شهادات ومذكرات

جورج جرداق .. 1931-2014

هذه ليلتي وحلم حياتي

بين ماضٍ من الزمان وآت

الهوى أنت كله والأماني

فاملأ الكأس بالغرام وهات

 

خطا خطواته الاولى ودرس المراحل الاساسية في بلدته "مرجعيون"، ذات المناظر الطبيعية الخلابة، وكثرة المياه المنسابة جداولا وعيونا. لم يُر الا متأبطا أحد الديوانين، أو كليهما: " ديوان أبي الطيب المتنبي، وديوان ناصيف اليازجي". عشق القراءة منذ نعومة أظفاره، واتخذ في حياته مسلكا يختلف عن مسالك اترابه. فطالما يمم نحو الطبيعة الغناء، ليقبع تحت شجرة وارفة الظلال، أو الى جانب نبع ماء أو جدول، ليعيش ساعات من سحر المتعة مع الكتب التي يعشق. واتفق أن اكتشف أخوه " فؤاد جرداق " شغفه في القراءة، فقدم له رائعة سيدنا علي بن أبي طالب " نهج البلاغة "، التي انكب عليها دراسة واعجابا وحفظا.

وفي أروقة الكلية البطريركية، رائدة المعرفة أنذاك، اثمرت جهوده واينعت. فبعد تخرجه زاول التدريس في معاهد بيروت، اضافة الى الكتابة في صحف لبنانية وعربية، بل وأجنبية. فكتب في صحيفة " القبس " الكويتية لسنتين متواصلتين، ولبعض الوقت في صحيفة " الراي العام " الكويتية كذلك، ناهيك عن صحف في لبنان ومصر وباريس.

برزت علامات النبوغ على شاعرنا العظيم مبكرا، ففي سن السابعة يكتب قصة، وفي الثالثة عشرة يكتب مسرحية، وفي الثامنة عشرة يؤلف كتابا تحت عنوان " فاغنر والمرأة " الذي أعده النقاد وأهل المعرفة، مرجعا ادبيا راقيا ورائعا. ولم يقف عند حد الكلمة المقروءة فحسب؛ بل تسللت نسائمه الى الاذاعة اللبنانية: " صوت لبنان"، اذ قدم برنامج " على طريقتي "، وكان شرطه الا يخضع ما يقدمه للرقابة، وكان له ما طلب، واستمر هذا البرنامج زهاء (15) سنة دون توقف. من كتبه على سبيل السرد، لا الحصر: قصور وأكواخ، رواية تاريخية عن صلاح الدين وريكاردوس قلب الاسد، وهي من الف صفحة، اضافة الى ما ينوف عن خمسين قصيدة تغنى بها كبار المطربين والمطربات، عدا القصائد التي لم تغنى. فمن بعض دواوينه: أنا شرقية، بوهيمية، الهة الاولمب، قصائد حب، ابدع الأغاني. كما كان أحد أعضاء الهيئة الاستشارية في مجلة " صروح " السورية، حيث كتب فيها بعض المقالات الساخرة و القصص الاخرى الهادفة. فأمام هذه العظمة والتألق، فقد اتيحت لشاعرنا الكبير بعثة لاوروبا لدراسة العلوم الطبيعية والرياضيات، لكنه رفض تلكم الفرصة، لفرط عشقة لتراب وطنه، وتماهيه مع ذرات ترابه، وقطرات مائه، ونسائم أجوائه.

في العام 1966، حط موكب مطرب الاجيال والملحن الكبير "محمد عبدالوهاب" ارض لبنان، واختار جوار شاعرنا "جورج جرداق" لعام كامل، وطلب منه اثناء لقائاتهما كتابة قصيدة لكوكب الشرق "أم كلثوم" لتصدح بها عبر الاثير. وتم الامر، وكان من المفترض ان تغنى عام 1967، ولكن احداث النكسة حالت دون ذلك، فغنتها في العام التالي، 1968. اجتمع ثلاثتهم في القاهرة: جورج جرداق، محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وتدارسوا القصيدة، واجروا عليها بعض التعديلات البسيطة، وانطلقت تلكم الحنجرة الذهبية تصدح بأغنية "هذه ليلتي"، التي ما فتئ القوم يتساءلون عن سحر تلكم الليلة التي الهمت شاعرنا عذب الكلام.

يفتخر بمدرسيه في الكلية البطريركية، ويشيد بجهودهم أمثال رئيف خوري، فؤاد أفرام البستاني وهو مؤسس الجامعة اللبنانية. بلغ مرحلة النبوغ في الكتابة، فقد كانت طوع خاطره، وسبيل يراعه. كتب المذهبات الراقية عن سيدنا على بن ابي طالب كرم الله وجهه، وأعطاه المكانة التي يستحق في التاريخ. فقد كتب ذات مرة: " على بن أبي طالب هو في الحقيقة والتاريخ واحد، سواء عرفته أم لم تعرفه. فالتاريخ والحقيقة يذعنان بأنه ضميرا حيا وقهارا، وأبو الشهداء والاحرار، وهو صوت العدالة الانسانية، وشخصية الشرق الخالدة ".

من القلائل الذين يولون مكتباتهم البيتية عناية خاصة؛ كتبه بمثابة اولاده، ولا فرق بين ولد واخر، فاللمس والامساك بهذه الكتب ممنوع قطعيا. تضم مكتبته كتبا عامة، تخدم عمله وحياته اليومية، وكتبا من نوع اخر، ذات قيمة تاريخية لا تقدر بثمن. اذ تضم مخطوطات بعدة لغات كالعربية، السريانية، والتركية. وتتربع على قمة الاهمية مخطوطة: " شرح أنوار التنزيل واسرار التاويل "، وهي مخطوطة ضخمة ومكتوبة بماء الذهب وبالزعفران وبالحبر القديم.

فتاريخ عملاق بقامة شاعرنا العظيم "جورج جرداق"، لا توفه حقه مقالات متواضعة؛ انه موسوعة بحق، ولعل المستقبل يعد بمقالات اخرى تظهر الكثير مما لم نتطرق اليه تفصيلا.

 

يونس عودة/ الاردن

 

في المثقف اليوم