صحيفة المثقف

عصمت نصّار: أريحيّة الفلسفة وأخلاقيات الروح

عصمت نصارإذا كان منصور فهمي قد اجتهد في مقدمة الدّرس الفلسفي الأول الذي طرحته مجلة السياسة الأسبوعية على صفحاتها - كما بينا - إذْ وقف على ماهية الفلسفة ودور الفيلسوف وخصاله ورسالته؛ فقد اضطلع مصطفي عبد الرازق (1885م- 1947م) بتبيان الجانب الروحي والأخلاقي من الفلسفة، وانصب حديثه عن التصوف الإسلامي وما مرّ به من الأدوار، وقد أثار بين جنبات هذا الموضوع عدة قضايا لا تقل أهمية عن الاحتفاء أو الاحتفال بنضج أحدى الثمرات التي غرس أشجارها في مشروع النهضة المصرية ألا وهي إدراج المعارف الفلسفية في برامجنا التعليمية. ذلك الأمر الذي خطط له قادة الرأي من قبل وكلفوه ورفاقه بتنفيذه، وتتمثل تلك القضايا الرئيسة في:

ــ إنّ للفلسفة جانباً ذوقياً ووجدانياً وروحياً يربطها بالدين والمبادئ الخُلقية السامية والمشاعر الإنسانية الراقية من جهة، والعقل التجريدي والتصورات غير المادية من جهة أخرى. ويتمثل هذا الجانب في فلسفة الروح أو علم التصوف الإسلامي؛ الأمر الذي تسقط معه الاتهامات التي وصفت الفلسفة بالفوضوية والإباحية وجحد القيم الأخلاقية والشرائع الربانية باسم الحرية.

ــ إنّ هناك علوماً للفلسفة الإسلامية تميزها عن غيرها تؤكد أصالتها ومتانة علومها وقدرة أصحابها على بناء الأنساق ووضع النظريات وتحديد المناهج، وتتمثل تلك العلوم في علم التشريع وأصول الفقه والتصوف السُّنى، وجميعها قد نضج في الثقافة الإسلامية في كنف القيم القرآنية والتعاليم الربانيّة والأخلاقيات النبوية، وذلك قبل تناكح (تلاقح) العقلية العربية الإسلامية والثقافات المجاورة تلك التي طورت مباحث علم الكلام وعلم المقاصد الشرعية ثم الحكمة النظريّة والتصوف الفلسفي.

 ــ التأكيد على أن الفكر الإسلامي لم يفصل بين النظري والعملي في أفكاره أو سلوكه ولا بين الأخلاق والمصلحة في غايته، وقد أراد بشرح الأطوار التي مَرّ بها التصوف الإسلامي للتأكيد على ذلك.

ــ تبرأة التصوف الإسلامي من تهمتين، أولها: أن تعاليمه ورياضاته مجرد شكل من أشكال التنسك البوذي أو الرهبنة المسيحية. وثانيها: أن الخرافات والبدع التي حاقت به عند أفول الحضارة الإسلامية، من الأمور المعتادة التي تصيب مثل هاتيك التعاليم والتصورات المنعزلة عن العلم والتحليلات العقلية.

 فقد جاءت هاتان التهمتان في كتابات غلاة المستشرقين تلك التي وصفت النظريات الصوفية بالسطحية والتقليد، وأن بنيتها أقرب إلى العقيدة المسيحية منها إلى التوحيد الخالص، وأن مظاهر الجهل والتخلف التي حاقت بأقطاب هذا العلم بالإضافة إلى اشتغالهم بالسحر والشعوذة والاتصال بالعالم السفلي، يخرجهم تماماً من منظومة القيم الإسلامية التي حرّمت البدع وحاربت الجهل والخرافة وكفرت المشتغلين بالسحر والاستعانة بالجن لإزاء البشر.

ــ وأخيراً أراد مصطفي عبد الرازق من خلال درسه عن التصوف البرهنة على أن حضور الفلسفة بالمنهج العقلي وآليات النقد سوف يعصم الأذهان، وأصحاب الرياضات الروحية، والساعين لخوض بحور الفناء في العشق الإلهي من الجنوح والاجتراء والشطط. وها هو يُعرِّف المتصوف في صدر الإسلام بأنه (الذي لا يفرِّق بين عباداته، ومعاملاته، وعقائده، وإذا ما تحدّث نجده يدعو لدين الحب والسلم ويرشد لطاعة الباري والبر والإحسان).

وكانت غاية السالكين لهذا الضرب هو العمل لما فيه صالح الناس في الدنيا وتذكريهم بيوم الحساب؛ وذلك لإيمانهم بأن الاشتغال بهذا العلم هو غاية الدين. ولم يكن تحصيل العلم الشرعي أو الإحاطة باجتهادات الفقهاء أو تفقد أحوال السلاطين والرعيّة أهم من مجاهداتهم الروحية للأنس بألطاف الربوبية.

فلم يشغلهم كرم السلطان أو شحّه أو رضاه أو غضبه منهم، ولا احتفاء العامة بهم أو التعلق بكراماتهم ومناقبهم؛ مستشهداً بقول وهب بن منبّه - وهو من أقصد التابعين - (34هـ -114هـ): "أنك قد أصبت فيما ظهر من علم الإسلام شرفاً؛ فأطلب بما بطن من علم الإسلام محبة وزلفى. واعلم أن إحدى المحبتين سوف تمنع منك الأخرى".

ويفرّق مصطفى عبد الرازق بين العلوم الإسلامية الخالصة التي نبتت في كنف الفكر الإسلامي قبل تأثره بالمعارف الوافدة من الثقافات الأخرى. ويصرح بأن العلوم الشرعية التي تختص بظاهر الملة الربانية قد فاز بها المتبحرون في علم العقيدة. أمّا المشتغلون بالاجتهاد واستنباط الأحكام، وتحديد منها ما هو حلال وحرام؛ فيختص به أهل الرسوم، وهم ينقسمون إلى قسمين: القراء والفقهاء؛ فالقراء: هم أهل التنسك والتعبُّد؛ سواء كانوا يقرأون القرآن أم لا؛ ومهمتهم مقصورة على ظاهر العبادة، دون أرواح المعارف وأعمال القلوب.

 والفقهاء: هم المشتغلون بالفتيا وعلوم الشريعة، وهؤلاء عند الصوفية أهل الرسوم؛ ففريق مع رسوم العلم وفريق مع رسوم العبادة.

أمّا العلم الثالث؛ فهو العلم الجامع بين الأذواق والوجدانيات وأسرار الربوبية والإلهامات الإلهية من جهة، وتخلية الأنفس من الشرور وتحليتها بأزاهير الخير وترغيبها في محاسن الأمور من جهة ثانية، وإيقاظ الضمائر وارتشاف مسك الفضائل واجتناب البوح بمكنون السرائر من جهة ثالثة، أي علم كمالات العبودية؛  مستشهداً في ذلك بقول ابن القيم (نحو 691 هـ -756هـ ) في "مدارج السالكين" (اجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم أن التصوف هو:" الخُلق".. وأنه مبني على الإرادة؛ فهي أساسه).

 وبذلك يقرّر فيلسوفنا أن أولى خطوات التصوف في سبيله للتكوِّن العلمي، كان عبارة عن إرهاصات علم الأخلاق الإسلامي. وهذا التدرج في معنى التصوف طبيعي بسيط لا تبدو فيه دلائل تأثير خارج عن العبادات الإسلامية، وجُهد المفكرين في فهم معانيها وآثارها الروحية واتصالها بالقلوب. ثم اتجهت أنظار الباحثين في العلوم الدينية، وترامت جميعها إلى الكلام في أصول الدين بعقولهم، ووقفت أذواق المراقبين منهم على معاني العبادات وحركات القلوب؛ فأخذ التصوف في التسامي إلى نظرية خاصة في المعرفة وفي السعادة وسبيل الوصول إليها. وهذه النظرية على ما بيّنه أبو حامد الغزالي في كتاب "إحياء علوم الدين" هي: السعادة التي وعد بها الله المتقين المتمثلة في المعرفة والتوحيد.

