شهادات ومذكرات

الشاعر التركي ناظم حكمت 1902-1963

ان أجمل الأيام يوم لم نعشه بعد /// وأجمل البحار بحر لم ترتده أشرعتنا بعد

قبع وراء القضبان (13) عاما، ولم يفقد الأمل. كان ينظر لقادم الايام بمنظار التفاؤل، رغم قسوة السجن، ورغم قضائه بقية ايام محكوميته في زنزانة منفردة. ما كان يخفف عناءه، رؤيته لطيف زوجته- هكذا كان يتخيل- ومناجاته لها كل ليلة، وحضها على الصبر، والثقة بان انبلاج النور بات قريبا.

انه الشاعر التركي" ناظم حكمت"،شاعر البسطاء والمعوزين واصحاب المهن البسيطة، وشاعر الانسانية كلها، الذي تأثر بشعره الكثير من الشعراء أمثال عبد الوهاب البياتي، بلند الحيدري، نزار قباني، وغيرهم، اضافةالى شعراء من الغرب. هو ابن اسرة تركية ثرية، ساند أفكار "أتاتورك " بداية، ثم ما لبث ان انقلب عليها، فاودع السجون التركية للعام1950، ثم فر الى الاتحاد السوفييتي، وانطلقت عجلة شعره هناك مدوية، ومطالبة بحقوق الطبقة المعدمة من المجتمعات، بعد ان استأثرت ما يسمى بالطبقة البرجوازية بخيرات البلاد.

هو حفيد ناظم باشا، عمدة حلب، وأمه ارستقراطية، ووالدها أنور باشا، تلك الشخصية العثمانية اللامعة. ففي صباه تشبع بحب الاناشيد الصوفية، وعرف الايقاع والشعر مبكرا اثر تشربه الايقاعات الدينية على ايدي اصحاب الطرق المولوية الصوفية. تلك بدايات روحية اسهمت في تشكل وجدانه ووعيه، ولازمته مدى الحياة، حيث وجهت كتاباته نحو السمو الوجداني، والعدالة، والانسانية جمعاء. يعتبر اول من نادى بعولمة الانسانية، دون تمييز عرق عن اخر. لقد قال عنه الكاتب السوري " حنا مينة ": " يكفي أن نقول ناظم، حتى نقول الانسان. لقد كان سبب موت ناظم هو جرعة كبيرة من حب الانسانية العظيم".

عاصر الحرب العالمية الاولى، ورأى تحول الحياة برمتها. فاخذ منحى هو الاخر لتحويل كتابة الشعر بما يتناسب والحقبة الجديدة. فحرر الشعر من القواعد والعروض، وحرك امكنة القوافي، فتارة هي في اخر الابيات، وتارة في أولها، وربما لا قافية، أحيانا. في عام 1931 صدر له ديوان بعنوان " المدينة التي فقدت صوتها "، حيث كان يحمل قصائد ذات روح وايدولوجيا متفتحة، تدعو الى الوعي والادراك فيما يدور في البلاد من هيمنة المتنفذين على خيرات البلاد واستعباد العباد. فشعره كان بمثابة المرآة للشعوب،خاصة اهل بلاده. وقال ذات مرة: " انني شاعر تركي عادي يعتز بأنه أعطى قلمه وقلبه وعمره كله لشعبه".

قال عنه الناقد" جوزين دينو": " ان ناظم اذكى النار في الهشيم الشعري، وحرره من القواعد العروضية".أما الناقد" تزيستان تزارا " فقد قال بان ناظم سخر شعره للانقضاض على الاستبداد، وناضل لتحقيق العدالة الاجتماعية. وحتى في غياهب السجن، كان ناظم يرفق بالناس ويقدر انسانيتهم. فقد جمعته الظروف بشتى انواع البشر، ولم يكن الا الانسان والمربي معهم. فها هو يتبنى أحد قائلي الشعر، وياخذ بيديه ليصبح – بعد خروجه من السجن-روائيا كبيرا هو " أورخان كمال " صاحب رواية " فوق الارض الخصبة". وها هو مرة اخرى يقدم ادواته من أقلام واوراق والوان لسجين اخر، ليصبح فيما بعد، اشهر رسام شعبي في تركيا وهو " بلابان ".

لم يتوقف عن مراسلة امه " جليلة " طيلة ايام سجنه. تلك السيدة الوقور ، التي كانت تزوره بين الفينة والاخرى، وتجلسه على كرسي في فناء السجن، وتبدا برسم صورة له، كونها فنانة بارعة. وكان يتأفف من الجلوس طويلا دون حراك، وكثيرة هي المرات التي يغير جلسته، بل يترك الكرسي ليبدأ في سرد اخر اشعاره على مسامع الجميع. فكانت كلماته لها الوقع الأكبر على مسامع امه،التي ما انفكت تترقرق الدموع في مقلتيها. اما زوجته " منور "، فكانت الوطن الدافئ لناظم. كانت علاقتهما ليست مجرد علاقة زوج بزوجه، انما انسان بانسان ذابا وتماهيا في تراب الوطن. فكلما كان يعرف بموعد زيارتها اليه، كان يكوي ملابسه في المساء، ويلمع حذاءه، ثم ينهض في الصباح الباكر نشيطا ليذهب للحلاق لتصفيف شعره وحلاقة ذقنه. كانت تدرك انها زوجة رجل مهم وصاحب مبدأ. من جهته، فناظم يرى ان تبقى المرأة السند والظهير للرجل، فتشد من أزره، وتعينه على تقلبات الدهر ونوائبه، وتسهم معه لاجل غد مشرق.

ففي قصيدة" معارفي هناك "، يستحضر ناظم حكمت زملاءه في السجن، ويستمع الى مطالبهم. فمنهم من يريده ان يغني الاطفال اغان الترابط والمحبة في الحدائق والمروج الخضر. ومنهم من يروي له الحكايات عن عائلته وأفراد اسرته، ومنهم من هو بشوق لرؤية ابنته ذات الخمسة أعوام، بعد ان تركتها امها للضياع، اثر زواجها من اخر، واخر يروي لناظم ان أجمل ما سمعه من أصوات هو صوت ابنه عن النجوم بينما يستعد للنوم على ركبته ذات ليلة صيفية. وهنا يبادلهم ناظم الدور، فيروي لهم حكايات عن العالم كله، حكايات عن ايام جميلة قادمة، تخضر المراعي، وتزهو المروج، وتتفتح الازهار وتورق الاشجار. فربما هذا الامل هو ما جعل الشاعر يقول قصيدة مبشرة جميلة مطلعها في مقدمة هذا المقال.

 

يونس عودة/الاردن

 

في المثقف اليوم