شهادات ومذكرات

ذكرياتي مع العبادي

fakhry mashkorفعرفت لماذا اختاره لرئاسة الحكومة تحالفُ الفاسدين من السنة والشيعة والكرد، ورحّبت به العواصم الداعمة للارهاب

بعد السقوط وبعد فشل الحاكم الامريكي جي غارنر، ارسل الرئيس الامريكي جورج بوش الابن ممثلاً شخصياً عنه وفوّضه صلاحيات مطلقة باعتباره حاكماً أعلى في العراق بدلاً من الحاكم السابق صدام حسين. وقد قام بريمر بتشكيل مجلس للحكم ضمَّ القوى والشخصيات السياسية على اساس المحاصصة بين السنة والشيعة والاكراد.

كانت رئاسة مجلس الحكم دورية تنتقل من شخص الى آخر حسب الحروف الابجدية لاسم العضو. ولأن اسم الدكتور ابراهيم الجعفري يبدأ بالاف والباء فقد اصبح أوّل رئيس لمجلس الحكم، وبالتالي وقعت عليه مسؤولية تشكليل أول حكومة بعد سقوط نظام صدام.

بدأ الجعفري بتشكيل الوزارة الاولى على اساس المحاصصة. كانت حصة الدعوة (التي كان الجعفري امينها العام يومها) وزارتين خدميتين هما: الصحة والاتصالات. وقد اختار الجعفري للاتصالات الدكتور حيدر العبادي، وللصحة الدكتور خضير عباس، وكلاهما من اعضاء حزب الدعوة، وبالتحديد من تنظيم لندن حيث كان الجعفري يقيم قبل السقوط.

اتذكر ان الجعفري اشتكى (بحضوري وشخص اخر لا اريد احراجه)، اشتكى بمرارة من بادرةً صدرت من الدكتور العبادي في اليوم الاول لقدومه الى بغداد لتوليه منصب وزير. قال الجعفري بامتعاض شديد: تصوروا ان العبادي سألني اوٌل ما وصل: وهل ان سماحة السيد السيستاني موافق على الأمر (اي تشكيل الوزارة)؟

وأردف الجعفري: نحن في أي ظرف، وهذا الرجل كيف يفكّر.

واتذكر ايضاً انني في تلك الفترة التي كانت الحكومة تتشكل كنت مشغولاً بالبحث عن امكانات انشاء مؤسسة لرعاية شهداء الحقبة الصدامية، وكنت التقي بالجعفري وباقي قيادات الدعوة واتحرك بهذا الاتجاه فلا اجد اهتماماً الا بالتشكيلة الحكومية، اكتشفت مبكّراً أن سلّم الاولويات عندهم يختلف عن سلّم اولوياتي.

تمكنت بعد مدة من تحقيق انجاز معنوي لعوائل الشهداء وذلك بترتيب لقاء لهم مع الدكتور جعفري في منزله بالمنصور (الذي كان في الحقيقة منزل الدكتور ضياء الشكرجي).

كان لقاء عوائل الشهداء بالدكتور الجعفري رائعاً انعش فيهم الامل بعد ان كادوا ييأسوا من رفاق طريق شهدائهم الذين لم يكلفوا انفسهم مشقة زيارة بيوتهم لغرض السلام عليهم فقط. لقد كان ايتام وارامل الشهداء فرحين بسقوط الصنم وفرحين لعودة رفاق الطريق الى الوطن، ولم يكونوا ينتظرون منهم عوناً مادّياً بقدر انتظارهم كلمة مواساة، او لمسة حنان، او ابتسامة ترحيب تشعرهم ان شهيدهم حقـّق هدفه عن طريق رفاق دربه.

يعود الفضل في مساعدتي على جمعهم للقاء الدكتور جعفري بالدرجة الاكبر للاخت الدكتورة ابتسام عزيز (ام حيدر) والاخت الحاجة ام ميثم زوجة الشهيد جواد الزبيدي، التي بذلت مع اولادها جهدا كبيراً في البحث والتواصل مع عوائل شهداء تقطعت الصلات معهم بسبب التخفي عن اعين النظام والإبعاد والابتعاد والحرمان والاهمال حتى اصبحوا يعانون من شظف العيش في مناطق نائية ومساكن قديمة كنت اقطع الطرق الى بعضهم مروراً بمستنقعات وطرق وعرة لكي اقدم لهم عواطف مواساة بينما كان القادة الكبار مشغولين عنهم بالعمل السياسي.

كانت عوائل الشهداء تتصور ان باقي القياديين هم الذين يبعثونني نيابةً عنهم لتفقد عوائل الشهداء! ولم أكن أصّحح لهم هذا التصوّر الخاطئ، لأن المهم هو تطييب خواطرهم بالمواساة ريثما تنضج جهود انصافهم وتعويضهم بعض ما فقدوه. ولو كنت اخبرتهم ان القياديين لم يكلفوني بزيارتهم، بل لم يكلفوا انفسهم مشقة السؤال عنهم، لكنت احدثت لهم صدمة نفسية كبيرة.

ولازلت اذكر الفرحة الغامرة التي عمتهم بعد ترتيبي لقائهم بالجعفري الذي أهدى كل عائلة نسخة من القرآن الكريم وعليها توقيعه، وبقيت عندي كمية من المصاحف الموقع عليها لاعطيها للذين لم يتمكنوا من المجيء.

***

في محاولة لربط عائلة الشهيد جواد الزبيدي بالحياة العامة والتغلب على ابتعادهم القسري عن المدينة وسكانها وجدت ان تجهيز بيتهم المتداعي بجهاز تلفون ارضي هو خير وسيلة لاخراجهم من عزلتهم في وقت لم يكن الموبايل قد نزل الى التداول. توجهت بطلبي هذا الى الدكتور حيدر العبادي الذي لم يمض على استلامه وزارة الاتصالات الا فترة بسيطة. التقيت به في الباب الداخلية لبيت الجعفري وكان داخلاً فاستوقفته وقلت له:-

• ابا يسر، تعرف الشهيد الكبير الحاج جواد الزبيدي؟

• تماماً

• انا اعلم ان الشهيد جواد الزبيدي كان رفيق دربك، لكنك لا تعلم ان عائلته تعيش وضعاً حياتياً صعباً احاول انا بجهدي الشخصي ان اقف معهم

• حسناً، وما المطلوب؟

• تلفون لبيتهم

• بسيطة، قل لهم يراجعوني في الوزارة وانا بالخدمة

• ابا يسر، عوائل الشهداء لا يراجعون ولا يطلبون. نحن الذين يجب ان نراجعهم ونقدم لهم الخدمات على طبق من ذهب

• يعني كيف؟ لابد ان يراجعوا.

• انا الذي اراجع عنهم، قل لي ماذا افعل؟

• لابد من طلب يقدمونه لي في الوزارة لاوافق عليه، والا كيف ياخذ الطلب مجراه؟

• مهلاً، ساكتب لك الطلب الان.

وكتبت له الطلب فوقع عليه فقلت له:

- خذه معك الى الوزارة للتنفيذ.

• حسناً، ومن يدفع تكاليفه؟

واصبت بما يشبه الصعق الكهربائي .. العبادي اقام في لندن اكثر من عقدين من الزمن يعمل مدير شركة، واليوم هو وزير، كيف يتوقف عند ثمن تلفون ارضي لعائلة شهيد وصديق في نفس الوقت؟

حاولت ان استكشف الامر اكثر لعل ما قاله عثرة لسان، فقلت له:-

• وكم هي كلفة التلفون؟

• حوالي أكثر من مائة الف دينار (قرابة مائة دولار).

• معقول يا ابو يسر؟ هذا الشهيد جواد الزبيدي .. اتطالبهم بتكاليف تلفون منزل؟

• واذا... هذه قوانين... اذن ما الفرق بيننا وبين البعثيين

كانت مفاجأة من العيار الثقيل، فلم أكن اعرف نمط تفكير الدكتور حيدر العبادي، لانني لم اعايشه الا من خلال لقاءات رسمية في مؤتمرات، ولم التق معه طويلاً الا في عام ٢٠٠١ حين دعاني الى بيته في لندن وسهرت معه الى وقت متأخر تحدثنا فيها بقضايا متعددة كشفت لي حدود تفكير الرجل، لكني لم اكتشف هذه المساحة الاقتصادية من فكره ونفسه.

وبقيت حائراً في تفسير هذا القياس بين سلوك البعثيين الذين اعدموا جواد الزبيدي وبين توصيل تلفون مجاني لعائلته!

قلت له - تجنّباً للجدل وحرصاً على إتمام الأمر-: حسناً، انا ادفعه، لكن قل لي متى سيتم؟ ان هذا الامر عاجل ويجب ان تنجزه خارج السياقات الروتينية، فوعدني بذلك شريطة ان اتابع الموضوع معه بنفسي، ولضمان الانجاز أعطاني تلفونه الشخصي الذي يرد هو عليه (او يردّ سكرتيره الخاص ويطلعه من يتصل وماذا يريد).

ومضت الايام وانا اتابع موضوع التلفون من دون جدوى. السكرتير مرة يقول انه مشغول، ومرة انه في اجتماع، ومرة يطلب مني الانتظار فينقطع الخط دون ان ادري لماذا انقطع، .... حتى يئست فتركت الموضوع.

***

 

بعد مدة طلب مني احد الاصدقاء المخلصين (أبو جلال الشاعر) أن اتوسط له عند الدكتور العبادي في الحصول على رخصة محل خدمة انترنت. قلت لهذا الصديق: انت عزيز عليّ، لكني اعلم ان الدكتور العبادي لا ينجز لك شيئا، لكن الصديق لم يقتنع. وجدت من الوفاء ان اذهب معه الى الدكتور العبادي (وزير الاتصالات يومها) ليلمس بنفسه الحقيقة. استقبلنا الدكتور العبادي في بيته في الكرادة، وبعد الترحيب والمجاملات عرض عليه صديقي طلبه فقال العبادي: هذا لا يمكن في الوقت الحاضر. لكن الصديق قال له: ان هناك محلات حصلت على ترخيص، فاذا كان غير ممكن فكيف حصلت هذه المحلات على ترخيص وباشرت العمل؟ لكن العبادي اصر على عدم امكانية الموضوع.

كنت انا صامتاً اتفرج واسمع ما يدور بينهما، قد كنت اعرف النتيجة مسبقاً، وكان هدفي من المجيء هو فقط ان يعذرني هذا الصديق ولا يظن انني اعتذر عن التوسط له عبثاً... جعلته يرى الوضع بنفسه لكي لا يشك بما قلته له حول قابليات العبادي.

في النهاية التفت لي العبادي وقال: صحيح، ماذا حصل لتلفون عائلة الشهيد جواد الزبيدي؟

قلت له: لا شيء... بعد اتصالات متكررة على تلفونك الخاص، وبعد رجاء سكرتيرك كل مرة ان يقول لك ان فخري مشكور اتصل لاجل تلفون عائلة الشهيد جواد الزبيدي، وصلتُ الى اليأس الكامل خصوصاً بعدما طلبتُ من السكرتير آخر مرة ان يكتب سطرين ينقلهما لك فاعتذر بانه لا يحمل قلماً !! وانتهزت الفرصة لاقول للعبادي: سكرتير وزير لا يحمل قلماً! ماذا يعني هذا في رأيك؟ فأجاب العبادي بالحرف: عادي جداً، تحدث حتى في بريطانيا. وكانت هذه كلمة جامعةً اغنتني عن شروح طويلة.

ثم قال لي: لحظة لحظة ابا عارف، انا اتذكر انني وافقت على الطلب، واحلته

• وما يدريني لمن احلته؟

وفكّر الرجل في كيفية الاهتداء الى مصير الطلب داخل وزارته فاهتدى الى حلّ:-

• حسناً، اعطني الاسم الكامل لزوجة الشهيد، لابحث عن الطلب عن طريق الاسم

• لا اعرف اسمها الكامل، أعرف فقط اسمها الاول، نحن نعرفها بالحاجة ام ميثم، ولا نناديها باسمها الكامل

• اذن كيف تريدني ان اجده بدون الاسم الكامل؟

• ابو يسر، انت وزير ولك مدير مكتب تقول له جد لي طلب تلفون وافقتُ عليه قبل كذا شهر لسيدة اسمها الاول كذا...

• لا، لا ابا عارف. اذا كنت انت المهتم بالموضوع والحريص على القضية لا تستطيع ان تجد لي الاسم فكيف تتوقع من موظف ان يقوم بذلك؟

وعرفت انني بلغت في معرفة الرجل عين اليقين بهذا الكلام الصراح، فامسكت عن الكلام المباح.

لاحقاً سمعت ان العبادي - بعد ان اصبح رئيساً للوزراء- حذّر "العسكريين الفضائيين" (وهم الذين عينتهم قيادات فاسدة فصاروا يقبضون رواتب دون ان يحضروا يوماً واحداً للعمل)، حذّرهم من استلام رواتبهم! لأنه سوف لن يسكت عنهم. انتهى الاجراء.

كما سمعت تصريحه بتاجيل معرفة اسباب سقوط الموصل الى ما بعد تحرير الرمادي، وسمعت ايضاً تصريحه انه لم يصدر امراً باسحاب القوات من الرمادي، واشياء اخرى كثيرة، فعرفت لماذا اختاره لرئاسة الحكومة تحالفُ الفاسدين من السنة والشيعة والكرد، ورحّبت به العواصم الداعمة للارهاب

 

فخري مشكور

 

في المثقف اليوم