شهادات ومذكرات

عن بعض العراقيين الذين مرٌوا بموسكو (18)

هذه الحلقة من سلسلة مقالاتي حول العراقيين الذين مروا بموسكو مكرٌسة للمرحوم مرتضى سعيد عبد الباقي الحديثي، والذي سبق لنا ان تناولناه في الحلقة رقم (6) حول موقف سفير العراق في موسكو آنذاك فاضل صلفيج العزاوي من الصورة التي كانت معلقة للحديثي على جدار السفارة العراقية بموسكو ضمن صور السفراء العراقيين السابقين كافة . العودة الى هذا الاسم ضمن هذه السلسلة سببها صدور رواية في بغداد عنوانها (حفل رئاسي) بقلم الدكتور سعد العبيدي، والذي استخدم الكاتب فيها بعض الاسماء الحقيقية في روايته تلك ومنهم مرتضى سعيد عبد الباقي الحديثي، حيث أشار المؤلف هناك الى مسألة غريبة و جديدة جدا في موضوع استدعاء سفير العراق آنذاك في اسبانيا الى بغداد مرتضى الحديثي من قبل وزير خارجية العراق .

يرتبط مرتضى الحديثي في ذاكرتي الشخصية - قبل كل شئ- بمقابلتي له بالصدفة لاول مرة في بغداد عام 1972، عندما كنت مترجما لوفد من صحفي بلغاريا في لقاء مع رئيس تحرير جريدة (الثورة) طارق عزيز في عصر احد الايام، واثناء هذا اللقاء دخل سكرتير مكتب طارق عزيز                            

واخبره بوصول السيد وزير الخارجية مرتضى الحديثي الى مقر الجريدة وانه الان متوجه اليه . قمت طبعا بترجمة ذلك للوفد الصحفي البلغاري، فاعلن رئيس الوفد رأسا انه مستعد للانسحاب من اللقاء نتيجة لذلك، الا ان رئيس تحرير جريدة الثورة رفض ذلك وقال انهم هنا حسب موعد محدد ومسبق، ولهذا طلب منهم البقاء هنا الى حين توضيح الموضوع، ودخل مرتضى الحديثي بعدئذ، وفوجئ بوجود الوفد الصحفي البلغاري، اذ لم يخبره السكرتير بذلك طبعا، وقال رأسا انه جاء بدون موعد، لهذا يرجو الاستمرار بالحوار، وجلس بهدوء في مكتب طارق عزيز ليس الا . أكمل الوفد البلغاري اللقاء (بشكل مستعجل طبعا) وخرجنا جميعا من المكتب، واخبرني الصحفيون البلغار انهم معجبون جدا بالموقف الديمقراطي والبسيط جدا لمرتضى الحديثي – وزير خارجية العراق آنذاك، وانهم سينقلون هذا الموقف وسيتحدثون حوله في الاوساط البلغارية حتما، وانهم سعداء جدا لانهم كانوا – وبالصدفة – في موقف أتاح لهم هذه الفرصة الفريدة .

النقطة الثانية - بالنسبة لي - حول الحديثي ترتبط بما حدثٌني به يوما صديقي حسين محمد سعيد الحسيني في موسكو (زميل الدراسة في كليٌة الآداب بجامعة موسكو في ستينيات القرن العشرين) . لقد كان حسين واحدا من ابرز العراقيين الذين يتقنون اللغة الروسية ويعرف اغوارها واسرارها قراءة وكتابة ونطقا وقواعدا..، اضافة الى انه مثقف كبير، ومتحدٌث رائع، ورجل مرح ومحبوب جدا من قبل الجميع، وقد عمل مترجما في السفارة العراقية بموسكو عندما كان مرتضى الحديثي سفيرا هناك، ومن الطبيعي انه أصبح المترجم الشخصي للسفير، وقد أصبحا (الحديثي وحسين) قريبين من بعضهما، بل يمكن القول انهما اصبحا صديقين بشكل او بآخر . وعندما زار نائب رئيس مجلس قيادة الثورة عزت الدوري موسكو في تلك الفترة، اخبر مرتضى الحديثي المترجم حسين محمد سعيد – سرٌا - ان ينتبه كيف سيسخر منه عند اللقاء معه، وفعلا، طرح عليه عند اللقاء السؤال الآتي – (هل أتيت الى موسكو من ألدور؟)، فقال عزت – (لا، لا، لقد سافرت الى بغداد، ومن هناك سافرت الى موسكو) . نظر مرتضى الى حسين بشكل خاطف اثناء ذلك، وفهم حسين طبعا مغزى هذه النظرة الخاطفة من سفير العراق .

تذكرت هاتين الحادثتين حول مرتضى الحديثي وأنا أقرأ مقاطع من مقالة كتبها الاستاذ خالد حسين سلطان ونشرها في موقع صحيفة (المثقف) الغراء بعنوان (ولادة في غرفة اعدام) وتحدث فيها عن رواية الدكتور سعد العبيدي الموسومة – (حفل رئاسي ...وقائع غير مروية من احداث مجزرة قاعة الخلد 1979) الصادرة في بغداد، وقد جاء في تلك المقالة ما يأتي-                          

... الرواية تخوض باحداث واقعية وباسماء صريحة ومنتحلة (حسب رغبة الشهود الاحياء ) عن ما جرى في بغداد .... عام 1979 وتصفية الخصوم والمناوئين وبحسابات واجندات غريبة عجيبة، وهو ما يعرف ب (مجزرة قاعة الخلد) .. ويأتي بعدئذ مقطع تفصيلي مكتوب باسم الحديثي يصف كيف اتصل به هاتفيا وزير الخارجية العراقية وتأكيده على ضرورة الحضور الى بغداد فورا لمقابلة الرئيس .. ثم يضيف (فاتني ان أذكر – وبعد اتصال الوزير بدقائق – وصلني تلكس من الرئيس السوفيتي بريجنيف، بعبارات محددة – (لا تذهب الى بغداد، توجه الى موسكو ضيفا عزيزا، الكي جي بي لديها علم بالتصفيات التي ستجري في البلاد )، لم أعر الموضوع اهتماما، وان أقلقني حقا ..)، ثم يشرح مؤلف الرواية بعد ذلك - كيف ان الحديثي اتصل هاتفيا بعد وصوله الى بغداد - بعزت الدوري وحامد الجبوري لجمع التفاصيل، وكيف انه ( لم يفهم منهما شيئا، وألحٌ كلاهما على ضرورة الذهاب الى الرئيس اليوم قبل الغد ..) ...وحدث الذي حدث ...

من الطبيعي انني توجهت الى الذين تابعوا كل تلك االوقائع مستفسرا عن مسيرة تلك الاحداث، لما لها من علاقة مباشرة بطبيعة مقالاتي حول العراقيين الذين مروا بموسكو، والاستفسار منهم حول صحة ما جاء في تلك الرواية، فقال لي احد ابناء المرحوم مرتضى الحديثي انه لا يستطيع ان يؤكد، ان بريجنيف نفسه ام لا قد كتب اليه ذلك كما جاء في الرواية، ولكن في اوساط العائلة يسود هذا الرأي ولحد الآن، وهو ان السوفيت قد أخبروه فعلا بعدم العودة الى بغداد لأن هناك خطر تصفية جسدية، وانهم دعوه للسفر من مدريد الى موسكو ضيفا لديهم، ولكن من هو الذي ارسل له تلك الرسالة من موسكو الى مدريد، وكيف ارسلها اليه، ولماذا توجه مرتضى الحديثي الى بغداد من مدريد وليس الى موسكو ... فانهم لا يعلمون بالتفاصيل حول ذلك .

وكم في تاريخ العراق من اسرار، ومن وقائع غريبة وعجيبة لا يمكن ان تخضع لمنطق الاحداث ومسيرتها !!!

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم