس سنوات أرسى خلالها تقاليد دستورية أصيلة بمعاونة بعض أعضاء المجلس. وتولَّى هيكل تمثيل مصر في التوقيع على ميثاق جامعة الدول العربية سنة 1945، كما تولى تمثيلها في كثير من المحافل الدولية، فمثلها رئيسًا لوفد مصر في الأمم المتحدة أكثر من مرة سنة 1946 وما بعدها، وكانت له مواقف محمودة في قضيتي مصر وفلسطين. شهدت الحياة الفكرية لهيكل العديد من التغيرات.

وعلى الرغم من اشتغال هيكل بالحياة السياسية وانغماسه فيها بالعمل الصحفي مرة، أو باعتباره واحدًا من نجومها الذين خاضوا أعباء الوزارة، ومارسوا الزعامة الحزبية، فإن نشاطه الأدبي ظلَّ خصبًا، وتوالت كتبه ومؤلفاته تضرب في ميادين مختلفة شملت القصة، والتاريخ، والسير، والنقد الأدبي، وأدب الرحلة، وهو فيما يكتب أديب أصيل، متبوع لا تابع، رائد يفتح لغيره آفاقًا فسيحة في ميادين الأدب، وطالب حق يرتاد كل سبيل ليجد منافذ النور، لا معجب برأيه مغرور بما يكتب، مفتون به، لا يرى الحق في سواه؛ ولذلك انتقل من دائرة الدعوة إلى الحضارة الغربية تارة، وإلى الحضارة الفرعونية تارة أخرى، واستقر في ميدان الفكر الإسلامي داعيًا له يرى فيه وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة تحرك النفوس، وتجعلها تهتز وتربو.

ومن قبل أن يستقر هيكل في ميدان الفكر الإسلامي كان أدب القصة أول ميدان يرتاده الدكتور هيكل، فكتب قصته "زَيّنَبْ" وهي أشهر أعماله هيكل الثقافية، وقد تختلف الأقوال حول قيمتها الفنية وجوانبها المختلفة، لكنها تتفق في كونها أول رواية عربية تلتزم بقواعد القصة الفنية. ألف العديد من الكتب منها، زَيّنَبْ، حياة مُحَمْد، هكذا خُلِقَت، مذكرات في السياسة المصرية، ولدي، ثورة الأدب، تراجم مصرية وغربية، الشرق الجديد، في منزل الوحي، الفاروق عُمَر.

وبعد حياة طويلة حافلة بجلائل الأعمال تُوفِّي الدكتور هيكل في الثامن من ديسمبر عام 1956 عن عمر ناهز 68 عامًا.. وللحديث بقية..

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

..........................

هوامش المقال

1- محمد ولد محمد سالم: محمد حسين هيكل.. مؤلف أشهر سيرة نبوية،  مقال منشور بتاريخ 8  يونيو 2017 02:15 صباحا.

2- أحمد منصور: محمد حسين هيكل لقب بأبو الرواية العربية.. مقال منشور بتاريخ الجمعة، 20 أغسطس 2021 10:00 ص.

3- عمر حسام: فى ذكرى ميلاده .. محمد حسين هيكل مؤلف أول رواية عربية.. مقال منشور بتاريخ 2020-08-20 14:52

4- أحمد زلط، محمد حسين هيكل بَيْنَ الحضارتين الإسلامية والغربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1988م.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم