صحيفة المثقف

يادكار لطيف الشهرزوي: كسر أفق التوقع وانفتاح النص

يادكار لطيف الشهرزودييريتبط مصطلح (كسر أفق التوقع) بعملية انفتاح النص، والانعتاق والخروج من الانغلاق النصي، وهو مصطلح صاغه (‫هانس روبيرت ياوس) في كتابه (جمالية التلقي من أجل تأويل جديد للنص الأدبي) بالاعتماد على مفهوم (انصهار الآفاق) لـ(هانز جوج جادامير) في كتابه (الحقيقة والمنهج)، ثم طور (فولفانغ آيزر) مصطلح ياوس، فصاغ مصطلح (وجهة النظر الجوّالة) فيما بعد في كتابه (فعل القراءة).

يعـدّ التفاعل بين بنية النص والمتلقي الأساسَ في قراءة كلّ عمل أدبي، إذ يجب ألاّ تقتصر دراسة العمل الأدبي على النص الفعلي حسب، وإنّما وبالدرجة نفسها يجب الاهتمام بالأفعال المرتبطة بالتجاوب مع ذلك النص (1)، فالأثر الجمالي يقوم على جدلية ثلاثية الأطراف هي النص، والقاريء، وتفاعلهما المشترك (2). وعليه فإنّ قراءة النص لن تكون عملية محايدة، وإنّما هي على العكس من ذلك، لأنّ القاريء يتتبّع القراءات السابقة لقراءته، ويجمعها مع معايير تعميمية حتى يصب توقّعات معينة نحو معنى محدّد (3). فالعمل الأدبي "يوجد فقط بوصفه التفسير الجمعي لأجيال متتابعة من القرّاء، فكلّ جمهور أو مجموعة من القراء تستجيب إلى العمل الأدبي من أفق توقّعات بعينها (أي مجموعة من الأعراف والقوانين)" (4).

إنّ الطريقة التي يتمّ بها ضبط الحوار بين المتلقي والنص، تعدّ من أهمّ جوانب نظرية التلقي، وتتجسّد هذه الطريقة في العلاقة الجدلية بين التوقع/ عدم توقع، فالتوقّع هو "انتظار يشوبه التمنّي، مثل درجة  النجاح التي يتمنّى المرء بلوغها في عمل ما" (5)، أمّا اللاّتوقّع فهو كسر لهذا الانتظار، وخيبة تواجه عملية التوقّع.

ربط نقاد نظرية التلقي وعلى رأسهم (ياوس) قيمة النص وفنيته العالية، بمدى انطوائه على انزياحات تتصادم مع معايير القاريء، وتعديله لأفق توقّعاته، فلا يؤدّي النص وظيفته إلاّ بوصفه سلباً للمعايير –كما يرى إيزر- والأدب سيصبح فارغاً إذا اقتصر على (المألوف من قبل)، وهو يعتقد أنّ المنطقة المألوفة مهمّة لا لشيء إلاّ لأنّ من شأنها أن تقود إلى اتجاه غير مألوف(6). قد يكون إيزر جانب الصواب في رأيه هذا، لأنّ دور المتوقع أو المألوف لا ينحصر في إبراز اللاّمتوقّع أو عدم التوقع، فعلى سبيل المثال يرى أرسطو أنّه في "المأساة الجيدة تكون الأحداث غير متوقعة، ومع ذلك فأحدهما نتيجة للآخر"(7). ويوضّح عبد القاهر الجرجاني أهمية المتوقّع وعلاقته السببية باللاّمتوقّع، وعلاقة الاثنين بالمتلقي في معرض تحليلاته لتأثير التمثيل في الوعظ والحكمة، ويضع اليد على أهمية البعدين لإحداث التفاعل المرجو بين النص والمتلقي، يقول: "فأمّا القول في العلّة والسبب، لم كان للتمثيل هذا التأثير؟ وبيان جهته ومأتاه، وما الذي أوجبه واقتضاه، فغيرها.

وإذا بحثنا عن ذلك، وجدنا له أسباباً وعللاً، كلٌ منها يقتضي أن يَفخُم المعنى بالتمثيل، وينبُل ويشرُف ويكمل.

فأوّل ذلك وأظهره، أنّ أُنْس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفيّ إلى جليّ، وتأتيها بصريح بعد مكنيّ، وأن تردّها في الشيء تُعلِّمها إيّاه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم = نحو أن تنقلها عن العقل إلى الاحساس، وعمّا يُعلم بالفكر إلى ما يُعلم بالاضطرار والطبع، لأنّ العلم المستفاد من طريق الحواس أو المركوز فيها من جهة الطبع وعلى حدّ الضرورة، يفضُلُ المستفاد من جهة النظر والفكر في القوة والاستحكام، وبلوغ الثقة فيه غاية التمام .. وضربٌ آخر من الأنس، وهو ما يوجبه تقدّم الإلف .. ومعلوم أنّ العلم الأول أتى النفس أوّلاً من طريق الحواس والطّباع، ثم من جهة النظر والرويّة، فهو إذن أمسّ بها رحماً، وأقوى لديها ذمماً .. وإذ نقلتها في الشيء بمثَله عن المُدرَك بالعقل المحض وبالفكرة في القلب، إلى ما يُدرَك بالحواس أو يُعلم بالطّبع وعلى حدّ الضرورة، فأنت كمن يتوسّل إليها للغريب بالحميم، وللجديد الصحبة بالحبيب القديم .."(8).

يشكل التوقّع السياق الذي يُظهر اللاّمتوقّع أو اللاّمألوف كما يطلق عليه ريفاتير، ومن منظوره أنّ السياق الداخلي للنص (المألوف) هو الأداة الثانية بعد القاريء النموذجي لضبط السمات الأسلوبية وتحديدها، وحينئذ يكون الحديث عن الأسلوب حديثاً عن لحظات تجربة القراءة، فالعلاقة بين مثل هذه اللحظات واللحظات الأخرى في بنية النص التي يعمل القاريء على إلقاء الضوء عليها، هي ما يقصده ريفاتير بـ(السياق الأسلوبي) (9)، والسياق الأسلوبي حسب مفهومه هو "نموذج لساني مقطوع بواسطة عنصر غير متوقّع. والتناقض الناتج عن هذا التداخل هو المنبّه الأسلوبي"(10).

إنّ "رحلة القاريء في الكتاب عملية متواصلة"(11)، فعندما يبدأ بالقراءة يمضي على نحو متّصل في إدراكه، وفقاً لتوقّعاته المستندة إلى خلفيته الثقافية، لذلك فإنّ ورود شيء غير متوقّع، ينتج عنه احتمال تعديل وجهة نظره نتيجة استبطان العناصر غير المحدّدة في النص والتفاوض معها وتحقيقها(12). وهذ التغيير لأفق التوقّعات يسمّيه إيزر (وجهة النظر الجوّالة)(13) ، وهي "تتيح للقاريء أن يسافر عبر النص .. كاشفاً بذلك كثرة المنظورات التي يترابط بعضها مع بعض، والتي تعدّل كلّما حدث انتقال من واحد منها إلى الآخر"(14). وعبر هذا الانتقال وهذا الكشف تتمّ عملية التفاعل ما بين النص والمتلقي، وتبلغ مستويات تتعدّى القراءة السطحية(15).

تعتمد عملية الاتصال والتأثير ما بين النص والمتلقي على مشاركة المتلقي، وحسن تلقيه للإشارت النصية التي تقود خطاه، وتتحكم في نشاطه لتجنب الشطحات التأويلية، وعدم انطاق النص بما لم يقله، فـ"القراءة نشاط موجّه من طرف النص"(16)، ويحدث هذا، ويتعمّق التواصل، عندما يرصد القاريء في بنية النص إجراء أسلوبياً غير منتظر، أو مقابلات دلالية غير متوقّعة، أو مفاجآت سياقية، أو عندما يفرز ظاهرة إمساك النص عن معلومات، وعدم مباشرته في إعطاء مسوّغات هذا الإخفاء بشكل جاهز، أو عندما يلحظ استمرار النص في السير باتجاه، ثمّ تحويل ذلك الاتجاه فجأة نحو مسار آخر ليكسر أفق توقّعه(17)؛ لأنّ قيام المتلقي برصد المستويات الأسلوبية المتنوعة، وتحديده للبنى المسكوت عنها، وإبراز متعلّقاتها الدلالية، وتعامله مع مساحات الصمت بين أجزاء القصة في البناء السردي، وبحثه عن اشعاعاتها الفنية، والأدائية، والفكرية، يؤدّي به إلى تحقيق التواصل بينه وبين النص، فالتضمينات النصية المتمثلة في بنى الحذف، والبنى المسكوت عنها، ومساحات الصمت؛ تعطي الشكل والثقل للمعنى، فهذه البنى هي التي تبرز قيمة الذكر، فمع انبعاث، وإظهار ما لم يقل داخل النص، فإنّ ما قيل وما ذكر يبرز في النص، ويأخذ أبعاده الدلالية الكاملة(18). لأنّ "ما يصمت النص بشأنه هو الذي يحرض القاريء على فعل البناء والتشكيل، ويكون هذا التحفيز على الإنتاج مُراقَباً بما يقوله النص"(19).

 

أ. د. يادكار لطيف الشهرزوي

كلية اللغات، جامعة صلاح الدين – أربيل

.........................

(1) ينظر فعل القراءة:12.

(2) ينظر ظاهرة التلقي في الأدب، محمد علي الكردي، علامات في النقد، المجلد 8، الجزء 32، مايو 1999: 21.

(3) ينظر بلاغة الانتظار بين التأويل والتلقي:450.

(4) م.ن:447.

(5) معجم مصطلحات علم النفس /عربي/فرنسي/انكليزي:82.

(6) ينظر نظرية التلقي:231.

(7) نظريات السرد الحديثة:168.

(8) أسرار البلاغة:121-122.

(9) ينظر نقد استجابة القاريء:178-179.

(10) معايير تحليل الأسلوب:56.

(11) النظرية الأدبية المعاصرة:164-165.

(12) ينظر م.ن:166.

(13) ينظر نظرية التلقي:215.

(14) نظرية التلقي:215.

(15) ينظر م.ن:215.

(16) فعل القراءة:94.

(17) ينظر جماليات الأسلوب والتلقي، أ.د.موسى ربابعة:129.

(18) ينظر م.ن:128.

(19) من فلسفات التأويل:221.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم