صحيفة المثقف

محمود محمد علي: عبد القدير خان.. عالم الذرة الباكستاني المفتري عليه

محمود محمد عليمن كان يتخيل أن دولة فقيرة غير قاردة على صناعة إبر الخياطة، ستتمكن من صنع قنبلة نووية.. هذه قصة تُظهر ما يمكن لرجل واحد فعله من أجل بلده، في ظل سلطة واثقة تمنحه كل الصلاحيات.. عام 1974 تعرضت باكستان لصدمة شديدة، الهند.. العدو العدو أجربت بنجاح أول اختبار نووي.. حدث هز باكستان لدرجة أن تطوير السلاح النووي أصبح هدم البلاد الأكثر إلحاحا، وأعلنها رئيس الوزراء حينها " ذو الفقار علي بوتو" بوضوح حين قال:" سنجوع ونأكل العشب أو أوراق الشجر لكننا سنحصل على قنبلتنا النووية ".. لكن كيف ؟.. وهذه التقنية محصورة في عدد قليل جدا من الدول ومحاطة بسرية هائلة.

كان عالم باكستاني مغمور جاهز حينها لتغيير المعادل " عبد القادر خان" (1 أبريل 1936 - 10 أكتوبر 2021) الذي يعتبره البعض لأب الروحي للبرنامج النووي الباكستاني، حيث أنه المؤسس له والعنصر الأبرز في وجود أول قنبلة نووية باكستانية.. وفي وقت ينظر الباكستانيون لـ"عبد القدير" على أنه جعل بلادهم أول قوة نووية إسلامية في العالم، يعتبره الغرب مسؤولا عن تهريب تكنولوجيا إلى إيران وكوريا الشمالية وليبيا.

ولد في بوبال في الهند عام 1936 أثناء فترة الاحتلال البريطاني وقبل انفصال باكستان بعد تقسيم الهند، ثم تحداها بقنبلة نووية.. أدخل بلاده في نادي الكبار، وصنع قنبلته الخاصة من اللاشئ.. اتهمه الغرب بسرقة معلومات سرية، واعتبره الشعب بطلا قوميا، ثم وضعته الحكومة قيد الإقامة الجبرية بتهمة تسريب معلومات نووية حتى اعترف بها بنفسه.

كان والده عبد الغفور خان مدرسًا تقاعد عام 1935، لذا نشأ الابن عبد القدير تحت جناح أبيه المتفرغ لتربيته ورعايته. كانت زليخة بيجوم والدة خان سيدة تقية تلتزم بالصلوات الخمس ومتقنة للغة الأردية والفارسية، لذلك نشأ الدكتور عبد القدير خان متدينًا ملتزمًا بصلواته.. تخرج من مدرسة الحامدية الثانوية ببوبال ثم هاجر إلى باكستان في عام 1952 بحثا عن حياة أفضل. توفي والده في بوبال عام 1957، حيث أنه لم يهاجر مع أبنائه إلى باكستان..تخرج من كلية دیارام جيته للعلوم بجامعة كراتشي عام 1960، وعمل في وظيفة مفتش للأوزان والقياسات، وهي وظيفة حكومية من الدرجة الثانية، إلا أنه استقال منها بعد ذلك.

سافر عبد القدير خان من جديد لاستكمال دراسته فالتحق بجامعة برلين التقنية، حيث أتم دورة تدريبية لمدة عامين في علوم المعادن؛ كما نال الماجستير عام 1967 من جامعة دلفت التكنولوجية في هولندا ودرجة الدكتوراه عام 1972 من جامعة لوفين البلجيكية.

لم يكن ترك الدكتور عبد القدير خان لألمانيا وسفره إلى هولندا سعيًا وراء العلم. بل كان بسبب رغبته الزواج بالآنسة هني الهولندية -ذات الأصل الأفريقي- التي قابلها بمحض الصدفة في ألمانيا. وبالفعل تمت مراسم الزواج في أوائل الستينيات بالسفارة الباكستانية بهولندا.

حاول الدكتور عبد القدير مرارًا الرجوع إلى باكستان ولكن دون جدوى. حيث تقدم لوظيفة بمصانع الحديد في كراتشي بعد نيله درجة الماجستير، ولكن رفض طلبه بسبب قلة خبرته العملية، وبسبب ذلك الرفض أكمل دراسة الدكتوراه في بلجيكا؛ ليتقدم مرة أخرى لعدة وظائف بباكستان، ولكن دون تسلم أية ردود لطلباته. في حين تقدمت إليه شركة FDO الهندسية الهولندية ليشغل لديهم وظيفة كبير خبراء المعادن فوافق على عرضهم

في ذلك الحين كانت شركة FDO الهندسية على صلة وثيقة بمنظمة اليورنكو- أكبر منظمة بحثية أوروبية والمدعمة من أمريكا وألمانيا وهولندا. كانت المنظمة متهمة أيامها بتخصيب اليورانيوم من خلال نظام آلات النابذة Centrifuge system. التفاصيل التقنية المستخدمة لنظام الآت النابذة تعد سرية لأنها قد تستخدم في تطوير القنبلة النووية. تعرض البرنامج لعدة مشاكل تتصل بسلوك المعدن استطاع الدكتور عبد القدير خان بجهده وعلمه التغلب عليها. ومنحته هذه التجربة مع نظام الآلات النابذة خبرة قيمة كانت هي الأساس الذي بنى عليه برنامج باكستان النووي فيما بعد.

في عام 1974 فجرت الهند قنبلتها النووية الأولى في حينها كان الدكتور عبد القدير خان قد وصل إلى مستقبل مهني ممتاز بكونه واحد من أكبر العلماء الذين عملو في هذا المجال وأيضا كان له حق الامتياز في الدخول إلى أكثر المنشآت سرية في منظمة اليورنكو وكذلك إلى الوثائق الخاصة بتكنولوجيا الآلات النابذة، وعلى إثر تجارب الهند النووية أرسل الدكتور خان رسالة إلى رئيس وزراء باكستان "ذو الفقار علي بوتو" قائلا فيها: أنه حتى يتسنى لباكستان البقاء كدولة مستقلة فإن عليها إنشاء برنامج نوويّ".دعاه الرئيس لزيارة باكستان بعد تلك الرسالة بعشرة أيام ثم دعاه مره أخرى في عام 1975 وطلب منه عدم الرجوع لهولندا ليرأس برنامج باكستان النووي.

أبلغ الدكتور زوجته الهولندية بالخبر والذي كان سيعني تركها لهولندا إلى الأبد وافقت هي على قراره عندما علمت برغبته في تقديم شيء لبلده. تقول التحقيقات التابعة للسلطات الهولندية في ذالك الحين أنهم توصلوا إلى أن الدكتور عبد القدير خان قد نقل معلومات عالية السرية لوكالة الاستخبارات الباكستانية إلا أنهم لم يتوصلو إلى أي دليل يثبت ان كان الدكتور قد أرسل منذ البداية إلى هولندا كجاسوس أو أنه هو الذي عرض ذلك على السلطات الباكستانية فيما بعد.

في عام 1975 ترك الدكتور خان هولندا بشكل مفاجئ وفي عام 1976 عاد إلى باكستان ومنذ ذلك الحين استقرت عائلة خان في باكستان، وعند عودته، أنشأ مختبرًا في كاهوتا لتطوير اليورانيوم عالي التخصيب وأنتج أول يورانيوم عالي التخصيب في عام 1982.

ولشعبيته الجارفة أطلق الباكستانيون على عبد القدير خان لقب "أبو الترسانة النووية" أو "أبو القنبلة النووية" في البلاد؛ حيث كان أحد العلماء الأساسيين الذين عملوا على تطوير الأسلحة النووية في البلاد، ونجحت باكستان في إجراء أول تجربة لقنبلة نووية في عام 1998 ومنذ هذا الوقت صعد اسمه بقوة وأصبح حديث عدد كبير من وسائل الإعلام المحلية والعالمية، لكن هذه الشعبية لم تحل دون توجيه اتهامات غربية قالت إنه "ساعد في تطوير البرامج لتخصيب اليورانيوم في كل من إيران وكوريا الشمالية وليبيا".

ورغم اعتبار عبد القدير خان بطلاً، إلا أن الولايات المتحدة تتهمه منذ فترة طويلة "بنشر مواد نووية، وفي عام 2003، اعترضت الولايات المتحدة سفينة شحن ألمانية كانت في طريقها إلى ليبيا محتوية على أجزاء لأجهزة الطرد المركزي الغازية، ثم عينه الزعيم الليبي معمر القذافي كمورد له، وبعد عام اعترف العالم الباكستاني ببيع هذه المواد وقدم اعتذاره.

وفي فبراير (شباط) 2004، فرضت على خان إقامة مراقبة بعدما ثبت أنه كان مشاركاً في عمليات نقل تكنولوجيا نووية إلى إيران وليبيا وكوريا الشمالية في تسعينات القرن العشرين، واعترف الرجل الذي يعتبره البعض «بطلاً قومياً» ويرى فيه آخرون «عالم معادن ينشر السلاح النووي»، في فبراير 2004 على شاشة التلفزيون بأنه شارك في نشاطات انتشار. لكنه تراجع عن أقواله في وقت لاحق. ونتيجة لذلك، حصل على عفو من الرئيس مشرف.. بقي الدكتور خان يتمتع بشعبية في باكستان رغم الجدل. وكان يكتب بانتظام منشورات للمجموعة الإعلامية «جانغ» يشيد فيها بتعليم العلوم. ويحمل العديد من المدارس والجامعات والمؤسسات الخيرية اليوم تحمل اسمه.

وقد أغفل الموساد مهندس البرنامج النووي الباكستاني عبد القدير خان، الذي توفي هذا الأسبوع في إسلام آباد، على الرغم من أنه من العلماء النوويين الذين ساعدوا خصوم إسرائيل على حيازة قدرات عسكرية استراتيجية غيرت قواعد اللعبة.

وبحسب صحيفة "هآرتس" العبرية، أشار يوسي ميلمان، كاتب التقرير إلى أن عبد القدير خان، الذي توفي عن عمر ناهز 85 عاماً، جراء إصابته بفيروس كورونا، يعتبر بطلاً قومياً في موطنه باكستان، حيث أُطلق عليه لقب "أبو الأسلحة النووية الباكستانية"، لكن على نحو مماثل يمكن أن يطلق عليه أيضاً لقب "الأب الروحي" للبرنامج النووي الإيراني.. وأضافت أن خان الذي صنع قنبلة نووية في باكستان "سرّب أسراراً نووية، واستفاد من شبكة انتشار عالمية، وساعد إيران في أن تتجه نحو التسلح النووي، وكان يساعد الزعيم الليبي الراحل معمر في تحقيق طموحاته لإنشاء مفاعل نووي، وفقاً للصحيفة، لم يفلت خان من أصابع الموساد فحسب، إذ أتيحت لوكالة الاستخبارات المركزية أيضاً فرصة لإيقاف دور خان النووي في باكستان، وأعماله المستقلة اللاحقة في مجال الانتشار النووي.

وفي العاشر من أكتوبر  من عام 2021م، توفي العالم النووي الباكستاني، عبد القدير خان، اليوم الأحد، عن عمر ناهز 85 عاما،  وكان خان قد تم نقله إلى مستشفى في إسلام آباد، في وقت مبكر صباح اليوم، حيث توفي، بسبب مضاعفات مرتبطة بمرض كوفيد-19.

وهكذا ودعت باكستان عبدالقدير خان -أحد أبرز علمائها، والرجل الذي يعود له الفضل في دخول باكستان للنادي النووي العالمي لتنافس جارتها العملاقة الهند التي لو امتلكت الطاقة النووية لوحدها لأكلت باكستان سريعا دون تردد.

وقد أثار خبر وفاة عبدالقدير خان، موجة من الحزن والثناء أيضا على إرث العالم الباكستاني الراحل، إذ كتب رئيس الوزراء عمران خان، على تويتر: "حزين للغاية لوفاة الدكتور عبدالقدير خان"، مشددًا على مدى حب العالم النووي في باكستان بسبب "إسهاماته الحاسمة في جعلنا دولة نووية". وأضاف: "بالنسبة لشعب باكستان كان رمزًا وطنيًا".

كما كتب الرئيس الباكستاني عارف علوي على "تويتر": "ساعدنا (خان) في تطوير درع نووية أنقذت الأمّة، كما أن دولة ممتنّة لن تنسى خدماته في هذا الصدد". علماً أن خان أشرف على أول تفجير نووي نفذته إسلام آباد، في عام 1998، بعد فترة وجيزة على تفجير نووي مشابه نفذته نيودلهي.

فتحية طيبة للدكتور عبد القدير خان الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للعالم النووي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الدكتور عبد القدير خان الإنسان والأستاذ وإن كان جسده قد فارقنا، فإن فكره سيظل باقيا  ما بقيت الحياة علي وجه الأرض. ولا يسعني إلا أن أقول مع أستاذنا الدكتور عاطف العراقي أن أخاطب روحه في السماء قائلا: اذكريني، وذلك بعد أن انتشر الفساد الفكري والظلام الثقافي، ازدادت فيه طرق وأساليب جيوش البلاء والظلام، بحيث أصبح الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان، وإن كان أكثرهم لا يعلمون.

 

نعم أقول لروحه اذكريني حين يتم لقاء الأرواح بالأرواح في عالم الخلود، وبعيداً عن العالم الزائل الذي نعيش فيه.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

............

المراجع:

- مقال بيل باول وتيم مكغيرك بعنوان "الرجل الذي باع القنبلة" في مجلة تايم بتاريخ 14 شباط/ فبراير 2005 صفحة 22 - 30.

- مقال بارتون غيلمان ودافنا ليزنر بعنوان "خطر غير مسبوق يرغم على اتخاذ قرارات صعبة: الرئيس يواجه معركة متعددة الجبهات ضد تهديدات معروفة ومجهولة" في صحيفة واشنطن بوست بتاريخ 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2004، صفحة أ1).

- كتاب "الجهاديون النوويون"لدوجلاس فرانتس وكاثرين كولنز

- جريدة الوفاق العدد3112 "صانع القنبلة النووية يفجر قنبلة سياسية"

- مقابلة مع صحيفة نواي الباكستانية بتاريخ 2-4-2008

- برنامج وثائقي بعنوان"تجارة عبد القدير خان النووية"

- الكولونيل تشارلز د. لوتس 'لاعبون جدد في الساحة عبد القدير خان والسوق السوداء النووية'

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم