صحيفة المثقف

سامي عبد العال: حين يَفهم القاريءُ برجليه

سامي عبد العالذهنية الأرجُل (الأقدام / الحواس/ المؤخرات) هي قلبٌ الفَهْم رأساً على عقبٍ، ودلالةٌ على انحطاط معنى القراءة لدى مستوى الأقدام وسط الزحام الراهن في مضمار الثقافة. وهي ذهنية ذات طابع غرائزي واسع الانتشار، نتيجة التركيز على الحس الشائع والإنكفاء على معرفة القضايا بشكل عاطفي دون عمق. وما ينطبق على الإنسان العادي ينطبق على مثقفي الأنظمة والنخب ومرتزقي السلطة وبهاليل المناصب العامة. وفوق هذا وذاك، تتعامل (الذهنية السابقة) مع الأفكار المطرُوحة كأنَّها مادة خام، مادة نيئة لا تخضع للطهي إلاَّ باساليب بدائيةٍ، وتعود بالعقل إلى مرحلة التسليم بالمعتقدات والآراء والاحساسات الأولية. ولذلك مهما تُطرح من أفكار عميقة وجديدةٍ، فليست القراءة إلاَّ اجتراراً للقديم (ما هو معروف)، وكأنَّ شيئاً لم يكن.

حين يفهم الإنسانُ برجليه، فإنَّه يتوجّه بنزوع حسي انفعالي نحو الفهلوة والانغلاق والحُمق. ويَعتَّبرُ أيَّ (موضوعٍ ثقافي) معركةً من الركل المتبادل لا يمتلك فيها غير الجري والمزاحمة. وبذلك يقضي (القارئ برجليه) على أهم وضع تشريحي لوجود العقل وآفاق الفكر من جانب إنسانيته. ومقارنةً بوظائف الأقدام في الثقافة العربية ما بين: المشي والرقص والركض والتَّسفُل وهز البطن وتحريك الأرداف، لم يعد ثمة نشاطٌ اسمه (المعرفة والتفكير الحُر) في المجال العام. تحول الناس إلى اشكال وأجسام وكتل متشابهة منزوعة الفهم الوعي والحركة الدالين على الإختلاف. لا وقت للتأمل نظراً لجري الأجسام وراء المطالب المادية الأساسية في الحياة، وتباعاً قد يُفرَّغ هؤلاء الناس من الجوهر الروحي والعمق النفسي.

المسألة السابقة لافتة للنظر مع تردي الأوضاع وكثرة دجالي الثقافة والسياسة، ولذلك تحتاج المسألة تحليلاً يكشف أبعادَّها ويحدد: لماذا هي كذلك مسألة مقلوبة؟! لأنَّ هذا الوضع المقلوب (الأرجل بالأعلى والرأس بالأسفل ) يُنْذِرُ بقلب نظام المجتمع ككلٍّ نحو عملية التفكير بالأقدام. وهي عبارة عن تكريس لسياسات ثقافية خاطئة لا تدرك مسار التطور، ولا كيف يتم توصيف المشكلات توصيفاً صحيحاً، ولا طرح أية حلول تغدو ناجعةً للقضايا الإنسانية. ويبدأ القلْب الخاطئ من دائرة الفرد كي يسير على رأسه. هذا الفرد الذي تُلغى إرادته متعلقاً بالأوهام وانتهاء باعتباره (فماً وبطناً) يحتاج فقط إلى الطعام أكثر من أي شيء آخر.

ذلك مع أن المسيح قال رداً على ذلك قبل ظهور معطيات قلب الثقافة راهناً: " مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ"(انجيل متى: أصحاح4/4). وكأنَّ المسيح يحذر من تلك الظاهرة ذاكراً (فم الله) بالتحديد، كدلالة على الوضع الرمزي لأهمية الكلام الذي يميز الإنسان والإله. ولذلك فإن الكلام الأهم هو الذي يحافظ على وضعية النطق بما هو تعبير عن الفكر لا المرتبط بأبخرة الغرائز والشهوات. والفهم هو المسار التشريحي للنطق لا الأرجل ولا شيء آخر، ولهذا علينا أن نتوقع مساراً آخر قد تأخذها الثقافة الراهنة نحو المزيد من التدني.

وكلمة الأحذية ترتبط باستعارة التغطية للأرجل التي نخفيها، فما بالنا إذا كانت الأحذية هي موضع الرأس المُفكِّر؟! وما بالنا إذ كان المفكر برجليه استاذاً جامعياً أو مثقفاً جهبذاً أو محللاً سياسياً أو إعلامياً شهيراً أو أحد نخب التنظير أو أحد المتشوفين الجدد للمناصب أو أحد زبائن الدجل؟! حقاً هناك من هؤلاء الذين يضعون أرجلهم ومؤخراتهم بالأعلى وما أكثرهم. وبهذا المعنى لا يرضي القارئ سوي بارتداء (أحذية العقل) كما لو كانت حاجبةً دون الهواء النقي لتلاقح الأفكار وتوسيع المدارك وشحن قدرات التساؤل والفحص. والأرجل دوماً عكس العقل، فالأرجل مصيرها أن تُغطَّى عادةً، بينما العقل فيجب تعريته، حيث لا ينبغي تغطية العقول وحجبها عن العالم والحياة، الأرجل تهرول وتمشي، في حين يتأمل العقل ويقف عند التفاصيل الدقيقة، الأرجل تخوض دون توجسٍ، بينما يتردد العقل ويتساؤل أكثر من مرةٍ .

الأرجل والأسفل صنوان في إظهار كم كان المواطن العربي مغلُوباً على أمرة. لأنه نتيجة " تغييب العقول" في المجتمعات العربية، بدا الاهتمام زائداً بالأسفل (التَّسفل) حتى تضخم على حساب الأعلى. وبالتالي تمَّ النظر إلى  كل مقروءٍ كواقعة حسية غريزية تدعو إلى الاستنفار والاحتشاد. ولو كان ممكناً رسم صورة لهذا القارئ، لظهرت قدماه فوق كتفيه بينما رأسه بالتراب والوحل. وهذا هو السبب في أنه رغم انتشار الابداعات العالمية الكثيرة وما يصاحبها من أفكار وتوجهات، إلاَّ أنها لا تبلغ العقول ولا تتفاعل معها كما ينبغي!!

على سبيل التوضيح، لو تتابع بعض الفضائيات لمدة طويلة أو قصيرة حتى، ستجد كما مهولاً من الرقص الخائب والتعري الحسي والغناء المخنّث والكلمات الهابطة والصخب المرتفع والقهقهات العالية والتعليقات المهوشة في جميع الاتجاهات. وكل ذلك يتم بمباركة سياسيةٍ واضحة من الأنظمة الحاكمة، على الأقل يتم الصمت المطبق على فساد الذوُق العام، أي أنَّ الأنظمة الحاكمة تجعل من التفاهة أسلوباً لإدارة الذوق، فالمواطن الذي يرفع مؤخرته وأرجله (كصخرة سيزيف) بأعلى جسده يسهل إخضاعه وقيادته دون تمرُد. يظل طوال حياته حاملاً لصخرته ثم سرعان ما تهبط إلى الأرض ليرفعها لتهبط مرة ثانية... وهكذا دواليك دون نهايةٍ. وسيزيف الجديد هذا لن يكون عصياً على الانقياد كالدواب. والنكاية فيما هو إنساني: أنَّ بعض المواطنين لا يدركون أسرارَ اللعبة، يدافعون عنها دفاعهم عن كيانهم الخاص. وإذا وقعت بين رجليه نصوص وآراء مهمة، فلن يجد كبير مشقة سوى ركلها.

والصورة هنا ليست سوريالية صرفاً، لكنها افرزت (وستفرز في المستقبل) عقولاً مشوّهة داخل مؤسسات التعليم والاعلام والثقافة والدين، عقول مُقزّمة تتلهى بالأفكار الكبرى كأنها تعجن طيناً وتلعب بقطع الألماس على أنها مجرد أحجار بين التراب. ولم يعد ثمة أسس لماهية القراءة ولا (سوق ثقافي) صحي لتبادل الأفكار وتنقيح الآراء واجراء الحوارات والنقاش. فهذه الأشياء الرمزية باتت خاضعة لمقاييس حسيّة ابتداءً. ومن سوء الطالع أن تسائل الناس حولها بطريقة أخرى: عندما يصادفون موضوعات فكرية جادة، ماذا نأكل من ورائها، ماذا تقدم لنا، كيف نغلب خصومنا بالكلام والغوغائية؟! هذا إذا لم تُدْهس الأفكار الحيوية كما دهست الأنظمة الحاكمة عقول الشعوب وحقوقها طوال الوقت.

بجانب ذلك، ليس التعامل بالأسفل أو بالمؤخرة كدماغٍ مجرد طُرفة عابرة، ولا هي نوع من (المثلية الجنسية)، لكنها (مثلية فكرية) تمكنت من أدمغة رعايا الأنظمة السياسية والاجتماعية المستبدة. حين تضع الإنسان العادي في كتلة من اللحم الذي يفكر بالعاطفة والإحساس بمثيرات ديماجوجية( مفرُوضة عليه)، ولا يستطيع احتكاماً إلى معايير واضحةٍ ولا نقدية شفافة، إنما يُساق مع (المؤخرات/ العقول) في جو من الدعاية والتعبئة ولافتات السياسة التي هي بالنهاية افراز لأبواق الحكام والمناخ الفكري الموبوء.

تجد (القارئ / المؤخرة) يَعبُد (الشعارات البراقة) التي لا تجعله مختلفاً عن المهووسين بالعنف الأيديولوجي، إنه لا يمتلك وقتاً للقراءة حتى يميز بين الغث والسمين، مثله مثل الحصان عندما يُقدم له الطعام فيأخذ في الصهيل وضرب رجليه الخلفيتين بالأرض فرحاً بما يتناول. وقد أخذ في هش ذيله مع تحريك مؤخرته باستمرار. لكن الفارق أنَّ قارئاً من هذا الصنف يَشْتّمُ الأفكار التي تخالف فكره أو تعارض ما صُمم عليه كجهاز عضوي لاقط. ويتلقى ما يقرأ بقدميه فتراه يدهس المكتوب، لعله يمزقه ويصدر حكماً قاطعاً أن الكاتب مارق أو منحرف تحت عناوين مختلفة علمانية أو دينية أو سياسية.

والذهنية الغرائزية ممتدة في أغلب الاتجاهات الفكرية العربية من أقصى اليمين إلى أطراف اليسار، لا يجيد القارئ إلاَّ تفريغ شحناته البيولوجية مع فعل القراءة، ويستنفر حواسه المتيقظة لتصبح جلداً (كالدروع الواقية) لمحاربة أيَّ جديدٍ، أيَّ فكر مُنفتح. فالمهم لديه أنْه سيؤكد وجهة نظره – التي ليست له - بالانتفاخ والتعالي أثناء اطلاق الكلمات والعبارات. حالة انفعالية متقلبة تجعل عالمه ضيقاً ولا يرى الأوجه الأخرى للقضايا، أوضاع هوائية مستثارة لأقل القليل شاعراً أنه يدافع عن جسده ضد غزو شيطاني يحاول أن يسكنه.

المؤخرة هي الثقل الجسدي الذي يعادل الجاذبية كي يسير الفرد معتدلاً، لكن عندما يستبدلها مكان عقله منتشياً بكونه كتلة من اللحم الاجتماعي السياسي، فلا يعني أنه يتشكك في الجاذبية أو يعادل متغيراتها، إنما يكشف جاذبية ثقافية من نوعٍ ما، هي المشجعة على اختزال الأفراد في أسفلهم وغرائزهم، كونهم مادة لسياسات القهر والاستعباد والركض وراء المطالب الأولية. فالتربية الثقافية هي من ترسخ مفهوم الأسفل داخل العقل، بتفاصيل الرأس جميعاً، وليس الأسفل في مكانه الطبيعي. فالنظر، السمع، الحركة، الرؤية تجري كذلك على هذا المنوال.

وربما لا أمل قريب هنالك للخروج بسهولة من هذا الوضع المقلوب، بل هو الأكثر انقلاباً في الحقيقة. لأنَّ ثقافتنا العربية قائمةٌ على أسلوب العَلْف، لا يختلف ظهر عن بطن، أرجل عن رأس، فوق عن تحت وذلك نتيجة اعتبار أن النتائج السياسية مُبشرةٌ على هذا الصعيد ليس أكثر. فالسياسات تهتم بهذا الجزءخادمة الأغراض اليومية للناس فقط، فجاء المواطن مجرد افراز لإحساسها اليومي بالحيوانية. مما يضع أمامنا ظاهرة التفكير بالأسفل، دون تمييز ولا ابداع ولا رؤى مستقبلية، بل يخضع المواطن إلى سُوق الغرائز في أغلب مجالات السياسة والمجتمع.

ومن ثم لا تتم عملية القراءة بالغريزة فقط، بل كل شيء سيتم عن طريقها لدى المواطنين البسطاء الذين رعتهم الأنظمة الحاكمة وعلفتهم سياسياً واجتماعياً على ذلك. إن الجري والصراع في المجال العام يحدث بالغرائز، بل هو مجال الغرائز بإمتياز تاريخي (ألاَ ترى أن  صراع الغزائز هو ما يميز تلك المنطقة العربية الموبوءة بالحروب والنزاعات المسلحة والإرهاب؟) التصويت الانتخابي عند مواطني الدول يتم بغريزتهم، العمل النقابي بغريزتهم، الفهم بغريزتهم، المشاركة الحزبية بغريزتهم، التظاهرات بغريزتهم، كذلك حركات الاسلام السياسي المؤدلجة بالغريزة. ماذا يبقى غير أن يعلق المواطن أسفله فوق رأسه ليدرك العالم والآخرين.. وقد تمّ ذلك بالفعل نتيجة ثقافة التلقي السلبي.

شاع تعبير أن سياسات الاصلاح الاقتصادي في بعض الدول العربية تصب في صالح المواطن، ولعل سخرية البعض ممن قرأ العبارة على مواقع التواصل الاجتماعي تعني: أن هناك من يخجل من تلك العملية. لأن الإيحاء الكامن فيها لا يُخفي التماثل بين الإدراك الغرائزي وبين تحويل المواطنين إلى حصالة لجمع من المصالح مجهولة الهوية. إذن في كل الأحوال سيكون المواطن منفعلاً وليس فاعلاً، رديفاً وليس متقدماً، تابعاً وليس متبوعاً، مَقُوداً وليس قائداً!!

والسبب جد خطير: أن هؤلاء المواطنين مجرد مؤخرات للأنظمة السياسية العربية، وتحرص الأنظمة شديد الحرص على تربية هذا القطيع من الغرائز المشوشة بلا نهاية. ولو أرادت الأنظمة لجعلت كل المواطنين بلا عقولٍ، بلا شعورٍ، بلا فهمٍ، بلا إرادة. فقط إرادت تربية صنف نادر من الكائنات المنفعلة التي تصب فيها القرارات وتستعملها وقتما تشاء. بالمقابل فقد استكان المواطن إلى حالته الغريزية التي لا تخيب ظنه في التعامل مع الحياة، فخير لك أن تكون  كتلة من الغرائز يعبث بها الحكام وتعبئها الثقافة الشائعة من أن تأخذ التفكير على محمل الجد، فلا وقت هناك لإجهاد العقل في تحديد المشكلات ومعرفة السياق والتحليل وفهم ما يقال حتى تتبلور الرؤى والمواقف.

إنَّ بعض القراء العرب (ومنهم المتخصصون) هم أداة غبية في أنظمة المؤخرات والغرائز. والموضوع ليس هزلاً ولا سخرية، لكنه قمة الجدية لدرجة أنَّه بإمكاننا أنْ نبرز تاريخ المجتمعات العربية من خلال الفكرة السابقة. ولذلك ليس غريباً أنْ يدلى بعض القراء بتعليقات وآراء كأنهم يمارسون " اهتزاز المؤخرات". مثل بعض الطيور – كالطواويس المخاتلة - التي تنكفئ نحو الأمام ثم تنتصب ريشات المؤخرة مؤدية رقصات إغراء، لكي يفهم الطرف الآخر ماذا تريد.

و(القارئ / المؤخرة) كائن مُفرَّغ من إمكانية التروي واتخاذ موقف عقلاني. دوماً لا يجد ذاته إلاَّ فيما يملأ إرادته من وظائف خارجية. والقراء بهذا الوضع هم من يمثلون وقود المعارك في الأنظمة السياسية والاجتماعية ويحرقون قيم الحرية والتمرد على ىالظلم والقهر. لكونهم اعتادوا على إدمان الأصوات الجوفاء والقضايا الفارغة دون معرفة الواقع، وكيفية تغييره للأفضل. ويغدو أملهم أن يلتحقوا بركب أوهام تصطنع الأعداء الذين ينبغي القضاء عليهم وتصطنع أصناماً من عصر إلى آخر!! حين يسئلون عن مبرراتهم يرفعون لافتات: البساطة والنضال والمقاومة .. فأيُّ نضال إذا كنتم مجرد مؤخرات معلقة في فراغٍ!!

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم