صحيفة المثقف

د. مجدي إبراهيم: منهج الدرس الفلسفي في الإسلام.. رؤية نقدية (3)

مجدي ابراهيمربما كان صحيحاً أن يقال إن الأبحاث العلمية لا بدّ لها من أن تنحو نحو الموضوعية، وتبتعد كثيراً عن الذاتية. وذلك تجاه السبيل الأول للخطوة الأولى للكشف عن الحقيقة؛ لأن الأبحاث العلمية بقوانين العلم، لم تكن لتهدف إلى روح ذاتية بقدر ما تتوخى البعد الموضوعي بمراعاة سبيله الأول، وهو الكشف عن الحقيقة بادئ ذي بدء.

ولعلّ "ديكارت" هو الفيلسوف الذي أشار بالمباشرة في "مقال في المنهج" إلى تلك النقطة الجوهرية في الدلالة على كشف الحقيقة.

كشف الحقيقة معاناة الذهن الإنساني خلال عملياته الإدراكية، وصولاً إلى نور العقل المباشر أو "الحدس". والحدس عند "ديكارت": عبارة عن انتقال الذهن انتقالاً سريعاً مباشرة إلى مجهول. وهو عنده نور فطري، عن طريقه يتمكن الإنسان من إدراك الأفكار البسيطة والحقائق الثابتة والروابط بين قضية وأخرى إدراكاً مباشراً في زمان واحد لا يتخلله تعاقب. وهو (أي الحدس) بلا شك منهج يقوم على معاناة العقل واجتهاده إزاء موضوعه المبحوث أو المشكلة التي يريد البحث فيها ومعالجتها.

ومن أجل ذلك؛ قال: "أنا أفكر فأنا موجود"، فقد ربط المعاناة الفكرية بالوجود الحقيقي وشدّد عليها: وهنا تصبح معاناة الفكرة هى لب لباب الوجود. ثم إن هذه المعاناة الفكرية مقدمات تمهيدية لوجود الحدوس، لولاها ما وُجد الحدس، ولا يمكن لحدس أن يقوم على جهل وفراغ، ولكنه يقوم على علم وبديهة وتأمل؛ ومادام أنه يقوم على "علم" فلا بدّ من قيامه على فكر، وقوام "العلم" تفكير باستمرار، وليس من فكر بغير وجود. وقوام التفكير إدراك وتأمل وخلق لصور إدراكية وحدوس في العقل تتوارد من طريق التفكير؛ فأنت تفكر فإذن أنت موجود. وكذلك إدراك البديهيات في الأمور الرياضية.

وبمقتضى هذا؛ يمكن للحدس إدراك مبادئ المعرفة. ولكنه لا يدركها من طريق الجهالة وفراغ التفكير ولا من طريق خمول الذهن الإنساني، ولكنه يدركها بمعاناة التأمل الدائب الموصول.

وبعد الحدس يجيء الاستنباط العقلي؛ فيعتبره "ديكارت" عملية استدلال يقوم بها الذهن لاستنتاج المجهول في العلوم عن طريق البرهان العقلي. وكل استنتاج يأتي بعد الحدس العقلي هو استنتاج يقيني لازم عن مقدمات واضحة بذاتها.

ولم يكن "ديكارت" مخطئاً حين قال في أولى القواعد الأربع التي ضمنها كتابه الهام "مقال في المنهج"، وأعني بها قاعدة الوضوح أو اليقين العقلي: "لا أقبل شيئاً ما على أنه حق إلا إذا عرفت يقيناً أنه كذلك؛ يعنى أن أتجنّب بعناية التهور في الحكم قبل النظر والتثبت، ولا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل أمام عقلي في وضوح وتميز، بحيث لا يكون لدىَّ أي مجال لوضعه في موضع الشك".

ومن تحليل هذه القاعدة الأولى من قواعد المنهج الديكارتي يتضح الآتي:

ــ أن "ديكارت" يريد بالتهور: الحكم على الشيء قبل وصول العقل إلى يقين كامل. ويريد بالحكم قبل النظر والتثبت: الأخذ بأفكار خاطئة سبق أن أعتنقها الإنسان في طفولته أو أخذها من السلف بمجرّد النقل دون النقد.

ــ أن وضوح الأفكار وجلاؤها هو مقياس الصواب والخطأ؛ وبذلك ينفي ديكارت السلطة الكنسية (الدينية) بمقدار ما ينفي الكتب الفلسفية القديمة كمصدر نلتمس منه الحقيقة. ولعلّ مرَدُّ هذا النفي بسبب أنهما مصدر التقليد الذي يعوق العقل عن كل جديد. وأنه لا وصول للحقيقة ما لم تنعكس من باطن صاحبها أولاً وقبل كل شيء، بمعنى أنها تنعكس من إشعاعاته الذاتية؛ لتثمر وتأتي أكلها خلال مجهود طويل من معاناة البحث من أجلها. وإذا طبق الباحث عن الحقيقة، هذه القاعدة تطبيقاً كلياً، أضاف الجديد من طريق الإبداع الفكري؛ إذْ ذاك يصدره (أي الجديد) عن نفسه من نفسه.

ولهذا؛ يكون من الخطأ الإيمان بفكرة من الأفكار، لمجرد أن أكثر الناس يسلّمون بها، أو لأن المشهورين من المفكرين كأرسطو مثلاً قد اعتنقوها. مثل هذا أو عينه، تقليدٌ حاربه "ديكارت"، ووضع من أجله كتابه "مقال في المنهج".

ــ إنّ تطهير العقل من أي حكم سابق إنما هو واجب لا مندوحة عنه. لأنه من الواجب عدم تأثر الباحث عن الحقيقة بأفكار سابقة؛ لا لشيء إلا لأن احتمال أن تكون هذه الأفكار خاطئة أو باطلة؛ فوجودها في العقل لوثة يجب تطهيره منها. وما لم يتطهر العقل من لوثة الأفكار السابقة لم يصل إلى حقيقة مرجوة يبتغي كشفها وإماطة اللثام عنها.

ــ شأن "ديكارت" في ذلك، كشأن فرنسيس بيكون؛ إذْ ذكر الأوثان أو الأوهام الأربعة (الكهف، والجنس، والمسرح، والسوق) التي تؤلف الجانب السلبي من منهجه. ثم ضرورة استبعاد الأشياء غير المفهومة وغير الواضحة من مجال العلم؛ كفكرة "القوة" مثلاً عن أرسطو التي أستند إليها في تفسيره للحركة أو التغيير.

ــ وما دمنا قد ذكرنا القاعدة الأولى من قواعد المنهج عند ديكارت، فلابدّ من ذكر القاعدة الثانية وهى: قاعدة "التحليل العقلي". هنالك يرى "ديكارت" - وفق هذه القاعدة الثانية ـ أنه من الضرورة تقسيم كل مشكلة يبحثها إلى أكبر عدد ممكن من الأجزاء أو العناصر التي تلزم للوصول إلى الحل النهائي الصحيح. بمعنى أنه يقسم المشكلة إلى الأجزاء البسيطة التي تتركب منها، لكأنما كان الغرض واضحاً في تلك القاعدة، وهو ردُّ المركب إلى البسيط والمعقد إلى السهل؛  ليتسنى للعقل بداية التفكير في المعضلة وهو مطمئن إلى وضوح الفكرة التي يبدأ بها بحثه فلا يخطئ فيها.

وبهذا تكون الغاية من هذه القاعدة مساعدة الباحث على كشف جوانب مجهولة من موضوع دراسته، فيتاح له إذْ ذَاك التعرف على العلاقات بين أجزاء المشكلة التي يقوم ببحثها.

ــ أما القاعدة الثالثة؛ فهى قاعدة "التركيب العقلى": يقول "ديكارت" في كتابه "مقال في المنهج" ينبغي عليّ: أن أقود تفكيري بحيث أبدأ بأبسط الأشياء وأسهلها معرفة ثم أتدرج منه خطوة بخطوة إلى معرفة ما هو صعب وأكثر تعقيداً؛ فارضاً في ذهني ترتيباً منطقياً للأشياء التي تكون غير مُرتبة بعضها على البعض الآخر.

وهذه القاعدة من القواعد الهامة في المنهج الديكارتي؛ إذْ تعبر عن أسلوب العلوم الرياضية وتأتي بعد قاعدة التحليل العقلي وهى كما قلنا القاعدة الثانية في هذا المنهج. ولكن بواسطة هذه القاعدة الثالثة نستطيع التعرف على ارتباط الأجزاء بعضها بالبعض الآخر، وهى تمثل "التدرج" من المبادئ إلى النتائج، والانتقال من الأجزاء إلى الكليات العامة.

وهذا التسلسل لا يمكن أن ندركه عن طريق الحدس كما هو الشأن في إدراكنا للقاعدة الأولى، ولكن ندركه عن طريق الاستنباط العقلي؛ فلابدّ فيه من الاستدلال؛ وذلك لأن الحدس نستعين به لإدراك كل خطوة على حدة. أما ترتيب الخطوات بعضها مع البعض الآخر؛ فلابدّ فيها من الاستدلال العقلي.

ــ ثم تأتي القاعدة الرابعة والأخيرة، وهى قاعدة المراجعة والفحص التام: وهذه القاعدة لا يمكن بحال الاستغناء عنها لأنها لب لباب البحث العلمي حقيقة.

يقول ديكارت عن هذه القاعدة يجب عليّ: أن أقوم في كل حالة باستقصاء وتأمل ومراجعة كاملة تضمن لي أني لم أغفل شيئاً. ومعنى هذا أن القاعدة الرابعة من القواعد الديكارتية تدعونا إلى عمل إحصاء كامل لكل أفراد الظاهرة موضوع الدراسة. وحقيقة لا قيمة لأي استدلال إلا إذا كان متصل الأجزاء بحيث إننا إذا تسرعنا في الربط بين أجزاء ليس بينها روابط محكمة؛ فإنّ قاعدة المراجعة ستبين لنا أنها غير مرتبة على بعضها البعض، وحينئذٍ نراجعها مراجعة دقيقة؛ لأن إغفال حلقة واحدة مهما تكن ضئيلة وصغيرة كافية لأن تفسد النتيجة، وتمنع اليقين الذي يدعونا إليه ديكارت في منهجه الرياضي. وبهذه القواعد الأربع التي تهيمن على المنهج العقلي، وتحدّد عملياته الفكرية من شأنها كما قلنا في السابق ـ فيما لو كانت واضحة ـ أن تعصم ذهن الباحث من مزالق الشطط وهو يريد الوصول إلى نتائج معلومة، بل ويقينية.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم