شهادات ومذكرات

استحضار ذكريات العيد .. سينما أبولو وربع دالصوصط نموذجا

hamid taoulostكلما تقدم بنا الزمن نستذكر الماضي ونستحضر ذكريات أعياده القديمة التي كانت بحق تستحق أن تسمى أعيادا، قبل أن يبهت البريق الذي كان لها فيما سبق من الأعوام، وتفقد تأثيرها على الأطفال قبل الكبار، وتصبح رتيبة مملة، تدفع لترديد ما قال فيها

الشاعر الكبير أبا الطيب المتنبي:

   عيد بأي حال عدت يا عيد ... مضى أم لأمر فيك تجديد

والذي سيظل تعبيرا صادقا نستلهمه في كل مناسبة تتعاقب علينا سنة بعد أخرى .

ولو عدنا بذاكرتنا قليلا إلى الوراء، لوجدنا الفرق كبير بين طقوس العيد اليوم وطقوسه بالأمس، وكيف أصبحت غير معمولا بها لدى الأجيال الحالية والقادمة، بعد أن تلاشى الكثير من تقاليدها وحكاياتها التي طالما كانت فيما مضى، مصدر فرحة طفولتنا، ونحن نرتدي ملابسنا الجديدة، ونستلم عيديات الأهل والأقرباء السخية ..

لذلك أجدني أعود طفلا، كلما جاء العيد، أي عيد كيفما كان، واسترجع "هبل" الطفولة اللذيذ، واستعرض ذكريات ما حصل خلال الأعياد من أحداث طريفة أو حزينة، كالبوم صور بالأبيض والأسود، واضحك من الأعماق، من صورة أعياد كانت زمن الطفولة، مجرد انتظار لـ"نفار" العيد، و"عصيدة بالسمن" في صباحه، ونفاذ صبر على ثياب جديدة معلقة في مسمار على الحائط، وعيدية حاتمية من الوالدين والأهل والعشيرة، والذهاب للسينما، التي لم تكن سوى سينما " أبولو" القريبة جدا من مسكننا، -بمحادات الملاح (الحي اليهودي) عند ساحة العلويين بالمدخل الغربي لفاس الجدي- لمشاهدة أفلام نعشقها، وفي الغالب ما تكون أفلام رعب أو كاوبوي، وازدراد "ربع صوصيط " لذيذ –والله لازلت لا اعرف هل "الصوصيط " بالسين أم بالصاد؟

لا أدري لماذا تذكرت "الربع دالصوصيط " خاصة في هذا العيد الذي تتفنن فيه كل ربات البيوت في تحضير أحسن وألذ "الشهيوات" المغربية الأصيلة، ربما لأن من عادة رواد سينما "أبولو" أن يتناولوا "الصوصيط " خلال الاستراحة "لانتراكت" ..أو ربما تذكرته لما حصل لي معه في يوم عيد من أعياد ما سبق من الأعوام، التي كانت فيها للأعياد بريق مؤثر على الكبار قبل الصغار، وكان للعيديات في الجيوب رنين ووقع يملأ الأطفال سطوة وعزوة، ويدفع بهم للإنفاق والصرف مزهوين .. حيث انطلقت مزهوا، في ذاك العيد الأغر بما في جيبي من قطع معدنية ، إلى الـ"أبولو" لمشاهدة فلم a fistful of dollars لكلينت إسوودClint Eastwood .. قطعت التذكرة من تقب صغير في الحائط ..، استلم مني التذكرة "شارلوا" –كما يسميه رواد لـ"أبولو"- بزعيقه الخاص وسبابه المحفوظ لدى شباب الحي من مدمني الأبولو.. دخلت القاعة، الصادمة بروائح الرطوبة والعفن الكريهة والأشياء الأخرى الخانقة المنبعثة من كل مكان

.. انغرست في كرسي خشبي غير مريح، رفعت رأسي نحو الشاشة المهترئة قدامي مباشرة .. أنيرت الأضواء بعد زمن معلنة انتهاء العرض الأول الذي كان فلما عن حياة هرقل – للعلم، لقد كانت سينما "أبولو" تعرض فلمين – خرج جميع من في القاعة تقربا .. خرجت أنا أيضا .. وقفت عند بائع "الصوصيص" التهمت "ربيع" في طرفة عين، وراق لي أن أزيد "ربيع" ثاني، بل دفعني طعم الفلفل الحار اللاهب الذي يمنحه لذة لا تقاوم إلى المزيد من "الربوعة".

مددت يدي إلى جيبي لأدفع ثمن "الـربوعة " التي التهمت، فكانت الكارثة، إذ لم أجد في جيبي شيئا، يا الهي ماذا افعل؟ وأنا بلا نقود؟ والجرس يعلن بداية الفلم الثاني " الكاوبوي " الذي اعشقه، وصاحب "الصوصيط " ينتظر مني الدفع، وفي لحظة أنشغل المسكين بشي نقانقه وتلبية طلبات زبائنه المتحلقين حول "كروسته"، اتخذت ساعتها قراري مستغلا تكاتف غيوم الدخان التي حجبتني عنه .. تراجعت للوراء قليلا، ثم هربت راكضا إلى قاعة السينما، حيث تكومت في المقعد الخشبي غير المريح، أتابع الفلم في شره، دون أن أغفل عن مراقبة "مول الصوصيط " الذي دخل القاعة يتفرس في وجوه الأطفال بحثا عن الذين لم يدفعوا ثمن "الصوصيط".. شعرت بالخوف بل بالرعب، وأحسست بشيء دافئ يبلل سروال العيد الجديد..

ويبقى لكل عيد منها طعم خاص بما يحمل من ذكريات لا يمكن أن تنساها الذاكرة .

 

حميد طولست

في المثقف اليوم