والمعرفة هى معرفة حقيقة الربوبية المحيطة بكل الموجودات؛ إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفضاله والكون كله من أفعاله. وهي تحصّل من تصفية القلب وترقيته وجلائه، وهذه المعرفة تحصل للإنسان من وجهين:

أحدهما: طريق الاستدلال والتعلم، ويسمى اعتباراً واستبصاراً ويختص به العلماء والحكماء. والثاني: ما لا يكون عن طريق التعلم والاستدلال، ولكنه يهجم على القلب، كأنه ألقيَ فيه من حيث لا يدري وهو ينقسم إلى ما لا يدري العبد كيف حصل له ومن أين حصل.  ولا ينعم بهذه المعرفة القلبية سوى المُلهمين من الأولياء والمُوحى إليهم من الأنبياء؛ الأمر الذي يبرر عدم مجاهدة هؤلاء في طلب العلوم الدنيوية واكتفائهم بقبس من العلوم الربانيّة، ويصبح مجال اجتهاد أولئك في تطهير الأنفس وتخليتها ثم تحليتها والارتقاء بها إلى مقام الرضى والطاعة انتظاراً للتجليات الإلهية؛ تلك التي يرتقي إليها الطالب بالتدرج في الأحوال والمقامات.

ويعود "مصطفى عبد الرازق"؛ ليؤكد أن الصوفي الحق هو الذي لا يفصل بين النظر والعمل في مجاهداته، ولا يحيد عن أصول الشرع وسنة النبي في عباداته، ولا يهمل التدبر في كتاب الله؛ فلا فارق بينه وبين الفقيه سوى شكل المرآة؛ فمرآة الفقيه هي العقل الذي يستقبل النصوص الشرعية ويستوعبها ويجتهد في استنباط مقاصدها، أمّا المتصوف فمرآته هي الحدس القلبي الذي تنجلي فيه المعاني وتنكشف أمامه الحقائق والغايات. ويستشهد في هذا المقام بمقولة أبي حامد الغزالي:" إن للإيمان والمعرفة ثلاث مراتب:

المرتبة الأولى: إيمان العوام. وهو إيمان تقليديُّ محض تقليد. والثانية: إيمان المتكلمين، وهو ممزوج بنوع الاستدلال؛ ودرجته قريبة من درجة إيمان العوام. والثالثة: إيمان العارفين، وهو الإيمان المُشَاهَدُ بنور اليقين".

ثم اهتم المتصوفة بدارسة أربع قضايا رئيسة هي (المجاهدات، الكشف، الكرامات، ولغة الواجدين). وقد تعرض التصوف لنقود الفقهاء والمتكلمين والمتفلسفة، ولا سيما أحاديثهم عن العرفان والكشف والكرامات. ناهيك عن أقوالهم في الشطح وتأثرهم بالنظريات الفلسفية من جهة، والثقافات السائدة في مجتمعات السالكين من جهة أخرى.

وما يريده فيلسوفنا من درسه الأول عن التصوف الإسلامي هو توضيح حقيقة التصوف باعتباره علم الأخلاق، وآلية تحلية الأذواق، وتجميل العوائد، وتنقية السلوك من التطرف والذلل، ومدارسة القلوب التي تتربى فيها المشاعر على الحب والوصال وآداب الاتصال، وكيفية التسليم والفناء في حقائق الملة، والأنس والنعيم؛ حيث لا وصف فيه لأدلَّاء ولا تكييف للأدلة.

ويجدرُ بنا تأمل منهجية مصطفى عبد الرازق في تدريس علم التصوف بداية من لغة سرد المعارف والأخبار وإيجازها، وتوضيح أسلوبها، ومروراً بالاستشهاد بالأقوال، ونهاية بالدرس المستفاد من إلحاق هذا المضمون الجامع بين الفلسفة والعقيدة والأخلاق والفن في سياق الحديث عن الجانب الروحي والوجداني من الفلسفة. وما أحوجنا اليوم إلى هذا الطريق الشاغل بالشهوات والعثرات والمطامع والابتلاءات، واللجاجة في الأقوال والبلادة في الأعمال، وعطب العقول والقلوب في الدعاء والسؤال.

(وللحديث بقيّة مع درس آخر نشرته مجلة السياسة الأسبوعية)

 

بقلم: د. عصمت نصّار

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم